تتنقل في حيها الصغير.. وتلتقي بمن عرفوها عن قرب * تبنت مشروعا لتزويج الفتيات ببعض المطلوبين أمنيا في السجون * عرفت بدعمها المادي ل«القاعدة» حتى خارج أسوار مدينتها * إيواؤها لدى إحدى الأسر جاء بتأثير من النساء لا الرجال * استغلال اشتراك إنترنت خاص بأحد الجيران للتواصل مع أفراد التنظيم «المهمة المستحيلة» Mission Impossible، هنا لا نتحدث عن فيلم النجم الأميركي العالمي توم كروز الذي أخرج منه حتى الآن ثلاثة أجزاء، ولكن هذا العنوان كان هو الأقرب لجولة البحث عن هيلة القصير «سيدة القاعدة» كما أصبحت تعرف لاحقا. «الشرق الأوسط» حاولت مشاهدة «سيدة القاعدة» عن قرب وفك شفرات حياتها التي تقلبت بين أحوال متعددة تباين كل منها مع الآخر، في منطقتها القصيم، وتحديدا في مكان ميلادها إحدى قرى بريدة التي تعرف باسم «الشقة» مرورا بضاحية «الخبيبية» التي اقتيدت من أحد منازلها مع اثنين من المطلوبين أمنيا، لعلنا نجد من بين شخوصها وأماكنها بعضا من ملامح هيلة القصير (السيدة الأولى لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب) ونحن تحت سماء واحدة. إلا أنه، والغريب في الأمر، أن يتمكن مجتمع بأسره من أن يلفظ وعن بكرة أبيه بعضا منه، فلم يعد هناك في القصيم بأسرها من عرف «هيلة» أو سمع عنها، ليتسبب الاسم رباعي الحروف في كل ذلك الذعر، الذي تجاوز صدى اسمها من قريتها والسعودية إلى العالم بأسره. لتبدأ بعد ذلك فصول البراءة والاعتراف من قبل مجتمع يتردد بين مرارة جفاء بعض منه على اعتبار القصير جزءا من مجتمعها، وحتمية نفي الخبر الذي يمثله كل شخص يحمل أفكارها حتى وإن عز عليهم إنكار جزء منه لأبنائه. فلم يكن للمجتمع (البريداوي، القصيمي) من حيلة في مواجهة الباحث عن هيلة القصير غير الإنكار وبالأيمان المغلظة بعدم معرفتها في يوم أو سماع اسمها أو حتى معرفة من قد يكون عرفها في إحدى زوايا الأماكن أو الساحات. هكذا إنكار جماعي دافع به عن نفسه المجتمع «البريداوي» بنسائه ورجاله، باعتباره، وحسب رؤيته، الوسيلة الوحيدة لمواجهة الخوف من إعادة تناول اسم مدينتهم إثر خروج «متطرف أو متطرفة جديدة». فالأقربون والأصحاب والمنازل التي ضجت بصوت هيلة القصير، التي ما فتئت تقدم التهاني والتباريك لكل أسرة تفقد أحد أبنائها في أي من مناطق الاضطراب كالعراق واليمن أو في المواجهات الأمنية السعودية، والتي اشتهرت بنشاطها الاجتماعي من خلال دورياتها الشهرية. الجميع (اليوم) بات لا يعرف عنها شيئا وهي خلف «القضبان». البحث عن هيلة القصير سواء أكان بين مجالس النسوة وزلات أحاديثهن، أو إن كان تجوالا عبر الطرقات ذاتها التي شقتها ربما بأقدامها تارة وبسيارة تارة أخرى، هو بلا ريب محاولات مضنية و«مهمة مستحيلة» لفهم «هيلة» والاقتراب منها أكثر عبر ناسها وأحبابها لعلنا نرى ما رأته حينها ونسمع ما سمعته، فكيف بالحديث عن «سيدة»، في مجتمع لا يزال يعاني من وطأة بعض التقاليد التي تمنع الإفصاح عن أسماء «نسائه» في أحوال اعتيادية، فكيف والحديث اليوم تجاوز حدود الاسم إلى تفاصيل حياة سيدة دعمت تنظيم القاعدة بالتمويل والتجنيد. * من ضاحية «الخبيبية» كانت البداية * من أقصى غرب مدينة بريدة، «ضاحية الخبيبية»، التي تنسب نشأتها إلى الشيخ فهد بن عبد العزيز العشاب، التي تعد التكوين الأول لجماعة زهاد بريدة ممن هجروا الحياة المدنية ومنتجاتها، بدأت قصة هيلة القصير مع نهاية أدوارها. المتتبع لحياة «هيلة القصير» التي تخرجت في كلية التربية قسم الجغرافيا في منطقة القصيم، وعملت بعدها كمشرفة مصلى في إحدى مدارس بريدة الأهلية، لا يمكن أن يغفل عن المحطة الأهم التي عبرت عنها القصير، التي كانت باقترانها من أحد أشهر زهاد ضاحية «الخبيبية» الذي عد أحد معالمها السياحية عبد الكريم الحميد. «منهج الزهد» كما أطلق عليه أتباعه هو ما جذب هيلة القصير للحميد الذي بقي رافضا لكل ما أنجبته الحضارة المادية من المباحات، إلا أنه وفي ظل صمت الشهود الذي أعاق محاولة فهم «هيلة» يبقى السؤال عن مدى تأثير منهج الزهد الذي اتخذه بن حميد وعاش به فترة من الزمن مع القصير قبيل انفصالهما، على ما اعتنقته من معتقدات، أمرا مبررا في ظل احترام وتفهم شعبي واسع من قبل سكان المدينة لمنهج «الزهاد» حتى اللحظة. من مقال عبد الكريم الحميد «الوعيد على أهل الغلو والتشديد» الذي كتبه عام 1427ه (2006)، يظهر جليا حجم الصراع الذي عانت منه هيلة القصير أثناء زواجها بابن الحميد؛ فلم تكن مسألة الامتناع عن استعمال النقود والاستفادة من الكهرباء وانتعال الحذاء وركوب السيارة وكافة المنجزات العصرية المادية المباحة إلى جانب الاكتفاء ببيت من طين، قضية «زهد»، وإنما أخذت بعدا عقائديا وإيمانيا، من حيث التحليل والتحريم، وكما ذكر بن حميد «يقال له ما مرادك بالغلو؟ فإنه سيقول مجاوزة الحد والزيادة في التشدد، فيقال له هل تعني مجاوزة الحد مجاوزته من عرف أهل الزمان وعاداتهم وأهوائهم أو مجاوزته عما كان عليه الرسول الكريم وصحابته، قال: مجاوزته عما كان عليه النبي وصحابته، يقال له هذا دليل هذه المسألة، فكيف تقول إن ذلك غلوا ومجاوزة للحد وتشديدا؟ فأنت مفتر وكاذب»، ويعود بن حميد ويقول: «لم نؤمر بأن ندور مع الأزمنة وأهلها حيث داروا، وإنما أمرنا بالتمسك بهدي النبي وصحابته». ويتابع عبد الكريم الحميد في ما كتبه عن الغلو والتشدد: «نعم الدين الوسط وخير الأمور ما كان عليه النبي وصحابته، وهو فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وهذا هو الوسط الذي أمرنا به. أما إذا زعمت الوسط ما تهواه نفسك وما تود أنت وأهل وقتك، فأنت مشرع في الدين ما لم يأذن به الله، كذلك قادح في ما عليه الرسول والصحابة والسلف» انتهى الحديث. مع ذلك، لا يمكن اختزال أهمية محطة ضاحية الخبيبية بالنسبة لحياة القصير في الحميد فقط، وإنما كان للضاحية، التي اقتيدت منها إلى مكان اعتقالها حاليا، بعدا بارزا؛ فالحي السكني الذي يقطنه أكثر من 5 آلاف نسمة مجملهم من السعوديين وما يقارب 1000 وحدة سكنية، يتمتع بنمطية مختلفة. فإن كنت تتحدث عن موقع كان يرجم فيه حامل السيجارة ومستمع الأغاني بالحجارة، فأنت بالطبع تقصد الخبيبية. وإن كنت تسمع عن رجل يعمد إلى تغطية وجهه بشماغه في حال رأى سيدة منقبة، فهو تحديدا في تلك الضاحية. كما أنها بقيت ترفض باستمرار دخول الوافدين إليها من العمالة؛ إذ كانت تضطر من تعمل في مدرستها الابتدائية الترجل من سيارتها وإكمال الطريق سيرا على الأقدام مع مجرد بلوغ أبواب الحي، الذي أحد أبرز تناقضاته، مدرسة ابتدائية حملت اسم «ابن حزم الأندلسي» صاحب أشهر الكتب التي تحدثت عن الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، «طوق الحمامة». * من أمام منزل المعتق * بعد عملية بحث مضنية استمرت أياما، تمكنا أخيرا من الوقوف أمام منزل المعتق في ضاحية الخبيبية، المنزل الذي شهد تطويقا أمنيا كبيرا طال الحي بأسره، للقبض على اثنين من المطلوبين لدى الجهات الأمنية وبالطبع هيلة القصير التي كانت حينها برفقة ابنتها الوحيدة. صمت مطبق وريبة يواجه بهما كل من يدخل الخبيبية، وتحديدا موقع مسكن «المعتق»، حتى إنه لتنهال عليك أسئلة لا تنتهي عن سبب مرورك ووجودك، من قبل أفراد الحي، وكأن الأدوار تتبدل.