عاد الحديث مجدّداً خلال الأسبوعين الأخيرين، عن اقتراب موعِد نقْل السلطة في اليمن، بمُوجب بنود المبادرة الخليجية. ومنذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2014، الذي اعتبر تلك المبادرة الأساس المرجعي للحلّ السياسي في اليمن، تزايدت حظوظ التسوية السياسية، وِفقاً للصيغة التي اقترحتها المبادرة الخليجية، وأثيرت وما زالت العديد من التساؤلات حول الآفاق السياسية للمرحلة القادِمة وحول مواقِع اللاعبين فيها، خاصة أن المؤشرات تتّجه إلى الخروج بصيغة توزّع فيها السلطة مناصفة بين الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام والمعارضة، ممثلة بأحزاب "اللقاء المشترك". وطِبقاً للمقدِّمات الأولية، تقوم التسوية السياسية على تقاسُم الحقائب الوزارية بين الحزب الحاكم والمعارضة، بواقع 50% لكل منهما، دون التطرق إلى فئة المستقلِّين، الذين يشكِّلون نِسبة كبيرة وسط الثوار اليمنيين، والذين رفضوا منذ وقت مبكّر اختزال الثورة إلى صِراع بين النظام وبين أحزاب اللقاء المشترك وجَرِّها إلى كواليس المفاوضات السياسية، بُغية الخروج بتسويات تتجاهل أهم مُكوِّنات الثورة من الشباب المستقل.
تجاهل لبعض قوى الثورة هذه الفئة ظلت على مدار الفترة الماضية أسيرة لابتزازيْن: الأول، أن النظام سعى بقوة منذ البداية إلى تحويل الإحتجاجات والإنتفاضة الشعبية إلى مجرّد صِراع، من جهة بينه وبين أولاد الشيخ الأحمر والقائد العسكري المنظم للثورة اللواء علي محسن، واللقاء المشترك من جهة أخرى، وتجاهل بقية مكوّنات الثورة. الإبتزاز الثاني، أن التحالف الحِزبي العسكري القبَلي، الذي حاول النظام حصْر صراعه معه، عمل بدوره على فرْض هيْمنَته على الساحات في محاولة منه أن تظهر بلوْن واحد، وتم تجاهل القوى السياسية الأخرى غيْر المحسوبة على تلك الأطراف، التي سعت ولا تزال إلى أن تنفَرد بتسوية سياسية مع النظام، يُتيح لها قطف ثِمار الثورة، وبطريقة يُخشى من أن تنعكِس سلباً على تحوّلٍ ديمقراطي حقيقي لا يُقصي أحدا.
انتقادات ومخاوف وفي الواقع، يمكن القول أن مكَوِّنات تلك القوى بشقّيْها، الحاكم والمعارض، ليس في رصيدها السياسي ما تطمَئِن له بقية الأطراف السياسية الأخرى، لاسيما لجهة التِزامها بالنهج الديمقراطي وبالدولة المدنية الحديثة، إذ أن جميعهم أصحاب مشاريع أيديولوجية بمرجعيات شعبوية وطنية دينية وقومية، أو أن مواقِفها من تلك المطالب، يشُوبها الغموض. وعلى مدار الفترة الماضية، أي منذ انطلاق الربيع اليمني، تتعالى في الساحات انتقادات، خاصة من قِبل المستقلِّين لِما يعتبرونه تحفُّز مناطق وقبائل وأسَر وأحزاب، لحصاد جهود الثوار الحقيقيين، منذ أن نصبت القوى المُهيمنة على الساحات نفسها، كمُعبِّر عن الثورة ومُفاوض باسمها، ويتّهمونها بأنها ارتكبت أخطاءً فادحة بالمُساومة على الثورة ومقايَضتها، فيما هي مجرّد طرف، وليست الثورة كلّها، وفقاً لما ورد في الرُّؤى والتصوُّرات التحضيرية لعديد من المكوِّنات والإئتِلافات في الساحات الساعية إلى بلوَرة مشروع سياسي مُوازٍ للرُّؤية، التي قد تتمخّض عن توافُق الحزب الحاكم والمعارضة.
كيان لاستيعاب المستقلين؟ وفي الوقت الراهن، تشهد الساحة اليمنية تحرّكات وجهود حثيثة، تقودها العديد من الفعاليات المدنية والحقوقية والسياسية المستقلة، بُغية خلْق كِيان يستوعب المستقلِّين، الذين يشكِّلون الأغلبية المسقطة من حسابات السياسيين المُحترفين، كما عبَّر عن ذلك عبد السلام جابر، عضو اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني المستقل، لشباب الثورة. وفي تصريحات ل swissinfo.ch قال جابر: "الخطوة أتت بعد مشاورات بين العديد من التكتُّلات والائتلافات للثورة، وهي محصلة طبيعية لتجاهُل المستقلين من قِبل اللاّعبين السياسيين التقليديين في النظام المتهاوي من جهة، ومن قِبل أحزاب اللقاء المُشترك. فهؤلاء تجاهَلوا القِوى المؤثِّرة والفاعِلة للمستقلِّين، الذين كان لهُم قصب السَّبق في إشعال فتيل الثورة"، فهم، على حدِّ تعبيره، أول مَن خرج إلى ميادين الاحتجاجات، ثم التحَقت بهِم أحزاب المعارضة والقِوى العسكرية والقبلية، لكن الملاحَظ اليوم، حسب جابر: أن هذه القِوى تحتكِر المشهديْن، الثوري والسياسي وحتى الإعلامي، إذ أنها من جهة، تحاول السيطرة على مكوِّنات الساحة وفرْض رُؤيتها، ومن جهة أخرى، تخوض حواراً سياسياً يَرمي إلى تحويل الثورة إلى مطية للوُصول إلى تسويات سياسية بينها وبين النظام، من دون أيّ ذِكر للمستقلِّين ولا الانتصار لأهدافهم في ملاحقة المُجرمين والقَتَلة. هذا الوضع - كما يوضِّح جابر - "حتَّم على المستقلين أن يُعيدوا ترتيب أوراقهم وتحديد مواقِعهم بالشكل الذي يتلاءَم مع حجْمهم وامتدادهم الوطني"، مشيراً إلى أن المجلس الذي يسعى المستقلُّون إلى تشكيله، لن يكون مُنافساً للمجلس الوطني التّابع للمشترك الذي أعلِن عنه في أغسطس الماضي، وإنما سيكون رافداً إضافياً للعمل الثوري، وهو قادر على طرح خطاب واعٍ ورُؤية مستقبلية تعبِّر عن تطلُّعات النسبة الغالبة في المجتمع، على اعتبار أن الشباب قوى متجانِسة، وهو ما تفتقِر له الأحزاب السياسية التي لا يمكن أن تنتج حلولاً، لأنها كما يقول جابر: "كانت جزءاً من النظام وشريكاً له في إنتاج كل مآسي وسلبيات الحياة السياسية، التي أفضت إلى الثورة الشعبية التي لم تُؤطِّرها لا الأحزاب السياسية ولا المحترِفين الثوريين".
وخلص جابر إلى القول بمرارة "نعيب على بعض القنوات الفضائية تجاهلها لوقائع المؤتمر التحضيري للمجلس المستقل الذي عقد يوم الأربعاء الماضي (2 نوفمبر 2011) في ساحة التغيير بصنعاء، وهذا التصرّف في نظر شباب الثورة غير مِهني وانحياز من قِبل تلك القنوات لطرف ضدّ طرفٍ آخر".
طريق ثالث.. يتبلور في سياق متصل، تُعدّ هذه التحركات وغيْرها، في نظر المراقبين والمتابعين للشأن اليمني، بمثابة مؤشر على بداية تبلوُر طريق ثالث يُجانب التسوية التي قد تفضي إلى تقاسمٍ سياسي بين الأطراف التقليدية، وإلى تجاهُل بقية الأطراف الأخرى. عبد الغني الأرياني، الرئيس التنفيذي لتيار الوعْي المدني وحُكم القانون الذي أعلن عنه مؤخراً في العاصمة صنعاء من قِبل مجموعة من الفعاليات الحقوقية والمدنية، واعتبر علامة من العلامات، تشكِّل الطريق الثالث في تعليقه على تلك الخطوة، حيث قال ل swissinfo.ch: "بداية، الحاجة إلى طريق ثالث أصبحت بيِّنة، وهناك كثيرون يسعون إلى بلوَرة الطريق الثالث، لكن نحن في (تيار الوعي المدني وحُكم القانون)، لا نقدِّم أنفسنا كطريق ثالث، لأننا لسْنا حزباً سياسياً، وإنما مجموعة ضغطٍ سياسي مُتواجدة في تكتُّل أحزاب اللقاء المشترك المعارض وفي الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام وفي أوساط المستقلين، وما نمثِّله هي المطالب الشعبية بالديمقراطية الحقيقية، ولا نتَّخذ موقفاً، لا ضد هذا ولا ضدّ ذاك، ونرى أن الصِّراع بين الطرفيْن سيؤدّي في نهاية المطاف، إلى الإنتقال السِّلمي الآمن للسلطة. ومساعينا، أن نكون جاهزين للعمل على بناء الدولة المدنية بعد ذلك الإنتقال، ولا نركز جهودنا على العملية السياسية أثناء الانتقال".
التهميش يثير المخاوف وحول المخاوف من أن تؤدِّي محاولات التسويات الجارية إلى عوْدة هيمنة القِوى التقليدية على الدولة اليمنية، قال الأرياني: "بطبيعة الحال، الخوف من أن تُعيد القوى التقليدية بسْط نفوذها على الدولة المنشودة، يبقى قائما، لاسيما لجهة إعادة اختِراع نفسها وإعادة صياغة العقد الإجتماعي، وبما يفضي إلى التركيبة نفسها التي عمِلت على تهميش العديد من فِئات ومكوِّنات المجتمع، مثلما حصل في الجنوب وفي اليمن الأوسط، وفي صعدة شمالاً، وتهميش المجتمع برمَّته، وكلها ناتجة عن تهميش المواطن الفرد الذي يجب أن يكون الفاعِل والمقرّر للعملية السياسية، وهذا التهميش ارتكبته القِوى التقليدية التي لن يُسمَح لها أن تعيد تشكيل نفسها، إلا في ضوء مُعطيات ومحدّدات التغيير، التي ستفرزها مرحلة ما بعد الربيع اليمني". يبدو أن التحركات التي بدأت تعتمل في الساحة السياسية اليمنية، لم تأت من فراغ، بل نابعة من تراكُمات طويلة الأمد، يعود بعضها إلى التجارب اليمنية المَريرة في الحياة السياسية، وبعضها الآخر، يعود إلى الأشهر القليلة الماضية من عمُر الثورة الشعبية وما أحاط بها من نزاعات استحواذية من قِبل بعض القوى الساعية إلى السيطرة على الساحات، وتغييب الأطراف الأخرى. والملاحظ اليوم، أنه إذا كان هدف إسقاط النظام قد وحَّد كل الفعاليات الاحتجاجية في جبهة واحدة، فإن تجاهل بقية المكوِّنات الثورية، مثل المستقلين والحوثيين والحراك الجنوبي وغموض المواقف من قضايا الديمقراطية الحقيقية والدولة المدنية والعدالة، قد يؤدّي إلى انقسام تلك المكوِّنات قبْل تحقيق ذلك الهدف، ما لم يصار إلى طريق ثالث يأخُذ في الحسبان بقية الأطراف، خاصة أن التاريخ السياسي اليمني حافِل بالتهميش والإقصاء.