ضمن سلسلة "هوية المكان" صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب "مصر بين الرحالة والمؤرخين" للكاتب حمدي البطران، تناول فيه مراحل من تاريخ مصر المختلفة، وتوقف عند بعض الوقائع التي ذكرها المؤرخون العرب فيما يخص الغلاء والمجاعات. ينقسم الكتاب إلى قسمين، يأتي الأول بعنوان "الرحالة" الذين كتبوا بالتفصيل عن كل شيء، فعندما أرسلتهم أوروبا كانوا رسلها وجواسيسها وقرون استشعارها، بينما يتناول القسم الثاني "المؤرخون" ويختار المؤلف تأريخهم لسرقة المسلات المصرية، أول جمهورية في الصعيد، الحلاق الذي أصبح رائدا للطب، وحكايات الدراويش وغيرها. في أحد الفصول يتحدث المؤلف عن النساء في الحملة الفرنسية، فنعلم انه كانت هناك تعليمات شديدة بمنع النساء من الإبحار مع أزواجهن، مع انه كان من المألوف أن ترافق النساء الجيوش أثناء الحروب الأوروبية. ورغم هذه التعليمات نجحت أكثر من300 امرأة من ركوب سفن الحملة إلى الشرق. عندما وصل الفرنسيون لأول مرة للقاهرة في يوليو1798 كانت القاهرة خاوية تماما وامتلأت شوارعها باللصوص والرعاع والقطط والكلاب والنسوة العجائز، أما المماليك وزوجاتهم وجواريهم فقد هربوا إلى الأرياف خوفا من الفرنسيين. بعد فترة بدأت النساء يظهرن ويصالحن على أنفسهن ويشترين الأمان بأموال طائلة، ومنهن زوجة رضوان بك أحد كبار المماليك، والست نفيسة زوجة مراد بك والتي كانت تلقب بأم المماليك. ويذكر الجبرتي أن الجنود الفرنسيين انقلبت مهمتهم ولم تعد البحث عن جنود المقاومة السرية أو البحث عن القواد المختفين، بل البحث عن النساء لكي يرغموهن على شراء الأمان لأنفسهن بالمال. عندما استقر الأمر لنابليون في مصر، قدم له حراسه ست فتيات مصريات، واختار واحدة تشبه زوجته جوزفين ويقال أن أبيها عينه نابليون نقيبا للأشراف بعدما اندمج مع الفرنسيين وبعد أن فر عمر مكرم مع المماليك للشام . ويذكر الجبرتي أن " زينب" الفتاة المصرية التي اختارها نابليون كانت متبرجة وخالطت المجتمع الفرنسي وتأثرت به ، وبعد جلاء قوات الحملة الفرنسية بدأت عملية معاقبة النسوة وكانت هي ضمنهن ، حيث حضر معنيون من طرف الوزير إلى بيت أمها وأحضروها ووالدها، فسألوها عما كانت تفعله، فقالت إني تبت من ذلك، فقالوا لوالدها ما تقول أنت؟ فقال: أقول إني بريء منها، فكسروا رقبتها. إسلام مينو أم تنصير زبيدة؟! يتحدث الكتاب عن الجنرال "مينو" ثالث قواد الحملة الفرنسية الذي أعلن إسلامه وتزوج من "زبيدة" بنت مدينة رشيد التي كانت شابة بينما كان يقترب هو من الخمسين، وقد رزق منها ولدا أسماه سليمان مراد جاك مينو، ولما تم جلاء الجيش الفرنسي عن الإسكندرية طلب لها مينو الإذن بالسفر إلى فرنسا وألتقى بها هناك وظلت في عصمته. ويؤخذ من الوثائق التي رجع إليها العلامة على بك بهجت، ومما ذكره المسيو ريجو في كتابه أن مينو قد أساء معاملة زوجته المصرية وتنكر لها وهجرها في تورينو بإيطاليا، وأبدل بها بعض الراقصات وتركها تعاني الهجر إلى أن توفيت بها. وعندما سافر رفاعة الطهطاوي إلى باريس عام 1826 شاهد عددا كبيرا من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنساوية، وندر وجود أحد من المسلمين فمنهم من مات ومنهم من تنصر. وقد شاهد الطهطاوي امرأة عجوز باقية علي دينها، وقد سمع هناك في مرسيليا أن مينو رجع عن إسلامه إلى النصرانية، ومكث مع زوجته وهي على دينها عدة أيام، فلما وضعت ابنها أراد مينو أن يعمده ولكن زوجته رفضت، وحاول هو أن يقنعها أن كل الأديان مآلها واحد ولكنها رفضت الفكرة كلها، فما كان من مينو إلا أن أحضر لها عالم باللغة العربية ويدعى "دي ساسي" وكان من كبار المستشرقين، وطلب من زوجته أن تسأله، وأجابها بأنه يوجد في القرآن قوله تعالى "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل عملا صالحا فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" وللأسف صدقته زبيدة وأذنت لمينو أن يعمد ولده ! . ويقول الطهطاوي أنه بعد ذلك انتهى الأمر على ما قيل أنها تنصرت وماتت على دين المسيحية. الأميرة المتمردة الأميرة جاويدان هانم زوجة خديوي مصر عباس حلمي الثاني، تركت لنا مذكرات تناولت فيها بعض المسكوت عنه مما يحدث داخل القصور الملكية، فتحدثت عن الحريم في القصور العثمانية والقصور المصرية، وهي المرة الأولى التي تتحدث فيها واحدة من الحريم عن الحريم، وهي تتحدث كأوروبية لها ثقافتها التي لا تبالي بالقيود . تخبرنا جويدان إن الباشا أو السيد لا يعلم شيئا مما يحدث داخل الحريم، فهو إذا دخل البيت يلقاه الجميع بالخضوع الواجب وابتسامة لا تفارق الثغور، والويل لمن تتقدم إليه بشكوى فإن هذا يعكر مزاج البيك، وما وجد الحريم إلا ليدخل السرور على نفسه. وترى جويدان أن الإسلام حرم قتل الأطفال وإجهاض النساء، وهي عادة كان يفضلها العرب ونهاهم عنها الإسلام، وترى أن الأمر بتحريم قتل الأطفال وإجهاض النساء لم يجد صداه عند حريم القصور، كذلك أمعن كثير من السلاطين في الضلال، فسنوا قانون قتل الأخ محافظة على الملك. وكان السلطان بايزيد الأول هو أول من وضع قتل مبدأ الأخ، وجرى السلاطين من بعده على هذه السنة بحكم العادة، ولما جاء السلطان محمد الثاني جعل قتل الأخ قانونا من قوانين الملك وركنا من أركان حفلة التتويج.وظل قانون قتل الأخ قائما حوالي400 سنة، إلى أن جاء السلطان عبد المجيد فألغى هذا القانون وصار الأخوة لا يقتلون ولكن يعيشون. كانت جويدان مغرقة في حب عباس وكتبت فيه صفحات بالغة الرقة تعبر فيها عن حبها الشديد، وهي لا تنكر أنه قيد حريتها وأنه كان يغار عليها من قراءة الكتب ومجالسة النساء، ولكنها مع ذلك كانت لا تطيق البعد عنه. لكن ينتهي المطاف بالحبيبين إلى الطلاق، وتشعر الأميرة بصدمة حقيقية عند طلاقها من الخديوي، فكانت تجلس في قصرها بمستطرد وعانت كثيرا من بقائها بمفردها، فكتبت تقول: "إنني في منزلي أطوف في حجراته، فمن ذا الذي يقول إن الأشياء جامدة لا حياة فيها؟ إن الأشياء تحتفظ بتاريخ الحياة وتجيد إعادة القصص، فكم من حلم جميل أستعيد قراءته من بين هذه الوسائد الحريرية. كنا جالسين أمام المدفأة، وكنت أنظر إلى نارها المشتعلة، ولم يكن ضروريا أن أنظر إلى وجهك لأنك كنت بأكملك ماثلا في نفسي، ثم بدأت الحديث، ولكن صوتك كان غريبا على أذني كأنه صوت لا أعرفه، صوت لا أعرفه، صوت بعيد عن ذاكرتنا، وكان هذا الصوت يقص شيئا عاديا. رجلا خان زوجته، ثم وجد نفسه مدفوعا إلى الاعتراف لزوجته بهذه الخيانة، فهل يعلم هذا الرجل أن مسرحه هدم؟ لم يحدث شيء، وظلت النار مشتعلة في الموقد وإذ بيدك تقبض على يدي، وفي هذه اللحظة عدت أنت كما أعرفه، فابتسمت ابتسامة لا علاقة لها بأفكاري، ففي نظرك انتهى الموضوع بانتهاء القصص وأما في نظري فقد ابتدأ كل شيء الآن". شائعات المؤرخين يقول المؤلف أنه بعد قراءته العميقة للتاريخ تبين أنه كانت هناك فعلا عصابات لخطف الطفال، بل والكبار أيضا، لم تكن عصابة ولكنها كانت هوجة من ينفرد بشخص يذبحه ويأكله ويوزع لحومه على أصدقائه وضيوفه، ولكن شائعات تناقلها المؤرخون دونما تثبت تقول بمسألة قتل الكلاب أو البشر ! كان أول من ذكر هذا المؤرخ والطبيب عبد اللطيف البغدادي في القرن السادس الهجري في كتابه "الإفادة والاعتبار في الأمور والمشاهدات والحوادث المعاينة بأرض مصر" فيقول: ودخلت سنة سبع مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد، واشعر أهلها بالبلاء وهرجوا من خوف الجوع، وانضوى أهل السواد والريف إلى أمهات البلاد، وكثير منهم إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن، ووقع المرض موتان، وأشتد الجوع بالفقراء، حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثم تعدوا ذلك وأكلوا صغار بني آدم، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل. كذلك يحدثنا المقريزي في كتابه " إغاثة الأمة في كشف الغمة" عن الغلاء الذي فحش في سنة457 ه ، مما أدى إلى تعطل الأحوال وانتشار الأوبئة، وكانت النتيجة الطبيعية هي الجوع المهلك الذي جعل الناس تأكل الكلاب والقطط حتى قلت الكلاب، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم البعض. آل الأمر إلى أن باع المستنصر كل ما في قصره وصار يجلس على الحصير، وتعطلت دواوينه وكانت نساء قصره تخرجن ناشرات شعورهن تصحن "الجوع! الجوع!" تردن السفر إلى العراق، فتسقطن عند المصلى، وتمتن جوعا. ويتساءل المؤلف هل بالغ البغدادي والمقريزي وبن تغري بردي في وصف تلك المجاعات التي وصلت بالمصريين إلى حد أكل لحوم البشر؟ ويقول بأن الأمر لاشك فيه مبالغة. فلم يصل الأمر إلى هذا الحد، لأن المقريزي يحدثنا عن بنت صاحب السبيل التي كانت تبعث إلى المستنصر كل يوم إناء فيه فتيت (فتة) ولم يكن للمستنصر قوت سوى ما كانت تبعث به إليه، ومنه نعرف أن هناك من الموسرين ممن يتصدقون على الخليفة، ولم تكن المجاعات عامة إلى الحد الذي ذكر. وإذا كان الغلاء والقحط وعدم كفاية ماء النيل السبب في المجاعة التي ذكرها البغدادي فإنها بلا شك لن تحدث فجأة، ولم يذكر لنا البغدادي أي مقدمات عن هذا السلوك العجيب للمصريين الذي دفعهم لالتهام البشر. وهل انقلب حال المصريين فجأة وحل عليهم البلاء إلى الحد الذي أكلوا فيه البشر؟ وهل أكلها المسلمون الذي حرمت عليهم الميتة من الحيوان ليأكلوا الميتة من البشر؟ وهل حدث هذا الانقلاب الخطير في حياتهم ليتحولوا إلى وحوش تأكل بعضها البعض في غيبة من التاريخ؟ أسئلة مازلنا لا نعرف لها إجابات مؤكدة.