نهج بوتين لم يلق معارضة خارجية وحسب، فالمظاهرات المنددة بسياسته مع اوكرانيا ملأت الشوارع في موسكو كييف - أحيا استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم واستعداداتها لضم الإقليم الجنوبي من أوكرانيا إليها مخاوف دولية من إمكانية اندلاع حرب باردة، سيما أن الأوضاع الحالية وتأزمها ينذران بذلك، حسب العديد من المراقبين. لم يتأكد بعد ما إذا كانت محاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمنع أوكرانيا، وهي من الجمهوريات الاستراتيجية في الاتحاد السوفيتي السابق، من التحول إلى الغرب ستصبح نقطة تحول في العلاقات الدولية مثل هجمات تنظيم القاعدة عام 2001 على الولاياتالمتحدة أو أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. لكن المسؤولين عن السياسات والمحللين الاستراتيجيين يتدارسون عواقب احتمال تطور الأمر إلى حرب طويلة بين الشرق والغرب، وتطرح المواجهة أسئلة صعبة عن التوازن بين العقوبات والدبلوماسية ووضع اختبارات لولاء الحلفاء وزيادة خطر انتشار المواجهة لتشمل صراعات أخرى واحتمالات نشوب حروب بالوكالة. ويرجح العديد من المتتبعين لتصاعد مجرى الأحداث بين روسياوأوكرانيا، إمكانية نشوب حرب باردة، حيث لم تشهد العلاقات بين روسيا والغرب تصادما واضطرابا كما يحدث في الوقت الحالي، بعد أن انتهى الاستفتاء في شبه جزيرة القرم، وأعلن المسؤولون أن 97 في المئة ممن شاركوا في التصويت أيدوا الانضمام إلى روسيا. في هذا الصدد عنون المحلل الروسي ديمتري ترينين، من مؤسسي كارنيغي للسلام الدولي، مقالا له “مرحبا بالحرب الباردة الثانية”، معلقا “وضعت التطورات الأخيرة فعليا حدا لانقطاع الشراكة والتعاون بين الغرب وروسيا اللذين سادا في ربع القرن الذي انقضى بعد الحرب الباردة”. ينحصر التوتر السياسي القائم بين روسياوأوكرانيا وحلفائها من الغرب في شبه الجزيرة الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي قدمها الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشيف إلى أوكرانيا في العام 1954، في صلب إحدى أسوأ المواجهات الدبلوماسية بين موسكو والغرب منذ نهاية الحرب الباردة. وبعد التصويت بالأغلبية على استفتاء ضم القرم إلى روسيا، لم يعد أمام أوكرانيا وحلفائها الغربيين إلا خيارات قليلة للحؤول دون سيطرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على القرم والتي يعتبرونها غير شرعية، حيث لم يعط الاستفتاء خيارا لبقاء أهالي القرم كجزء من أوكرانيا والحفاظ على وضعها الحالي، وهي في جميع الأحوال أصبحت جزءا من روسيا. وأصبح التحول من الدبلوماسية إلى المواجهة بين البلدين أمرا محتوما في أعقاب تجاهل روسيا الدعوات الغربية الملحة إلى سحب قواتها من شبه جزيرة القرم ووقف الاستفتاء فيها. وبعد التردد في اتخاذ موقف حيال عروض القوة التي بادر إليها الكرملين، اعتمد الغرب استراتيجية أكثر تصميما بعد الإعلان عن احتمال فرض الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة عقوبات على أقرب حلفاء فلاديمير بوتين. و إضافة إلى العقوبات، باتت صورة ومكانة روسيا على الساحة الدولية مهددة بعواقب وخيمة، فموقعها في مجموعة الثماني على المحك، فيما أصر عدد من أعضاء مجلس الشيوخ في الولاياتالمتحدة على حرمانها من حقها في استضافة كأس العالم لكرة القدم العام 2018. تتهم أوكرانيا، روسيا بغزو أراضيها عسكريا عبر نشر 80 جنديا ومروحيات وآليات مدرعة في قرية تقع في الجانب الآخر من الحدود الإدارية بين شبه جزيرة القرم وباقي أوكرانيا. وهذا الموقع ليس الأول الذي تحتله القوات الروسية خارج القرم، خصوصا أن نقطة تشونغار للتفتيش التي تسيطر عليها القوات الروسية والميليشيات الموالية لها تقع أيضا على بعد حوالي كيلومتر واحد شمال “الحدود” الإدارية بين القرم وأوكرانيا، بالإضافة إلى سيطرة المليشيات الموالية لبوتيين على أهم المؤسسات الحيوية في القرم. ولا يعتبر طرد الجنود الروس إلى خارج القرم خيارا لأوكرانيا التي ستلعب في هذا النزاع دور داوود في مواجهة جالوت، فجيشها النظامي المؤلف من 130 ألف جندي نصفهم مجندون ومجهزون بعتاد بائد، لن يشكل ثقلا في مواجهة الجنود الروس ال845 ألفا الذين يمكنهم كذلك الاعتماد على قوة بلادهم النووية. لكن رفض أوكرانيا سحب قواتها من القرم قد يزيد الوضع صعوبة بالنسبة إلى روسيا، بعد تحذير النائب الأول لرئيس الوزراء الأوكراني فيتالي ياريما قائلا “إذا بدأ الروس في استخدام أسلحة ضدنا، فسنستخدم أسلحة ضدهم”. وتكتسي القرم أهمية استراتيجية بالنسبة إلى روسيا لأنها توفر لها موطئا على البحر الأسود والبحر المتوسط القريب، فيما تشكل أوكرانيا عنصرا رئيسيا في طموحات بوتين لإعادة بناء تحالف ما بعد الاتحاد السوفيتي قادر على منافسة الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي معا. ولكن طموحات الدب الأبيض في تقوية نفوذه انهارت بإسقاط حليفه فيكتور يانوكوفيتش رئيس الوزراء الأوكراني السابق، و بذلك خرجت أوكرانيا من فلك الكرملين بعد أن عبرت الحكومة الجديدة في كييف بوضوح عن إرادتها إخراج البلاد من التبعية لموسكو وتقريبها من الغرب. ونتيجة لذلك يتوقع المراقبون أن يبرم الاتحاد الأوروبي والقادة الأوكرانيون في بروكسل في الأيام المقبلة الشق السياسي لاتفاق الشراكة بين الاتحاد وأوكرانيا والذي أدت العودة عنه في نوفمبر إلى انطلاق حركة الاحتجاجات التي آلت إلى عزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. كما سيبحث الغربيون خطة مساعدة للاقتصاد الأوكراني الضعيف من أجل مقاومة تعليق القرض الكبير الذي وعدت موسكو بتوفيره. أوكرانيا تتهم روسيا بغزو أراضيها عسكريا حاول الغرب في بداية الأحداث، التي عقبت إسقاط يانوكوفيتش في أوكرانيا واحتلال موسكو للقرم، إيجاد حلول دبلوماسية لإقناع موسكو بالتراجع عن انتهاك سيادة أوكرانيا، إلا أن ذلك ذهب أدراج الرياح، فروسيا تدرك اعتماد الغرب والولاياتالمتحدة عليها في العديد من القضايا. ويشعر المسؤولون عن السياسات في برلين بالقلق خشية أن توقف روسيا التعاون مع الغرب بشأن برنامج إيران النووي والحرب الأهلية في سوريا والأمن في أفغانستان والتعامل مع زعيم كوريا الشمالية الذي يتعذر التنبؤ بخطواته. كما أن أية نقطة من هذه النقاط يمكن أن تقض مضاجع الولاياتالمتحدة وحلفائها في آسيا وأوروبا من خلال زعزعة استقرار الشرق الأوسط وجنوب آسيا أو زيادة التوترات في شبه الجزيرة الكورية. وانشغلت العقول بما اتضح من أن ألمانيا القوة المحورية في أوروبا ليس لها نفوذ خاص لدى روسيا عندما تطرأ مشكلة وأن المستشارة انجيلا ميركل عجزت عن إقناع بوتين بتغيير رأيه رغم اتفاقهما في كثير من الأمور. وعلى الرغم من مصالحها الاقتصادية الكبيرة في روسيا حيث تعمل 6500 شركة ألمانية واعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي في سد 40 في المئة من احتياجاتها فإن المحللين يتوقعون أن تفاجئ ألمانيا الجميع بتشددها، بعد أن أدار الدب الروسي لها ظهره تصميما على موقفه. وتحتل موسكو المركز الحادي عشر بين شركاء برلين التجاريين وتأتي بعد بولندا. وقالت الهيئة الألمانية الرئيسية المختصة في التجارة الأسبوع الماضي إن أي نزاع تجاري ينشب بين البلدين سيضر النشاط الألماني لكنه سيهدد في الوقت نفسه كيان الاقتصاد الروسي الراكد. الحرب الباردة في الحرب الباردة الأولى كان الصقور في حكومات الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية يخشون أن تبقى ألمانيا الغربية على الحياد في سعيها إلى الوفاق مع الاتحاد السوفيتي وحلفائه في أوروبا الشرقية بما في ذلك ألمانيا الشرقية الشيوعية. لكن هذا لم يحدث قط، وظلت بون طرفا أساسيا في المعسكر الغربي سياسيا وعسكريا. لكن هذه الفترة شهدت بعض المعارك الكبرى، من ذلك صدام عام 1982 مع الولاياتالمتحدة حول صفقة لإنشاء خط أنابيب للغاز بين ألمانيا والاتحاد السوفيتي كانت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان تخشى أن يجعل ذلك ألمانيا الغربية معتمدة اعتمادا كبيرا على موسكو. وأصر الألمان على موقفهم، وأقيم خط الأنابيب، وهو أحد الأسباب التي تجعل ألمانيا مرتبطة ارتباطا كبيرا بموارد الطاقة الروسية، ويعتبر هذا النزاع، الذي جاء بعد عام من حملة عسكرية في بولندا بإيعاز من موسكو حاملا لدروس لأية حرب باردة جديدة. فيتالي ياريما: إذا بدأ الروس في استخدام أسلحة ضدنا، فسنستخدم أسلحة ضدهم وبعد عام شهدت بون احتجاجات ضخمة وتهديدات من موسكو لكنها أصرت على نشر صواريخ نووية أميركية متوسطة المدى على أراضيها ردا على نشر صواريخ اس اس-20 السوفيتية موجهة إلى الغرب، وأدى ذلك في النهاية إلى وضع نهاية من خلال المفاوضات لسباق التسلح بين الشرق والغرب. و مثلما هو الحال الآن، فقد وحد الخطر الروسي، الأوروبيين والأميركيين في موافقهم السياسية مشكلين معسكرا ضد روسيا، وإذا تحرك بوتين لضم القرم فربما يضطر الأوروبيون إلى التفكير في تقديم بعض التضحيات لإبداء مدى عزمهم على تنفيذ وعودهم ضد موسكو. ويعتقد المراقبون أنه من الممكن في سياق تلك الخطوات أن تجمد فرنسا عقدا لبيع حاملة طائرات هليكوبتر لروسيا ولبريطانيا وإغلاق قصورها وأقبية بنوكها في وجه كبار رجال الأعمال المقربين إلى بوتين وألمانيا كخطوات تدريجية أولى لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
فالدول الغربية ترى أنه من حق أوكرانيا تقرير مصيرها واتخاذ قرارها المستقل بمعزل عن تأثير روسيا، وتعتبر أن الخطوات التي لجأت إليها روسيا بشأن أوكرانيا، وتحديدا في القرم هي خارج هذه المفاهيم التي تحدد العلاقات الدولية. وفي إطار محاولات روسيا الفاشلة لضم أوكرانيا إلى حضنها، واستعداد الغرب لانضمام حليف جديد إليهم، يظهر صراع مصالح واستراتيجيات بين روسيا والدول الغربية، في محاولة لتحديد مسار النظام الدولي وشكله، من خلال ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية والتهويل العسكري، وهو حسب ما يراه الكثيرون صراع قوى على الأرض الأوكرانية، يقترب من حدود الحرب الباردة.