يبدو أن حادثة البوعزيزي التونسي ، والتي أججت عبد القوي الفقيه احتجاجات قوية في بعض مناطق تونس وأطاحت برؤوس كبيرة في الإدارة المحلية هناك، قد خلقت مفهوماً جديداً للرفض والاحتجاج لم تكن في حسبان أحد ، ويبدو أن البوعزيزي قد اخترع وصفةً سحرية للجيل المنهك من سياسات الأنظمة العربية التي شاخت إذا لم تكن قد ماتت بالفعل ، وعلى وجه الخصوص النظام في اليمن الذي يزداد سوء ً وفسادا ً وتأبيدا ً يوما ً بعد يوم. لم يكن البوعزيزي من قطاع النخبة (الانتهازية) ، ولا من السياسيين المخضرمين (المصفقين) ولا المعارضين (الخائبين) ، بل كان يحمل شرف المواطنة وشرف شظف العيش بكرامة. البوعزيزي كان طالباً جامعياً قرر مثله مثل آلاف الطلاب العرب المعدمين أن يبحث عن مصدر رزقه بنفسه ، لكن عربة (طاولة خضار) البوعزيزي التي كان يسترزق من وراءها لم تجد لها مكانا في شوارع بلدته، وطاردته البلدية كالعادة من زوة إلى زوة بحجة عدم استكماله خطوات الروتين العربي المعروف الذي يحترم الأوراق و الختومات أكثر مما يحترم احتياجات الشباب وتطلعاتهم، وكمواطن قرر هذا الشاب أن يشكو وبطريقة حضارية مطاردي رزقه إلى الجهات العليا التي بالأصل وُجدت من أجل خدمته والسهر على راحته. بعد أن يأس البوعزيزي من وجود أحد يفهم قضيته ، وانسد الباب الوحيد الذي كان يتمناه لكسب رزقه ، قرر أن يضع حدا لصمته واحرق نفسه في وسط الشارع ، منهيا وبشكل سلبي 26 سنة من الإحباط، ليشكل أكبر ضربة للبلدية والحكومة في تونس. وعلى إثر الحادثة خرجت المظاهرات والاحتجاجات في بلد يندر فيه حتى مجرد التفكير بالتجمع أو التظاهر. إن حادثة البوعزيزي لا ينبغي أن تمر هكذا دون استخلاص العبر والدروس لنا في اليمن حكاما ومحكومين ، وإن كانت المقارنة بين بلد كتونس وبلد كاليمن تعد ظالمة نوعاً ما، وذلك للتقدم الواضح الذي يبدو عليه الوضع في تونس وخصوصاً في مجال التعامل مع البطالة ودعم الشباب وتأمين البنية التحتية والصحة والتعليم لكل فئات الشعب التونسي، بعكس الحال في اليمن الذي ليس فيه إلى حد الآن طريقة موثوقة لقياس معدل البطالة ، وما زال شغل النظام الشاغل هو توفير مناصب ووظائف لأبناء النخبة التي تشكل الدعامة الأساسية لاستمرارية النظام، ولا يحتاج أن نتكلم عن الصحة و التعليم في اليمن لأن حالهما يدمي القلب قبل العين. تمارس أجهزة البلدية الفاسدة في اليمن كل يوم حرب شوارع ضد الكادحين الذين يطلبون الله على عرباتهم في المدن اليمنية ، وتهتك أرزاقهم باسم القانون الذي لا نعرف رأسه من أرجله ويبدأ قويا وصلدا فوق رؤوس المُعدمين والمنهكين اقتصاديا ثم ينتهي رطبا سلسا عندما تمتلأ جيوب أطقم البلدية ، وإن لم تكن لك قبيلة تهدد بها من يلقي القبض عليك ، أو سلاحا تدافع به عن مصدر رزقك هجم عليك لصوص البلدية الذين رباهم النظام خلال 33 سنة من الحكم القائم على مبدأ الفساد والإفساد. البلدية في اليمن مخولة عرفيا ودون رقيب او حسيب بمصادرة كل شيء بدأ من خيوط جيبوبك وانتهاء بكرامتك وإنسانيتك. ترى هل سيتغير الوضع بعد أن يُحرق آلاف الكادحين من أصحاب العربيات أنفسهم أمام قصر الرئاسة أو في جامع الصالح ، وهل سيرقق دخان جثثهم قلب القيادة التاريخية لمحاسبة البلدية الفاسدة وجعلها مؤسسة في صالح الشعب بدل ان تكون مؤسسة لسرقة الشعب وزيادة معاناته. ثم في ظل تغييب آمال وطموحات قطاع واسع من اليمنيين ليسوا من النخبة العائمة ولا من المعارضة النائمة، يتقدمهم فئة المسحوقين الذين يشكلون أغلبية في هذا المجتمع وفئة المغتربين ثم فئة الشباب من خريجي الجامعات والمعاهد المهنية ثم فئة العمال هل يكون الخيار البوعزيزي هو الخيار الأمثل لدعم مواقفهم الوطنية الرافضة لتأبيد الحاكم ومصادرة الثروة والوحدة في اليمن؟. قد يكون الخيار البوعزيزي سلبيا ويتعارض مع أبسط مفاهيم الصبر والكفاح من أجل الحياة المقدسة ، لكنه قد يكون سلاحاً فتاكاً حتى يصل الصوت إلى اؤلئك الذين سكنوا البروج العالية وركبوا المواكب السريعة وصدقوا الحاشية الكاذبة ، وظنوا ان "كل شيء على ما يرام يا سيدي". بينما في واقع الأمر ضجيج الصمت يشتد يوماً بعد يوم ليعبر عن موقفه.