كانت الكتابة الصحفية- منذ البدء- تنفيساً سلبياً لرواسب القهر اليومي الذي ينهش أضلاع الرعايا.. كانت الأقلام الناطقة باسم المقهورين- في أشرف حالاتها- مجارير صرف غير صحي لاحتقانات الحلوق والرئات المتقيحة.. كان سقف الحرية في أعلى مستوى له، لا أكثر من ملاذ غير آمن، للدماء اللائذة بقناني الحبر، فراراً من نصال جنابي الإقطاع والسواطير والجياتر.. كانت الكتابة مقلباً افتراضياً يتصدى لاستضافة نفايات بلد، وكان يتحتَّم أن تنشأ ملاذات موازية وقنوات ومقالب تستثمر أفواج المتدافعين على صحف الكلام، في ساحات الفعل. كان يتحتَّم أن تتحول الكلمة إلى بصقة، والألسنة إلى خناجر، وشكاوى الشحاذين إلى بيانات إعدام، والغصص المتراكمة في الحلوق إلى "مولوتوف"وأعيرة نارية وعبوات ناسفة تحت مواكب الدهس الرشيد ومداميك قصور وأبراج المسوخ. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فالنخب السياسية المعارضة التي تعشمنا لبرهة تفاؤل، أن تسند حركة الناس، عقدت قرانها التوافقي بالسلطة، وأفقنا على كمَّامات القمع ومكائن الخرس تخيِّط الشفاه وتوصد مقالب الثرثرة، وفقدنا القدرة حتى على كتابة المناشدات والشحاذة البلاغية، والطبطبة الذليلة على أكتاف المسوخ المستريحين فوق أبسطة من جلود الآدميين. ينبغي أن ننبش في أدمغتنا عن مخازن الذخائر لا الكلمات.. أن نقتصَّ لقهرنا وضعفنا بوسيلة أخرى سوى القلم الأبله، وسيلة أكثر جدوى، تعفينا من عذاب سماع الحشرجات المؤمنة بنا.. جرَّدتنا السلطة من أظافرنا اللغوية الناعمة.. جرَّدتنا من مناديلنا الصحفية التي نواسي بها دموع المستضعفين.. أشعلت النار في مضارب قبيلتنا الورقية الهشة، وهدمت حائط المبكى على رؤوس ملايين المؤمنين بمعجزة الكلام. في الأثناء واصلت ((قبائل الميري)) زحفها الجنائزي الشبق على آخر موضع نبض في جثة المدنية، وتبوَّلت على آخر الأدمغة الحالمة بالحداثة. إن الرصاصة الميري التي يُقتطع ثمنها من خبز أطفالنا الشحيح، لا تحمينا.. وينبغي أن تكون لنا رصاصتنا التي ليست في جيب أحد، وصرختنا التي ليست لأحد. لنا قضايانا التي لا تصطدم بقضايا الوطن، وللوطن قضاياه التي ينبغي ألَّا تقوم على أنقاضنا وتتجاوز وجودنا الخاص، بذريعة الثوابت العامة. ما من مكافأة على صمتنا سوى المزيد من الدهس.. واللحظة مواتية لأن نصرخ.. وأن نكون، وأن ننحت بأظافرنا وطناً يليق بنا...وطن خالٍ من مراكز القوى المكبلة بعطايا "الديوان الملكي" ومن معارضة ونخبة تعتاش بتملُّق "هبات العالم الحر وصناديق الإقراض" تحت مكيفات فنادق الخمسة نجوم.