مضى صاحبي واستخلف البث والأسى عليّ، فلي من ذا وهاذاك صاحبُ عجبت لصبري بعده وهو ميت وكنت امرءا أبكي دما وهو غائبُ على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائبُ ومن عجائب هذه الأيام أن يقال للقتيل: "هنيئا لك"! يهنئونه لأنه فاز بالجنة، فماذا سيقولون لأهله الذين كانوا ينتظرون عودته من المسجد؟ وماذا يجب أن يقال لشعب بأكمله، يرى سكاكين الإرهاب تذبح الجنود، ودرّاجات الموت تتصيد الأبرياء؟! لم يكن (الدكتور محمد عبدالملك المتوكل) بحاجة ليعمّد بالدم كي يسمح له بتجاوز عتبة الجنة؛ لأن أبوابها مفتوحة له ولأمثاله من المفكرين المخلصين والمخلّصين. لقد خاض في وحل السياسة وذاق طعم السلطة، لكنه لم يصر عبدا مهووسا بالتسلط وباستعباد الناس. عندما نقول للفريسة هنيئا، فماذا نقول للصياد، ولمن منحه رخصة القتل وأصدر له الفتوى، وحصنه بالعمى لكيلا يرى وجه الحقيقة؟ هل نشكره لأنه حرر (أبا ريدان) من همومه، وأراحه من اجترار الخيبات؟! لأنه وفر عليه آلام الشيخوخة؟! أم لأنه ساعده على تخطي البرزخ المرعب بين الحياة والموت؟! أو ربما أن القاتل يستحق الشكر لأنه وضع اسم ضحيته في صدارة عناوين الأخبار ؟! سيقال إن ذلك القاتل التعيس أهدى إليه الشهادة.ومن قال إنه لم يكن شهيدا قبل أن تثقب جسده رصاصتا الغدر؟! لقد حاولوا اغتياله مرة، وقتلوه من قبل مرات ومرات.كما أن أي إنسان يعيش في هذه البلاد نظيف اليد من أموال الناس ودمائهم، فهو شهيد.شهيد مادام لم يتحول إلى حيوان مفترس أو حشرة ضارة؛ مع أنه يذوق عنف القتل كل يوم. إننا ننكر الهزيمة وهي ماثلة أمامنا في أبشع صورة.نتجاهل الشعور بالعجز عن لجم العنف وإسكات آلات القتل، ونحوّل كل انتكاسة مخزية إلى انتصار مزيف. وأية هزيمة أكبر من بقاء القتلة طلقاء، وبقاء التهديد بسقوط المزيد من الضحايا حيا، رغما عن كل الأصوات الداعية للسلام، والباحثة عن دولة قادرة على حماية مواطنيها؟ من يهنئون الضحية، إنما يزينون الفاجعة ويزخرفون المصيبة، على مذهب أكثر شعراء العربية الذين يمجدون الموت والشهادة، وكأنهم يعيدون ما قاله (ابن قيس الرقيات)، مخاطبا جثة (مصعب بن الزبير) المعلقة على الصليب: "علوٌّ في الحياة، وفي المماتِ"!! في هذه الفترة القاسية من تاريخنا، لا ينبغي أن نستلذ الحديث عن بطولة الموتى.و(فلسفة الدم الذي يهزم السيف) ليس هذا وقتها، فلم ينتصر بمقتل المتوكل إلا الجهل، وهو من يجب أن يقال له هنيئا. هنيئا لأنه لا يزال الملك المتوّج في هذا الوطن.هنيئا لأن جنوده يفعلون ما يريد وما يريدون، غير آبهين بأجهزة الأمن المعطلة، ولا باللجان الشعبية، ولا لجنة العقوبات ..ولا يلقون بالا لأحد! فإلى متى نغض الطرف عن فقدان العقول المستنيرة في هذه الفترة المظلمة؟! وإلى متى نبحث عن السلو في برقيات العزاء، والمراثي المبكية، والوعيد بالانتقام؟! لن نقول للقاتل شكرا؛ لأنك كتمت صوت مسدسك، وخنقت صوت الحق. لن نشكره لأنه روى الإسفلت بالدم المحرّم في الشهر الحرام، وأزاح 60 كيلو جراما من الذهب الخالص عن كاهل الأرض المثقلة بملايين البلداء! ولكن، ربما نقول شكرا لرفقاء المتوكل- الذين عجزوا عن تدجينه فنبذوه- إن رجعوا عن غيهم.. وربما نقول للرئيس شكرا، إن كشف عن وجوه القتلة، وأحاط المواطن الأعزل - كما يحيط منزله وحياته- بأسيجة الأمن.