جرت عندي عادة سنوية أن أحاول حيثما كنت أن أحضر المعرض الدولي السنوي للكتاب في القاهرة. وكل مرة يكون لديَّ موضوع اهتمام معين يجذبني أكثر من غيره، لكن السائد في حركتي اليومية في أروقة المعرض أن أقضي نصف اليوم مع مخيم أو دار أو مبنى به كتب للبيع والنصف الثاني مع الأنشطة التي تقام شعرا أورواية أو عرضا فنيا أو محاضرة. وفي خلال الاستراحات تجذبني مقاهي ومطاعم المأكولات الخفيفة لتوفر أماكن للجلوس والاستماع أحيانا أو المشاركة مع متحاورين من مشارب مختلفة يتحلقون حول شخصية شهيرة يصادف وجوده هناك. هذه التجربة السنوية هي عبارة عن متعة خالصة نادرا ما تتاح لي في اليمن. فاللقاء بالشخصيات الشهيرة من الكتاب أو المؤلفين أو الباحثين يتم في الغالب في مجالس القات. وأماكن المحاضرات والأنشطة الثقافية في اليمن محدودة، بحيث ينتهي أمثالي إلى وضع برامج تخصهم لكنها تقلل من فرص اللقاء مع معظم من يهمني أمرهم. وأنا أقبل هذا الحال ولا أتقبل أن يهزم القات سلوكي ويجبرني على التطبع بطباع متناوليه. لذا يكون في العادة كتاب ما هو جليسي المفضل. وفي بداية الألفية الثانية وخاصة بعد أحداث سبتمبر التي وقعت في نيويورك، كان دفق من كتب الشهادات المروية عن ذكريات الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي والشيوعيين الأفغان بارزا بشدة في معارض الكتب. وهكذا اشتريت مجموعة من هذه المذكرات والذكريات، بين ممجد للبطولات التي عاشها وبين ناقد للطريقة التي سارت الأمور عليها، وبين مفسر لأساليب التدريب والتعبئة التي مر بها. وقد قرأت من هذه الكتب مجموعة كافية لتوصيلي إلى حالة من التشبع، علق منها في خاطري بعض وصف للأماكن التي جاء منها هؤلاء الأشخاص قبل أن يصلوا إلى أفغانستان أو بعض معلومات عن الظروف التي عاشوها، والعلاقة التي كانوا يرون بها أنفسهم بالمقارنة مع الدور الذي كانوا يرسمونه لنسائهم. وكان القليل من هذه الكتب يتحدث عن الحرب ضد أمريكا في أفغانستان، وليس عندي حتى الآن كتاب ذكريات لمحارب واحد في العراق بل ما يكتبه آخرون عنهم وهو قد يكون حديثا عن جيل آخر مختلف. أفغانستان احتلال الذاكرة: أحضر إلى مكتبي الأخ مصطفى بادي الذي تلقب في أفغانستان باسم أبو ابراهيم كتابا يحمل عنوان "أفغانستان احتلال الذاكرة" الجزء الأول. يسجل فيه بعض ذكريات حياته التي بدأت في سن مبكرة عندما انخرط في معارك الجنوب والشمال خلال فترة التشطير، جانب باسم "الجبهة الوطنية" وجانب باسم "الجبهة الاسلامية"، وحيث كانت القاب من نوع المخربين والمرجفين هي السائدة. كان عمره ثمانية عشر عاما عندما صار محاربا، واعتاد الحرب. فلما هاجر إلى السعودية ورغم ظروف الرفاهية التي توفرت له في مجال عمله كان الشعور بالخواء والفراغ الروحي هو السائد لديه ولم يشعر بذاته إلا وهو على جبال أفغانستان يلتصق بسلاحه ويتفانى في سبيل بذل نفسه غير قابل للتفكير في البعد السياسي لحياته بل هاربا من أي محاولة لربط جهاده بغير الرغبة في ملاقاة وجه الله وطلب الشهادة. وعندما انتهت الحرب ضد السوفيت وعاد بسبب إصابته في قدمه إلى السعودية للعلاج ، فإنه ما أن شفي حتى عاد إلى أفغانستان ثانية وهو يصف ذلك بقوله " أخبرت أخي أبا القعقاع أنني أريد العودة إلى مكاني الطبيعي وحياتي التي وجدتها هناك، فقد أصبحت كالسمكة، إذا خرجت من أفغانستان أشعر أنني أختنق!!". تفاصيل كثيرة تقولها الذاكرة المحتلة بعبق صورة واحدة مثالية جميلة للجهاد في أفغانستان، لا شيء عن حروب المخابرات أو معارك لوردات الحروب أو مهربي السلاح أو جهاد زارعي المخدرات وموزعيه ومروجيه ومدمنيه. إنها الذاكرة المصفاة من درن أوجاع واقعية الحياة، لأن الذاكرة انتقائية والكتابة عن التاريخ الشخصي فردانية ذاتية لحالة معينة عن طريقة رؤية الإنسان لنفسه. قليل من كتب المذكرات في اليمن حتى الآن متوفر، لو تزايد سيسمح برؤية أوسع لمرحلة مخفية من تاريخ يرغب البعض في نسيانه، خاصة وأن الذين كانوا كالسمك في ماء الحرب عاد بعضهم مع جدد آخرين ليواصلوا معاركهم ضد الأمريكان أو ضد أنظمة بلدانهم السياسية. معارك صعدة: تمضي فترات طويلة قبل أن يتمكن الناس من الكتابة عن فترات انهزمت فيها قضيتهم وضاعت جدوى معاركهم. وكان كتاب ذكريات واحد عن أسرة ذات علاقة بالملكية المتوكلية خلال فترة الحرب لتثبيت الجمهورية قد أنار عندي قليلا من معاناة الذين لم يتحدث بعد النصر عنهم أحد. وأعاد كتاب مذكرات خبير حرب بريطاني وآخر فرنسي بعض تفاصيل المعارك التي دارت في جبال صعدة في مطلع الستينيات. وقد تمضي ثلاثون سنة قبل أن يكتب واحد من اليانعين الذين حملوا السلاح في واحدة من الحروب الست ذكرياته التي سقطت في قاع الذاكرة. لو كتب الناس ذكرياتهم لبدأنا الفهم ولتجنبنا التكرار، وفهمنا أين تبقت جيوب العنف المستقبلية.