كاتب وباحث سياسي منذ العام 1934م وخلال فترة حكم مؤسس الدولة الحديثة في اليمن جلالة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين ، أخذ النظام السياسي منعطفا جديدا بتحوله من نظام إمامي شوروي إلى نظام فردي وراثي ، كانت له أثاره السلبية في المدى القصير على حكم مؤسس المملكة المتوكلية اليمنية الإمام يحيى ، الذي تُوفي جراء أحداث ثورة الدستور سنة 1948م ، وتمثلت أثاره في المدى البعيد على حكم أسرته من بعده ، التي سقط حكمها مع إعلان ثورة 26 من سبتمبر سنة 1962م ، تلك الثورة التي تَشارك في إعلانها والدفاع عنها العديد من أطياف شرائح المجتمع اليمني ، وشكل الهاشميون ، الذين ينحدر منهم الإمام يحيى وأسرته ، عَصَب تلك الثورة ووقودها المشتعل ، ولولا حدوث عدد من المخالفات الحقوقية والدستورية مع بداية الثورة ، وحدوث عدد من التصفيات الجسدية العَبَثية في أول أيامها ، لما توسعت الأزمة في اليمن ، ولما اشتعل فتيل الحرب الأهلية بها طوال ثمانية أعوام تقريبا ، ولعاش الناس في وئام. كان ذلك قبل 47 سنة ، ولنقل قبل 40 سنة ، إذا ما أخذنا بالاعتبار سنوات الحرب الأهلية الأولى ، التي انتهت بإقرار النظام الجمهوري كنظام سياسي حاكم معترف به إقليميا ودوليا ، وتشكيل أول حكومة وطنية سنة 1970م ، وبالتالي فيمثل ذلك التاريخ ولادة حقيقية لمشروع الدولة المؤسسية ، وبداية جوهرية للنظام الجمهوري ، الذي كان من المفترض عقلا وسياسة وحكمة أن ينطلق في بحور أفاق المرحلة الجديدة من الحياة السياسية ، وأن يرمي خلف ظهره كل أزمات الماضي ومشاكله ، وأن يجعل من نفسه امتدادا فعليا لكل ما سبق من إيجابيات على مختلف الأصعدة ، أسوة بالعديد من الدول التي مرت بتجارب مثيلة ، ابتداء بالجمهورية الفرنسية التي كان لها السَّبق في تأسيس هذا النظام سنة 1789م ، ومرورا بثورة 23 يوليو ضد نظام الحكم الملكي في مصر سنة 1952م ، وثورة عبد الكريم قاسم ضد الملكية الهاشمية في العراق سنة 1958م ، وثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا ضد حكم الأسرة السنوسية سنة 1969م ، إلى غير ذلك. في تلك الأماكن تجاوز حكام جمهورياتها الحقبة الماضية بشكل سريع ، ولم يمض في بعض منها مدة سنوات بسيطة إلا وكان النظام قد نسي حقبة من سبقه ، وأسس لنفسه موقعا جديدا ، ليس بالسِّباب واللعان والدعاء على المرحلة السياسية السابقة ، وإنما بالعمل والتطوير والتقدم في المشاريع التنموية ، وتلافي الأخطاء السابقة ، باعتبار أن ثورتهم لم تكن شخصية أبدا ، بل كانت وفق رؤى وأهداف وطنية بحتة . ولهذا فلم تحبس تلك الأنظمة الجديدة نفسها في قوالب الماضي الفكرية والسياسية ، ولم يجعل قادة كل تلك الأنظمة من أنفسهم أعداء شخصيين لأشخاصٍ سبق حكمهم ، بل حرصوا أن يضعوا أنفسهم في خانة طبقة المجددين والمصلحين ، ومن هنا كان وعي كل تلك الأنظمة في التعامل مع موروث الحقب السالفة بكل حضارة وحكمة وتعقل ، لتصبح مختلف تلك الحقب السياسية بحضارتها وتاريخها ، بموروثها الفكري والمعماري ، وسيلة وطنية لتنمية القدرات الذاتية ، وتطوير البنى التحتية. والشواهد على ذلك كثيرة ، وليس مجالنا حصرها ، ويمكن لأي سائح مراقب أن يرى ذلك بوضوح ، فما منا أحد إلا وقد زار بإعجاب قصر فرساي ومتحف اللوفر وغيرها من أوابد الحضارة الفرنسية ، التي تعود بتاريخها إلى الحقبة الملكية ، وكذلك الحال في مصر التي تزخر بالكثير من الشواهد الحضارية العائدة إلى فترة حكم أسرة محمد علي باشا ، وإلى آخر ملوكها وهو الملك فاروق ، بل أكثر من ذلك ، حيث أننا لم نلحظ أي ازدراء أو تحقير لما سبق من فترات سياسية على الصعيدين الفرنسي والمصري وكذلك العراقي والليبي ، حتى أنه ليُخيَّل للكثير بأن ثورة مصر وليبيا قد قامتا ضد الاستعمار البريطاني والإيطالي ، وأن ليس للخديوية المصرية أو الملكية السنوسية أي علاقة بهما ، وهو ما يمكن ملاحظته في تجاهل هذه الأنظمة لهما خلال احتفالاتهما السنوية بأعياد ثورتهما. في تلك الدول يمكنك كمواطن أن تذكر بافتخار مختلف المراحل السياسية السالفة ، ويمكنك أن تشهد الكثير من الأعمال الكتابية والمسرحية والدرامية ، التي تتحدث عن مظاهر وطبيعة الأحوال السياسية والثقافية والحضارية للمراحل السالفة بشفافية عالية ، ودون تحيز أو إسقاط له أهدافه الخاصة ، فالمسألة بالنسبة لهم ليست شخصية ، وإنما هي قضية وطنية ، وهم أحد أركانها ، وبالتالي فليس من الحكمة والإنصاف تجذير فكرة القطيعة المعنوية مع الماضي ، فمن لا ماضي له لا حاضر له أيضا ، كما أن بناء الأمم لم يكن في يوم من الأيام مبدؤه من الصفر ، وإنما هو فعل تراكمي تَحْمله المجتمعات بعضها فوق بعض . في تلك الدول أصبح الحديث عن الماضي من التاريخ ، فلم يعد أحد من السياسيين يَجتَر أحداثه ، ولم يعد أحد يعمل على تحميل خصومه أوزاره ، أو يقوم بمحاربتهم استنادا عليه ، باختصار فقد تجاوز الكل تلك الحقبة ، ورموها خلف ظهورهم ، ورفضوا أن تكون شماعة تعلق عليها كل الأخطاء ومظاهر الفساد السياسي والاقتصادي والتعليمي والثقافي ، إلى غير ذلك. أما في اليمن فالأمر مختلف تماما ، ذلك أنه وبعد مرور 47 سنة واختفاء كثير من أجيال مرحلة حكم المملكة المتوكلية اليمنية ، وولادة أجيال عديدة لا تعرف ذلك الحكم ، ولم تعش فيه ، إلا أن أركان السلطة السياسية والإعلامية ما تفتأ تكرر اسطوانتها المعروفة بأن الثورة قد قامت لتحرير اليمن من عهود التخلف والإمامة الكهنوتي ، الذي حكم البلاد والوهاد عدة قرون ، كان الشعب اليمني بحسب رؤيتهم راضخا مستضعفا جاهلا ، وكان الأئمة يَسومونهم العذاب ، ويُكرسون فيهم مراتع الجهل والتخلف ، وعاش اليمن قرونا من الظلام ، لم يكن فيه أحد من العلماء ، ولا برز فيه أحد من الأدباء والشعراء ، ولا قامت فيه كذلك أي نهضة علمية أو حضارية ، وكان اليمن خلالها خُلُو من العلماء المفكرين أمثال السيد محمد بن إبراهيم الوزير ، والسيد محمد بن إسماعيل الأمير ، والقاضي العلامة محمد بن علي السماوي ، والقاضي العلامة محمد الشوكاني ، والكثير من العلماء والأدباء من آل الإرياني ، وآل الأكوع ، وآل الشماحي ، وآل السياغي ، وآل الآنسي ، وآل العمري ، وآل الحجري ، وغيرهم من الأسر العلمية المشهورة من شريحة طبقة القضاة ، ناهيك عن الكثير من الأسر العلمية الهاشمية. هكذا بكل بساطة يمكن أن نمحي في اليمن تراث أسلافنا لمجرد استهدافنا الشخصي لنظام الحكم السابق ، ولم نكتف بذلك بل عمدنا إلى تعميم إشكالنا مع مرحلة تاريخية تعود إلى 1100 سنة من تاريخ اليمن ، إذ أصبحت المشكلة ذات بُعد زماني توالى فيه الأئمة الكهنوتيين من شريحة الهاشميين ليحكموا أبناء اليمن وأقياله العظام بالعسف والجور ، وهو أمر لا يرفض تعاطيه كل يمني حر غيور على تراثه وماضيه ، معتز بحكمة وعظمة أسلافه وحسب ، وإنما يأنف من قبوله الهاشميون أنفسهم ، الذي عاشوا حياة كريمة متجانسة مع اليمانيين من مختلف الشرائح الاجتماعية ، كانوا فيها كالجسد الواحد خلال مختلف الظروف والمحن ، فبنوا متعاضدين حكما شورويا عادلا. غير أنه و مع تغير نظام وآلية الحكم في دولة الإمامة الزيدية ، حال انحرافها عن المسار الجوهري لنظام الإمامة ، القائم على اعتماد الشورى منهجا ، وعدم توارث السلطة سبيلا ، وذلك إبان حكم الدولة القاسمية خلال القرن الثالث عشر الهجري الثامن عشر ميلادي ، وصولا إلى فترة حكم المملكة المتوكلية اليمنية (1904 – 1962م) ، فقد أخذت قواعد ومظاهر حالة الاجتماع السياسي في التغير تدريجيا لصالح فئة محددة داخل كل شريحة ، لتتشكل موازين القوة للطبقة الحاكمة من بعض شريحة الهاشميين ممثلة بالملك الإمام وباقي أفراد أسرته ، بالتحالف مع بعض شريحة القضاة ممثلة بعدد من الوزراء والمستشارين ، الذين أخذوا على عاتقهم تسويغ مختلف القرارات والتشريعات الإدارية للحاكم ، وقاموا بتسيير دفة الحكم الاستشاري والتشريعي في البلاد ، يدعمهم جميعا بعض من شريحة القبائل المشكلين لُبَّ القوة التنفيذية العسكرية لنظام الحكم. ذلك كان جوهر آخر حقبة سياسية في اليمن، وتلك كانت سمات الحكم فيه، وبالتالي فليس من الإنصاف أن نَزجَّ بشريحة كاملة في أتون الصراع الحارق حاليا ، بتهمة الرغبة في إعادة نظام الإمامة ، على الرغم من عدم وجود أي دليل مادي محسوس على ذلك ، وليس من الحكمة أن نُدمر ذاتنا وتاريخنا وماضينا ، لنُبرر ما نعيشه من إخفاق على مختلف الأصعدة السياسية والحوارية ، والأهم أنه ليس من الصواب السياسي أيضا أن يقوم أركان النظام الجمهوري بترسيخ مضمون مشروع حقبة سياسية سالفة ، وهو النظام الإمامي ، على المَلأ صباح مساء ، وفي كل وقت وحين ، إلا أن يكون ذلك لحكمة خافية ، القصد منها أن تظل مسامع كل اليمانيين ومسامع أبنائهم وأحفادهم مُرتبطة ، ولو بشكل ظاهري له أبعاده الوجدانية ، بلفظة ونظام الإمامة ، وهو ما يستحق عليه النظام الجمهوري ، من الأصحاب الغيبيين لهذا المشروع ، كل الشكر والثناء.