السياسة الإسرائيلية أشبه ما تكون بصفقات مروان العياصرة تجارية لم يعلن عن مدى ربحيتها أو خسارتها، وربما ما يظهر على السطح ليس سوى خطوط هامشية ليست مقصودة بحد ذاتها، وإلا لو كانت غير ذلك لكان لها تأثيرها على المسار السياسي ‘'الإسرائيلي''، خصوصاً في هذه الفترة التي جاءت بنتنياهو رئيساً للوزراء، ليس بمحض المصادفة ولا بمحض التخطيط، وإنما هي محصلة طبيعية للتداول السياسي في ‘'إسرائيل''، وبالقدر الذي لعب فيه نتنياهو بأوراق المقامرة السياسية لعب غيره، قبله كان أولمرت، وقبله شارون، وقبلهما كثير من رؤساء الوزارات ‘'الإسرائيلية'' التي كان لكل منها حصتها ورصيدها من الأزمات الداخلية والخارجية، فلا يكاد يخلو رئيس وزراء ‘'إسرائيلي'' من تهمة أو صلة بأزمة داخلية أو خارجية، ومع ذلك بقيت السياسة الإسرائيلية تسير بوتيرة واحدة، بالتصعيد تارة وبالتهدئة تارة أخرى، تبعاً للمواقف السياسية والحالة الإقليمية والعالمية. لدى ‘'إسرائيل'' قدرة وملكة سياسية عالية على توظيف الحكمة أو النصيحة الصينية ‘'اتقن عدم لفت الانتباه''، حتى في معترك هذه الأزمات التي تصنعها، ولعل هذه الأزمات كلها تأتي من قبيل توظيف تلك النصيحة، حتى في مجال علاقات ‘'إسرائيل'' مع الولاياتالمتحدة الأميركية، ثمة صفقة يتبعها نتنياهو من خلال منطق ‘'يا صابت يا صابت''، اتكاء على رصيد ‘'إسرائيل'' من الدعم الأميركي لها، فإنها غالباً أو حتى دائماً تصيب، رغم تلك الإحراجات التي تتعرض إليها أميركا من جانب ‘'إسرائيل'' نتيجة السياسات التي لا تخضع لأي اعتبار دولي أو أممي، وهو ما يحرج موقف أميركا. ومع ذلك فليس مطلوباً من نتنياهو أو أوباما استدعاء حادثة مثل حادثة العام ,1975 حين أحرجت ‘'إسرائيل'' موقف الرئيس الأميركي جيرالد فورد، ما دعاه إلى وقف تنفيذ وعده بدعم ‘'إسرائيل'' بالطائرات المقاتلة إلى حين إجراء تقييم حقيقي للعلاقات الأميركية و''الإسرائيلية''، لأن مثل هذا الاستدعاء غير قابل الحدوث، في سياق العلاقة بين أميركا و''إسرائيل''، وأنها أكبر من أن تتأثر بموجة إحراجات من نوع تلك الإحراجات التي تلقاها بايدن الذي زامن نتنياهو بين زيارته وإعلان بناء مستوطنات جديدة، فمن غير المتوقع أن يعلن أوباما بشجاعة عن إعادة تقييم ليس للعلاقة مع ‘'إسرائيل''، وإنما لتقييم مستويات الدعم على أقل تقدير. المسألة أعمق أثراً وتأثيراً من هذا بكثير، حتى مع حادثة فورد وإجرائه تقييم للعلاقة مع ‘'إسرائيل''، لم يكن الأمر مقصوداً بكل هذه السطحية، بقدر ما كان مقصود منه التعبير عن الحرج، وليس أدل على ذلك من قول فورد إن ‘'التزامنا بأمن إسرائيل قائم على أساس المبادئ الأخلاقية والمصلحة الذاتية، وأن دعم إسرائيل يكرم تراثنا''، تماماً مثلما قال جونسون إن ‘'صداقتنا مع إسرائيل تنبع من إيماننا المسيحي''، وقاله أيضاً فيما بعد بوش الأب حين أعلن صراحة أن ‘'الرابطة العاطفية والتاريخ والتراث المشترك بين أميركا وإسرائيل يتجاوز السياسة''. إذاً، المسألة ليست مرتبطة بمصلحة اقتصادية أو سياسية فحسب، بل مسألة عقيدة وقيم، ولأن هذا هو الصحيح حسب رأي جونسون حين سأله رئيس الوزراء السوفييتي آنذاك ‘'لماذا تصرون على دعم إسرائيل التي لا تتجاوز 3 ملايين نسمة، بينما هناك من العرب 80 مليون نسمة - في ذلك التاريخ - فقال جونسون: ببساطة، لأن هذا هو الصحيح''.
تذهب العلاقة الأميركية الإسرائيلية إلى أبعد من السياسة، أو أن السياسة شكل معاصر من أشكال ونماذج هذه العلاقة ذات التقاليد الراسخة حسب قول جون كينيدي، ويذكر المهتمون في هذا الشأن تأريخاً بالحوادث والمواقف الإجرائية حتى أن أحد الطوابع الرسمية في أميركا والذي قدمه توماس جيفرسون، بنجامين فرانكلين، وجون آدمز يصور عبور ‘'إسرائيل'' البحر الأحمر، أما اللغة العبرية فإن كانت تشكو الضعف في داخل ‘'إسرائيل'' فإنها أقوى حضوراً في أميركا، إذ تعتبر في مناهج كثير من الجامعات الأميركية متطلباً إلزامياً، ومنها جامعة هارفرد منذ العام 1787 وحتى هذا التاريخ.
كل شيء يتداخل في العلاقة بين الدولتين، التاريخ والتراث واللغة والاقتصاد والسياسة، وحتى لو قال أحد ما إن كل ذلك مصطنع وشكلي، فليكن مادامت العلاقة لا تتأثر حتى بأعلى درجات الحرج الأميركي من المواقف ‘'الإسرائيلية''، بينما تتأثر تأثراً كبيراً أي علاقة عربية من أدنى حدود المواقف الباعثة على الحرج، فكثيراً ما تجري أميركا في دوائر البحوث والدراسات والتحليلات والاستشارات تقييماً لمستويات العلاقة مع العرب، تبعاً للمصالح والمواقف، بينما لا يحق لأوباما أن يفكر مجرد تفكير في إعادة تقييم العلاقة، كما فعل فورد، فلسنا نملك إلزاما لأوباما لأن يجري مثل هذا التقييم، لأننا ندرك حجم تأثير الدوائر المغلقة في داخل أميركا على السياسة الأميركية، كما أدركنا عمق العلاقة وارتباطها بالقيم المشتركة - على الأقل حسب زعم الأميركيين و''الإسرائيليين'' - ونذكر هنا خطاب رئيس منظمة العمل الأميركي ‘'الإسرائيلي'' هارفي شوارتز لأوباما قائلاً له إن السحابة السوداء التي سببتها إدارتك مع ‘'إسرائيل'' من جراء قيام الأخيرة ببناء وحدات سكنية جديدة في (عاصمتها القدس) مع التشديد على عبارة عاصمتها، بأن هذه السحابة لا لزوم لها، وأنها جاءت من غير مبرر، مذكراً إياه بأن في داخل ‘'إسرائيل'' أكثر من 250 ألف أميركي يقيمون ويعملون فيها، وأشار بلفتة ذكية إلى أن الكونغرس الأميركي والشعب الأميركي مهتمون بهذا الأمر بصورة تتطلب من الرئيس أوباما تنسيق إدارته بما يوافق رغبات الكونغرس والشعب الأميركي.