العام الماضي 2010م أصدر الباحث اليماني وضاح عبد الباري طاهر كتاباً أسماه ( العلماء والاستبداد ) ، ومن العنوان يمكن معرفة أن الكتاب ذو قيمة عالية ، فهو يناقش فكرة ثرّة وثيقة الصلة بحركة التاريخ من جهة وعلاقة الحاكم بالواعظ من جهة أخرى . الباحث يتجاوز في كتابه فكرة بيان العلاقة بين الحاكم والواعظ أو ( العالِم مجازاً) ليحاول حثيثاً من خلال البحث والتتبع والرصد التاريخي إثبات تلاشي جدلية الديني والسياسي محاولاً إذابة الفوارق القائمة بينهما من خلال الاستشهاد بلسان حال رجل الدين الذي ينطق بالسلطان والسلطان المستبد الذي يحتج بالقرآن. لا غرو أن يصدر مثل هذا الكتاب المثير للجدل لباحث يماني تهامي هو نجل الأستاذ عبد الباري طاهر إبن المراوعة المثقف الذي جادت به قريحة مدرسة الاعتدال الأشعري في زبيد . ولذلك سنجد المؤلف الوضّاح ينعت بعض الفقهاء القدامى والمعاصرين المعتمين ب "علماء السوء الفاسدين" الذين هبّوا لنجدة السلطان ووقفوا بجواره في خندق الاستبداد والظلم والطغيان ضد الإنسان المسلم وقضاياه العادلة وحريته وتطلعه للعيش إنساناً حراً كريماً ، فيصدرون له الفتاوى الكهنوتية التي تبيح قتل المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم . في اليمن لطالما تم استخدام الورقة الدينية لمصلحة الحاكم وبصورة حاسمة ، واليوم تحدث مفارقة عجيبة في هذا الاتجاه سنأتي على ذكرها . تاريخياً وعقدياً .. الدولة الزيدية قائمة على أساس ديني في الأصل ، وينضوي الفكر الزيدي ضمن الدائرة الشيعية بالرغم من قربه إلى الشافعية ومذاهب السنة الثلاثة الأخرى ، والزيدي معتزلي عقائدياً ، وعليه فهو يؤمن بالحُسن والقبح العقليين وليس الشرعيين ولأجل ذلك وغيره من عقائد المعتزلة يتمتع بفسحة أوسع من النظر والاجتهاد ، وقد ضمّ هذا المذهب أو الفكر في شروطه الأربعة عشرة للحكم شرطاً صارماً يتمثل بالخروج على الظالم بالسيف .. ولئن كانت الهوة بين التنظير والتطبيق غالباً محل إرباك فإن هذا الأمر بقدر ما واءم بين الديني والسياسي أدخل الدولة الزيدية في إحدى عهودها ما قبل الإمام يحيى بن حميد الدين في صراع مفتوح فظهر في وقت واحد عدة أئمة لا يتسابقون فقط على شروط الإمام بل على شرط الخروج على الظالم بالسيف على نحو خاص ، وكلهم يريد إلى الحكم سبيلا لدرجة أن نكتة في هذا المقام تداولها بعض المؤرخين بأنه في عهد تعدد أئمة الزيدية وخروج إمام على إمام تحت بند الخروج على الظالم كان أحد الميسورين يبحث عن "خادمة" لمنزله ولم يجد ، فلما سأل أحد الوجهاء أجابه بالنفي وأردف إلا إذا كنت تريد إماماً فما أكثرهم ، في هذه الدولة بالذات يتماهى الديني بالسياسي ( الحاكم ) ليصبح شيئاً واحداً وعليه فهو في غنىً والحال هذه -في أي مقام- من فتوى دينية يحشد لها فقهاء لا يبلغون مبلغه من العلم والقدرة والحكمة والشجاعة والورع والتقوى ووو ... إلخ . هذا كله ما سيحتاجه الشاويش الحاكم الذي يفترض أنه ينتمي إلى المذهب الزيدي وفقاً للجغرافيا الحاشدية في وقت لاحق من انقضاء أجل الدولة الزيدية ، عندما يتسنّم هرم السلطة في غفلة من الزمن وبإرادة وهابية لا علاقة لها بالزيدية ولا الشافعية ولا الإسماعيلية . ومادمنا قد تجمهرنا وسبقنا أرحب إليها ، فكان علينا أن نتعايش مع هذا الشاويش الذي لا يفقه أبسط الأحكام الإسلامية لثلاثة وثلاثين عاماً لنصل إلى مرحلة قصف أرحب اليوم التي هي الأخرى لم تُعد زيدية وإمامية/ ملكية ، أو على الأقل هكذا يُقال ، وهذا هو معنى أن التاريخ لا يعيد نفسه ولكن قد يتكرر بشكل مختلف . تاريخ العلاقة بين الحاكم والواعظ أو "العالم" طويلة وضاربة في التاريخ الذي لا يعيد نفسه .. فمقولة أن التاريخ يعيد نفسه مقولة خاطئة ، لأنه ليس حلقة مفرغة بل وجود سيّال لا يمكنه الرجوع إلى الوراء وإن كان موضوعه الأساس هو الإنسان الذي يتغير هو الآخر بتغير الحوادث ، وانبساط الزمن الذي يمتاز بحركة مستمرة كنهر زئبقي متدفق بحسب تعبير د. محمد عابد الجابري . على أن كل هذا لا ينفي التشابه بين بعض الحوادث التاريخية مع اختلاف الأدوار والشخوص ( أرحب المشار إليها آنفاً أنموذجاً ) . يرى د. الجابري أن المعروف في علم منهجية التاريخ إن ما يميز الحادثة التاريخية عن الحوادث الطبيعية والاجتماعية هي إنها حادثة فريدة لا تتكرر مقيدة بزمانها وظروفها تماماً، وأنّ التشابه في الحوادث التاريخية ليس هو من قبيل التشابه الذي يجعل منها أشباهاً ونظائر يمكن قياس بعضها على بعض ، ويصل إلى إنّ لكل حادثة تاريخية ظروفها وملابساتها، أسبابها و فرادتها، ولذلك يسميها بالحوادث "الوحدوية" . الأسبوع الماضي حدث شيء آخر غريب له علاقة بعودة التاريخ مع عدم التشابه.. علي عبد الله صالح الأحمر العائد لتوه من السعودية التي أصدرت فتوى بتحريم المظاهرات جمع الوعّاظ في محفل ليلوّح بإعادة التاريخ ولكن مع الاختلاف كما أشرنا .. الاختلاف هنا مثير فوعاظ الأمس انقسموا على أنفسهم ، ومن استعان بهم علي صالح في فتوى التكفير و القتل والتدمير إبان حرب 94م ، ومن شاركوا بالوعظ التبريري في حروب صعدة الست ، بل والتحريض وفقاً لأجندة مذهبية إقصائية يقفون اليوم في مواجهة مع علي صالح الذي حشد لهم وعاظا آخرين يسومونهم سوء الفتوى ، ليتجرع الوعاظ كأس الوعظ المُر .. ليس الأمر بهذه السهولة بكل تأكيد لأن المستهدف الحقيقي لايزال هو الشعب واليوم فئة الشباب الثائر الذي يُراد له أن يتحول دروعاً بشرية لصراع السلطات الثلاث العسكرية والدينية والقبلية .. هذا ما يدفعني لاستحضار النظرة التشاؤمية لحركة التاريخ وما يسميها المتشائمون ( الوجهة الاستردادية ) وهي رؤية مردها إلى ( هزيود )الذي تُنسب إليه نظرية ( نكوص التاريخ ) ومفادها أن الإنسان بدأ بالتدرج من الأفضل إلى السوء فالأسوأ .. من الذهبي إلى الفضي إلى الحديدي إلى النحاسي إلى الترابي ، أي أن الماضي دائما أفضل من الحاضر وأفضل من المستقبل .. لستُ ممن يتبنون هذا الموقف من حركة التاريخ ، ولكن بعض مظاهر هذا الموقف الفلسفي تحضر بقوة في لحظة ما ، لتكون تعبيرية عن تشابه الوقائع التاريخية ، وليس بالتأكيد التعبير عن أن التاريخ يعيد نفسه . الوعاظ الذين قدموا الفتوى لعلي صالح في حرب 94م بطبق من نفاق ، ومارسوا الوعظ بغية قتل الجنوبيين ، واحتلال وطنهم وسلب دولتهم عليهم أن يدركوا حقيقة أنّ فتواهم تلك ووعظهم ذاك كان لبنة تأسيسية لصدور الفتوى الأخيرة من الوعاظ المتأخرين ، فهو - أي الحاكم - وهم - أي الوعّاظ الجدد- استفادوا جميعاً من وعظ السابقين والعامل المشترك هنا أن الحاكم هو نفسه لم يتغير ليكون شاهداً على فتوى 94م وفتوى 2011م . كل هذا التشاؤم الذي وضعتني فيه سابقاً فتوى 94م ولاحقاً فتوى 2011م لا يمنعني من النظر إلى المستقبل بتجرد . هذا الأمر يجعل من هذا المقال امتداداً لمقالي في عدد الأسبوع الماضي من اليقين ، بعنوان ( نحو دولة علمادين في اليمن ) ذلك لأن البحث عن شكل الدولة المستقبلية الآتية له من الأهمية ما تجعل الثائر في الميدان والمثقف الخلاق الذي يعكف على صياغة ومقاربة الرؤى للدستور وشكل نظام الحكم عنوانين بارزين لثورة التغيير . وسواءًا اخترنا فصل الدين عن الدولة أم اخترنا أنموذجاً خاصاً يمكن أن يحقق دولةً عصريةً لكل اليمنيين يبقى من المهم التأكيد على أن الناس وفق تصنيف الإمام علي بن أبي طالب ثلاثة : ( عالم رباني ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رُعاع أتباع كل ناعق ) .. إنه إذاً تقسيم منطقي يكفي لأن يكون مانعاً من إدخال كل من شارك في فتوى 94م وفتوى 2011م في حقل العلماء ، إذ لا يمكن لعالم رباني أن يُفتي بقتل النفس المحرمة بأي حال من الأحوال ، وإلا لكان الإمام علي قد قال بأن ثمة (عالم غير رباني) ، و فوق ذلك لا يمكن تصنيفهم في حقل المتعلمين على سبيل النجاة ، إذ من يُصدر فتوىً تجيز قتل النفس المحرمة بأي حال من الأحوال لا يمكن أن ينجو من العقاب . إذن .. لم يتبق لدينا سوى تصنيف أخير هو ( الهمج الرعاع أتباع كل ناعق ) ، وهذا لا يعني أن اليمن تخلو من علماء ربانيين أو متعلمين على سبيل النجاة ، ولكنهم بالتأكيد ليس لهم في فتوى 94م (ناقة) ولا في فتوى 2011 م (جَمَل) . [email protected]