انهيار جنوني للريال اليمني .. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز    "القسام" تعلن عن أسر جنود للاحتلال في كمين داخل نفق في جباليا    عبودية في صنعاء.. مكاتب لبيع البشر وعاملات بلا مقابل في ''فلل'' العاصمة    حصاد كهنة الآل لثمانية أشهر... بين استغلال المشاعر، واستثمار العاطفة!    قيادة «كاك بنك» تعزي في وفاة والدة وزير العدل القاضي بدر العارضة    لعبة المصارفة التي تمارسها الشرعية تحصل على الدولار بسعر 250 ريال يمني    ماذا يحصل على مذبحة سعر صرف؟!    السعودية: حالات اشتباه تسمم غذائي في حفر الباطن وإجراء عاجل من أمانة المنطقة    ريال مدريد يتعادل امام بيتيس في وداعية كروس    الميلان يودع حقبة بيولي بتعادل مخيب امام ساليرنيتانا    باير ليفركوزن يكمل الثنائية بالتتويج بكأس ألمانيا على حساب كايزرسلاوترن    باريس سان جيرمان يتوج بكأس فرنسا بعد تفوقه على ليون في النهائي    بوتين يكشف مفاجأة بشأن مقتل رئيس إيران    لودر بأبين ترتجف تحت وطأة انفجار غامض    الحرب على وشك الاتساع: صراع دامٍ بين الهاشميين بصنعاء والحوثيين!    "فاطمة محمد قحطان" تُدوّن جانباً من معاناة أسرتها جراء استمرار إخفاء والدها    هل هو تمرد أم تصفية؟ استنفار حوثي في صعدة يثير مخاوف من انقلاب داخلي    الحوثيون يواجهون وحشاً جديداً: جرائمٌ غامضة تُهدد صفوفهم!    الحكومة الشرعية تُشهر سيف "الخيار العسكري" لمواجهة الحوثيين    العميد طارق صالح يعلق على فوز العين الإماراتي بدوري أبطال آسيا والأهلي المصري بدوري أبطال إفريقيا    بتمويل سعودي.. العرادة يعلن إنشاء مدينة طبية ومستشفى جامعي بمدينة مارب بمناسبة عيد الوحدة اليمنية    قبائل الصبيحة تودع الثارات والاقتتال القبلي فيما بينها عقب لقاءات عسكرية وقبلية    غزة.. استشهاد 6 نازحين بقصف إسرائيلي على مخيم النصيرات    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    البرلمان العربي: الاعتراف الدولي المتزايد بدولة فلسطين يمثل انتصاراً للحقوق وعدالة للقضية    الرئيس الزُبيدي يشدد على ضرورة اضطلاع الحكومة بمسؤولياتها في انتشال الوضع الاقتصادي والخدمي    الموت يفجع مخافظ محافظة حضرموت    مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي يقدم رؤية للحد من الانقسام النقدي في اليمن مميز    أيمن باجنيد "رجل الظل لدعم الارهاب و تعزيز الفساد في اليمن"    - لاول مرة منع دخول اجهزة إنترنت فضائي لصنعاء من قبل الجمارك فما هي اجهزة الإنترنت الفضائي    برشلونة يعلن إقالة تشافي رسمياً    اليدومي: نجاح التكتل السياسي الوطني مرهون بتجاوزه كمائن الفشل ومعوقات التحرير    الفريق الحكومي: المليشيا تتهرب من تنفيذ التزاماتها بشأن المختطفين عبر خلق مسرحيات مفضوحة    بعد تعادلة مع نادي شبام .. سيؤن يتاهل للدور 16 في كأس حضرموت ثانيا عن المجموعة الثامنة    بن ثابت العولقي: الضالع بوابة الجنوب وقلعة الثورة والمقاومة    البنك المركزي يشرعن جرائم إنهيار سعر الريال اليمني    34 تحفة من آثار اليمن مهددة للبيع في مزاد بلندن    شاهد: مراسم تتويج الهلال بلقب الدوري السعودي    الامتحانات وعدالة المناخ    مليشيات الحوثي تصدر بيانا بشأن منعها نقل الحجاج جوا من مطار صنعاء إلى السعودية    السعودية تعلن عن الطرقات الرئيسية لحجاج اليمن والدول المجاورة للمملكة للتسهيل على ضيوف الرحمن    كيف يزيد الصيف أعراض الربو؟.. (نصائح للوقاية)    حملة طبية مجانية في مأرب تقدم خدماتها لأكثر من 839 من مرضى القلب بالمحافظة    عالم يرد على تسخير الإسلاميين للكوارث الطبيعية للنيل من خصومهم    الفن والدين.. مسيرة حياة    عن طريق أمين جدة السعودية.. بيع عشرات القطع الأثرية اليمنية في لندن    أحدث ظهور للفنان ''محمد عبده'' بعد إصابته بالسرطان.. كيف أصبحت حالته؟ (فيديو)    دورة الانعاش القلبي الأساسي للطاقم الطبي والتمريضي بمديرية شبام تقيمها مؤسسة دار الشفاء الطبية    المهندس "حامد مجور"أبرز كفاءات الجنوب العربي تبحث عنه أرقى جامعات العالم    تصحيح التراث الشرعي (32) أين الأشهر الحرم!!؟    إعلان سعودي رسمي للحجاج اليمنيين القادمين عبر منفذ الوديعة    وزير الأوقاف يحذر ميليشيا الحوثي الارهابية من تسييس الحج والسطو على أموال الحجاج    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    وهم القوة وسراب البقاء    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يكشف الطبيعة الغامضة للثورات والالتباس الكامن في عقول من قاموا بها.. عرض لكتاب في الثورة


المؤلفة : حنة أرِنْدت
ترجمة: عطا عبدالوهاب
الناشر: المنظمة العربية للترجمة
لا شيء يربكني أكثر من سؤالٍ عن معنى الثورة؟..
صادمٌ هو السؤال عن الثورة، وتحديداً في هذه اللحظة التي يبدو فيها سؤالاً كهذا ليس أكثر من فهلوة يقوم بها أحدهم لاستفزازك..حنة ارندت تجنبت باعتقادي في كتابها "في الثورة" وضع تعريف لهذه الكلمة التي يصعب السيطرة عليها أو تكبيلها. فقد أعادتها إلى أصلها كمصطلح فلكي اكتسب أهميته المتزايدة من خلال كوبر نيكوس في أحد كتبه، وبرأي أرندت نفسها فإنها بهذا الاستخدام العلمي قد احتفظت بمعناها اللاتيني الدقيق مظهرة بوضوح الحركة الاعتيادية الدائرية للنجوم، وبما أن ذلك هو خارج تأثير الإنسان، وبالنتيجة فهو لا يقاوم، فإن تلك الحركة لم تتصف بالجدة ولا بالعنف.
بل على العكس فالكلمة تشير بوضوح إلى حركة دائرية متكررة، إنها ترجمة بالغة الدقة لمصطلح وضعه بوليبيوس، وكان أصله قد نشأ كذلك في علم الفلك واستخدم على سبيل التشبيه في السياسة. الثورة فعلٌ قابلٌ للتأويل والتشكيك أيضاً.
وهو ما تقوله حنة أرندت "الثورات ليست مجرد تغييرات، إنها أحداث تواجهنا مباشرةً وبشكلٍ لا مناص منه بمسألة البداية، ومن يفهمون الثورة جيداً هم من سيربحون، أما الذين مازالوا يؤمنون بسياسة القوة بمعناها التقليدي، ويؤمنون بالتالي بالحرب بصفتها الملاذ الأخير في السياسة الخارجية للعالم، فسيكتشفون في المستقبل غير البعيد أنهم حاذقون في العمل بتجارة بائرة وعاطلة".
الحرب والثورة
الكتاب الذي جاء في ستة فصول مترابطة، وتتصدره مقدمة تتناول ثنائية "الحرب والثورة" باعتبارهما قد "حددا اليوم ملامح القرن العشرين، كما لو أن الأحداث لم تفعل سوى الإسراع بتحقيق نبوءة لينين المبكرة"، وهي النبوءة القائلة بعدم إمكانية وجود الشيوعية والرأسمالية جنبا إلى جنب. حتما واحدة يجب أن تموت، وهو ما حدث..!
الحرية إزاء الاستبداد هي جوهر حروب القرن العشرين، وهي من خلقت فارقاً جوهرياً عن عقائد القرن التاسع عشر – كالقومية والأممية والرأسمالية والإمبريالية والاشتراكية والشيوعية وإن لم يزل كثيرون يركنون إليها باعتبارها مسببات مبررة إلا أنها فقدت الصلة بالوقائع الرئيسية لعالمنا- لكن الحرب والثورة مازالتا تشكلان القضيتين السياسيتين المركزيتين. لقد ظلتا باقيتين بعد انقضاء مبرراتهما العقدية كلها.
جاءت الثورات لتمكن الشعوب من القيام بتوزيع عادل للسلطات الدنيوية التي خولتهم إياها قوانين الطبيعة والقوانين الإلهية، لذا فقد تعاقبت الثورات الشعبية واحدة بعد أخرى بتعاقب سريع على رأي أرندت، وما يحدث في هذا القرن قد يكون نموذجاً آخراً يمكن قراءته وإخضاعه للدرس، وأعني الثورات العربية التي بدأتها تونس ومن ثم مصر واليمن وليبيا وسوريا، وكل ثورة منهن تمثل حالة مستقلة بذاتها وجديرة بالقراءة المتأنية.
إن قضية الحرية إزاء الاستبداد أو "فكرة الحرية" كما آمن بها الفيلسوف الفرنسي "سارتر" هي التي تشكل وجود السياسة ذاته منذ بداية تاريخنا البشري.
ومع ذلك فأرندت تنزلق أحياناً في تبرير الحرب وعنفها، منطلقةً من نظرية حال الطبيعة، القائلة بوجود شر أصيل كامن في أعماق الإنسان، وظاهر في البداية الإجرامية للتاريخ البشري.
وتبدو المؤلفة متحاملة على العلوم العصرية التي وصفتها "بالمفضوحة الزيف". فتحت وقع الهجمة المتسقة لهذه العلوم كعلم النفس والاجتماع ما من شيء تم تغييبه أكثر من مفهوم الحرية. لقد كان ظهور هذه العلوم باعتقاد أرندت على حساب حرية الإنسان، وهو أمرٌ مقلق إذا ما تم التعاطي معه وفق رؤيتها. لذا فسنجدها تقول بأن "السبب الوحيد الذي يمكن أن يبرر الحرب هو القضية الثورية للحرية".
معنى الثورة
تستعرض المؤلفة في الفصل الأول المعنون ب"معنى الثورة" تعريف أفلاطون للثورة، وهو تعريفٌ فقير، لا يمكن الاعتداد به بعيداً عن تفسير ارسطو الذي كان قد اكتشف أهمية ما نسميه اليوم الواقع الاقتصادي- بمعنى قلب الحكومة من قبل الأغنياء لتأسيس حكومة أوليغاركية من قلةٍ من المستغلين، أو قلب الحكومة من قبل الفقراء لإقامة حكومة ديمقراطية، إلى جانب تعريف المؤرخ اليوناني بوليبيوس.
كل الثورات تنطلق من بؤرة واحدة هي القضية الاجتماعية برأي المؤلفة، تقول أرندت "لم تكن المسألة الاجتماعية قبل العصر الحديث تؤدي دوراً ثورياً..حينما بدأ الناس يشككون بأن الفقر هو شيء كامن في الظرف الإنساني، ويشككون بأن التمييز بين القلة التي نجحت بحكم الظروف أو القوة أو الغش بتحرير نفسها من أصفاد الفقر، وبين الكثرة الكاثرة العاملة والمصابة بالفقر هو تمييز محتم وأزلي".
وتعيد أرندت الاعتقاد بأن الحياة على الأرض يمكن أن تنعم بالوفرة الغزيرة بدلاً من أن تلعن بالندرة النزيرة إلى ما قبل العهد الثوري في أمريكا، فقد ترعرع خلال التجربة الاستعمارية الأمريكية. وتعزو أرندت ذلك بشكلٍ رمزي إلى المسرح القائل بالتغيير الكامل للمجتمع فقد أعد للثورات بالمعنى الحديث.
قبل ذلك كان جون آدمز، وتحديداً قبل عقدٍ من اندلاع الثورة الأمريكية قد كتب "إني أرى أن استيطان واستقرار أمريكا هو بمثابة فاتحة المخطط عظيم بعناية إلهية، وذلك لتنوير الجاهلين ولإنعتاق المستبعدين من البشر في أرجاء الأرض كلها"، وقد أكد التاريخ دقة تنبوء هذا الرجل الذي كان يرى قروناً إلى الأمام. فأمريكا قبل العصر الحديث بتطوره التقني الفريد كانت قد أضحت رمزاً لمجتمع لا فقر فيه. بعد ذلك بدأت المسألة الاجتماعية وثورة الفقراء تقوم بدورٍ ثوري حقيقي.
لقد ساهم وجود المجتمع الأمريكي قبل اندلاع الثورة في قطع الدورة القديمة للمتكررات السرمدية، والتي قامت على تمييز يفترض أنه "طبيعي" بين الغني والفقير. لكن أرندت تدحض كثير من الدراسات البحثية التي قالت بتأثير الثورة الأمريكية على الثورة الفرنسية، و(كذلك عن التأثير الحاسم للمفكرين الأوربيين على مسار الثورة الأمريكية ذاتها)، وإن كان لهذه البحوث التنويرية ما يبررها، لكنه ما من تأثير مشهود على مسار الثورة الفرنسية. فالذي غذى الحماسة الثورية في أوربا كما تقول ليس الثورة الأمريكية إنما وجود الظروف التي نشأت في أمريكا، وكانت معروفة جيداً في أوربا.
وهناك من عارض بشدة الثورة الأمريكية، ومنهم كريفيكور صاحب عبارة "الفقر المطلق أسوأ من الموت"، فقد اعتبرها نوعاً من المؤامرة من "شخصيات كبيرة" ضد طبقة الأفراد العاديين".
لم تكن الثورة الأمريكية وانشغالها بكيان سياسي جديد، وبشكل جديد من أشكال الحكومة، وإنما أمريكا "القارة الجديدة" والأمريكي "الإنسان الجديد"، والمساواة الرائعة التي يتمتع بها الفقير مع الغني" كتب جفرسون، وهذا ما أشعل الروح الثورية لدى الناس، أولاً في أوربا ومن ثم في أرجاء العالم- وجرى هذا اعتباراً من المراحل الأخيرة للثورة الفرنسية، وحتى ثورات عصرنا لدرجة بدا فيها للثوريين أن الأهم هو تغيير نسيج المجتمع، كما جرى تغييره في أمريكا قبل الثورة، وليس تغيير هيكل الميدان السياسي.
العلمانية وفصل الدين عن السياسة وتصاعد دنيا المدينة ذات المنزلة الرفيعة هي بالتأكيد عوامل جوهرية في ظاهرة الثورة بحسب تفسير أرندت، وهنا تعود إلى الثورة نفسها وهو ما يمكن اعتباره بالضبط تلك المرحلة الانتقالية التي تؤدي غلى ميلاد مملكة علمانية جديدة. هذا يقود إلى أن العلمانية هي ذاتها، وليست مضامين التعاليم المسيحية التي تشكل أصل الثورة.
كان ظهور المرحلة الأولى من هذه العلمانية لمجابهة تصاعد الاستبداد وليست حركة الإصلاح، ذلك أن الثورة بحسب "لوثر" تهز العالم، حيث تتحرر كلمة الله من السلطة التقليدية للكنيسة، الأمر الذي ينطبق على أشكال الحكومة العلمانية كافة.
المفهوم الحديث للثورة والمرتبط بالفكرة القائلة بأن مسار التاريخ بدأ فجأة من جديد، مفهوم لم يكن معروفاُ من قبل اندلاع الثورتين العظيمتين نهاية القرن الثامن عشر.
والمعنى الدفين الذي كان يجهله حتى المشاركون في الفعل الثوري، وتمثلت العقدة في ظهور الحرية، ففي 1793 بعد أربع سنوات من اندلاع الثورة الفرنسية في وقتٍ كان يحدد فيه روبسبيار دوره باعتباره "استبداد الحرية"، وقام كوندورسيه باختصار الشيء الذي يعرفه الجميع قائلاً "إن كلمة "ثورة" لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية، ليتم وضع التقويم الثوري، وكانت السنة الأولى فيه هي سنة إعدام الملك وإعلان الجمهورية".
ما كشفت عنه الثورات كما تشير أرندت هو تجربة أن تكون حراً، وهي تجربة جديدة لا في تاريخ البشرية الغربية بل في القرون التي تفصل بين سقوط الإمبراطورية الرومانية ونشوء العصر الحديث- وإن كانت معروفة في العالم القديم، اليوناني والروماني معاً- لكنها تجربة جديدة نسبياً على الأقل بالنسبة لمن قاموا بها. وتمضي قائلةً بأنه "لن يكون من حقنا الحديث عن الثورة إلا إذا كانت الجدة مرتبطة بفكرة الحرية. إن هذا يعني بالطبع أن الثورات هي أكثر من تمردات ناجحة، وليس لدينا ما يبرر تسمية كل انقلاب يجري بأنه ثورة، ولا أن نتلمس ثورة في كل حرب أهلية تحدث".
حتى العنف لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة، وإنما التغيير هو الوصف الأجدر بها؛ ولا يمكننا الحديث عن الثورة إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعنى بداية جديدة.
لقد كان على المرء لكي يحكم أن يولد حاكماً، وأن يولد حراً في العصر القديم، وأن يكون من النبلاء في أوربا الإقطاعية، لكن الثورتين في أمريكا وفرنسا جاءتا وأعادتا الاعتبار للإنسان، وأسست حقبة جديدة قائمة على المساواة ليس بمفهومها القديم القائل بعدم تساوي الناس في الطبيعة، وقد احتاجوا لمؤسسة مصطنعة هي "المدينة-الدولة" التي ساوت فيما بينهم، بل على العكس من ذلك فالناس ولدوا متساوين فأصبحوا غير متساوين بسبب المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي صنعها الإنسان.
إننا نعيش في عالمٍ يتميز بالتوق إلى أمور جديدة مصحوبة بالاعتقاد بأن الجدة شيء مرغوب به. كما أن جعل مزاج المجتمع الحديث يماثل ما يدعى بالروح الثورية هو أمرٌ شائعٌ حقاً. أما إذا فهمنا من الروح الثورية أنها تنشأ فعلاً من الثورة، فهذا يدعو لضرورة التمييز بعناية بينها وذلك التوق العصري للجدة بأي ثمنٍ كان.
من الناحية النفسانية، فإن تجربة التأسيس المصحوبة بالاعتقاد بأن حكاية جديدة هي على وشك أن تظهر في التاريخ ستجعل الناس "محافظين" وليس "ثوريين"، لأنهم بطبيعتهم يتلهفون إلى الحفاظ على ما تم عمله وضمان استقراره وليس إلى فتح الباب أمام أمورٍ جديدة وتطورات جديدة وأفكار جديدة. وبالنظر أيضاً لذات الموضوع من الناحية التاريخية، فإن رجال الثورات الأولى – من لم يقوموا بالثورة فحسب بل وأدخلوا الثورات في المشهد السياسي- لم يكونوا متلهفين على الإطلاق لأمورٍ جديدة، أو إلى نظام جديد، بل والنفور من الجدة، لم يزل يتردد صداه في كلمة "الثورة" ذاتها كمصطلح قديم لم يكتشف معناه الجديد إلا ببطء وتؤده.
وتتعرض أرندت في نهاية الفصل الأول لنتائج الثورتين الأمريكية والفرنسية، ورغم أن الأخيرة قد انتهت بكارثة حقيقية لكنها صنعت تاريخاً عالمياً، في حين أن الثورة الأمريكية التي كانت مظفرة، ولم تفترس أبنائها كما فعلت الفرنسية لكنها ظلت حدثاً لا تتجاوز أهميته المحلية إلا قليلاً.
المسألة الاجتماعية..البؤساء هم قوة الأرض
الفصل الثاني تتناول فيه أرندت المسألة الاجتماعية وظهورها على المشهد الثوري، ومساهمة جموع الفقراء بالدفع بالثورة الفرنسية إلى مصيرها المحتوم؟..فبظهورهم على مشهد السياسة ظهرت الحاجة معهم، وكانت النتيجة أن سلطة النظام القديم أضحت عقيمة، وأن الجمهورية ولدت ميتة، وكان للحرية أن تستسلم للضرورة، إلى إلحاح عملية الحياة ذاتها. وحينها أعلن روبسبيار "أن كل ما هو ضروري لديمومة الحياة يجب أن يكون مشتركاً للجميع، وأن الفائض وحده يمكن اعتباره ملكية خاصة".
لقد أطلقت الضرورة والحاجات الملحة للناس العنان للرعب وقادت الثورة إلى مصيرها المحتوم، وهي إضاعة اللحظة التاريخية حين غيرت الثورة اتجاهها من ثورة للحرية إلى ثورة لإسعاد الناس.
مع أن ماركس الشاب ظل مقتنعاً بان سبب فشل الثورة الفرنسية في تأسيس الحرية هو فشلها في حل المسألة الاجتماعية، واستنتج بأن الحرية والفقر هما أمران متضاربان.
أما لينين فقد كان الوريث الأخير للثورة الفرنسية، لكن لم يكن لديه مفهوم نظري للحرية، فدوافعه واستنتاجاته كانت متسقة مع الفشل المأساوي لناموس الثورة الفرنسية التي قطعت رأس لويس السادس عشر ليس بصفته مستبداً، ولكن بصفته خائناً، وصاحبها صيحات "تحيا الجمهورية"، وهي دليل على أن كلمة ديمقراطية لم تكن مستخدمة في فرنسا حتى عام 1974.
ومع أن الثورة الأمريكية قد نجحت لكنها لم تأتِ بالدليل بأن الدستور في الحقيقة يمكن وضعه "كونه وجوداً حقيقياً، وبشكلٍ منظور"، ولكنه لم يصبح "للحرية، مثل ما قواعد النحو في اللغة".
نزعة الشك الفتاكة
مشكلة العلاقة بين الكينونة والمظهر واحدة من أقدم المشاكل الميتافيزيقية في تاريخنا. إن المنافق يتصنع الفضيلة بشكل زائف، ويعمل على تسويق نفسه بطريقة مسرحية، فالمنافق كائن متفسخ حتى العظم. وإلى جانب ذلك هو كائن طموح جداً بحسب علم النفس، فهو لا يريد أن يظهر بمظهر الفاضل أمام الآخر، وأرندت مازالت تتحدث؛ وإنما يريد كذلك أن يقنع نفسه، فيزعم بالإخلاص وهذا ما يجعله بغيضاً جداً.
البحث عن المنافقين لا حدود له، ولا يمكن أن ينتج عنه سوى الفوضى. إن الدور الكبير الذي قام به النفاق والولع بفضحه في المراحل الأخيرة من الثورة الفرنسية هو دور مسجل تاريخياً، وقد يستمر في إذهال المؤرخين. هذه الحرب هي التي حولت دكتاتورية روبسبيار إلى عهد للرعب، وقد كانت السمة البارزة لهذه المرحلة هي التطهير الذاتي للحكام.
لقد عقب نجاح هذه الثورة أو بمعنى أدق تجاوزها لأول خطوات الثورة حربٌ على النفاق، وهي اللحظة التي أدخلت الثوار دوامة عدم الثقة بالآخرين فروبسبيار الذي لم يكن يثق بالآخرين بشكل مأفون، ولا حتى بأصدقائه المقربين، وقد انبثق عدم الثقة هذا في النهاية من شكه بنفسه. وهذا ما فعلته الثورة فقبل أن تبدأ بافتراس أبنائها كانت قد فضحت هؤلاء الأبناء. ولم ينتج عن ذلك سوى عمليات التطهير.
لهذا كان تشبيه رجال الثورة الفرنسية المفضل هو أن الثورة تقدم الفرصة لتمزيق قناع النفاق عن وجه المجتمع الفرنسي، ولفضح تفسخ هذا المجتمع وأخيراً لهدم واجهة الفساد والكشف عما وراءها من الوجه السليم والشريف للشعب.
إن الثورة حين تحولت كما تصفها أرندت من تأسيس الحرية إلى تحرير البشر من المكابدة، قد حطمت حواجز التحمل وحررت بديلاً من ذلك القوى المدمرة الناجمة عن سوء الطالع والبؤس، وتضيف ما من ثورة حلت "المسألة الاجتماعية" وحررت الناس من مأزق الحاجة على الإطلاق، ولكن الثورات كلها، باستثناء ثورة المجر في عام 1956 قد سارت على منوال الثورة الفرنسية وأساءت استخدام القوى الجبارة للبؤس والدفع في كفاحها ضد الاستبداد أو الاضطهاد.
إن تمرد المعدة هو الأسوأ على حد تعبير فرانسيس بيكون، وسيبدو غضب الفقراء عندها كقوة لا يقاوم كما حركة النجوم سيل يتدفق قدماً بقوة أولية فيكتنف العالم بأسره.
السعي وراء السعادة
حين جرى تبرير العنف وتمجيده فلأنه يعمل من أجل قضية الضرورة. الضرورة التي تبجل بإيمان بصفتها القوة الجبارة التي تمارس إكراهاً تاماً وهي بالتأكيد، على حد قول روسو، "سوف تجبر الناس على أن يكونوا أحراراً". والتفاعل بين الضرورة والعنف صار سمة مميزة للثورات الناجحة في القرن العشرين برأي أرندت.
تفسخ الكيان السياسي، أو ضعفه قد لا يدفع إلى ثورة، حتى وإن قامت فإنه لا يعني نجاحها، وحتى يكون فقدان السلطة واضحاً تماماً، فإن الثورات لا يمكن أن تندلع وتنجح إلا إذا كان هناك عدد كافٍ من الرجال المهيئين لتولي السلطة، التواقين لتنظيم أنفسهم وللعمل معاً من أجل غرضٍ مشترك.
إذاً، فالفكرة المركزية للثورة هي تأسيس كيان سياسي يضمن المجال الذي يمكن للحرية أن تظهر فيه، بعد ذلك تبدأ المهمة الثانية وهي التحقق من بقاء الروح التي منها انطلق فعل التأسيس.
واتكاءاً على فكرة أن الحرية هي جوهر السعادة، فإن مهمة الحكومة كوسيلة لترويج سعادة المجتمع، وهو الغرض الشرعي الوحيد للحكومة الصالحة"، وعليه فإن أي تجربة للسعادة لدى "المشاركين" أنفسهم لا يمكن أن تعزى إلا إلى "شغفٍ جامحٍ بالسلطة" على رأي أرندت نفسها.
تكوين الحرية
الهدف النهائي للثورة بحسب روبسبيار هو تكوين الحرية، والعمل الحقيقي للحكومة الثورية هو تأسيس الجمهورية، وأرندت تقول بأن روبسبيار قد تأثر بمسار الثورة الأمريكية حين قام بصياغة مبادئه المشهورة، وهي "مبادئ الحكومة الثورية".
إن سوء الفهم الأساسي يكمن في عدم التمييز بين التحرير والحرية، ليس هناك ماهو أكثر عقماً من تمردٍ وتحرير إلا إذا أعقبهما دستور للحرية التي كسبت أخيراً. ذلك أنه "لا قواد الأخلاق، ولا الغنى ولا انضباط الجيوش، ولا كل هذه مجتمعة ستكون وافية بالغرض من دون دستور" أو كما قال جون آدمز. لكن أرندت تقول بأن الفرق بين دستور هو من عمل حكومة ودستور كون الشعب بواسطته حكومة هو فرق واضح، والسبب يكمن في عدم الثقة بالسلطة. لأن أولئك الذين يستخدمون السلطة يحتمل أن يتحولوا إلى "وحوش مفترسة".
التقليد الثوري.
في الفصل السادس والذي تتناول فيه أرندت التقليد الثوري وكنزه المفقود، وتشير في مطلعه إلى أن المسار الكارثي للثورة الفرنسية قد أدى في نهاية المطاف إلى قطع الصلات القوية، الروحية منها والسياسية، بين أمريكا وأوربا، والتي استمرت طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر.
لقد أخفقت الثورة، وهذه نتيجة يمكن تعميمها على كل الثورات التي لم تنجز "كيان للحرية"، كما وإخفاق فكر ما بعد الثورة في تذكر الروحية الثورية وفي فهمها من حيث المفاهيم قد سبقه إخفاق الثورة في أن توفر لهذه الروحية مؤسسة دائمة.
يحتاج هذا الكتاب المثير والمدهش لأكثر من قراءة، وربما لحيزٍ أكبر للإلمام بما يحتويه نقد للثورات الحديثة ورجالاتها، وما رمت بثقله على القرنين الأخيرين، وإن كان الكتاب اقتصر على ثورات القرن العشرين.
إذاً ما الذي يمكن أن تفضي إليه اللحظة الثورية بالغة التعقيد عربياً؟
قد ينتج عن ذلك كيان سياسي جديد يرعى الحريات الخاصة والمدنية، وإما أنها ستعيد إنتاج النظام السابق بصورة أخرى، وبذلك تكون الثورة قد فشلت، أو قد يسيطر رجال الثورة أو المؤسسين على الثورة دون أن يقدم ذلك نتائج تذكر، وبذلك تكون الثورة قد أخفقت كما حدث مع الثورة الفرنسية.
المؤلفة
ولدت في مدينة هانوفر الألمانية 1906
درست في جامعة ماربيرغ وجامعة فرايبيرغ
حصلت على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هيدبيرغ
في عام 1933 هربت من ألمانيا إلى فرنسا، وشاركت هناك في أعمال هجرة اللاجئين من الأطفال اليهود إلى فلسطين
في عام 1914 ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وحصلت على جنسيتها بعد عشر سنوات من الإقامة.
فهرس
- من الأمور الجوهرية جداً في أي فهم للثورات في العصر الحديث أن تتزامن فكرة الحرية مع التجربة لبداية جديدة.
- إن التحرر والحرية ليسا مثل بعضهما. قد يكون التحرر هو شرط الحرية، ولكنه لا يقود إليها آلياً. إن فكرة الحرية (liberty) التي ينطوي عليها التحرر لا يمكن أن تكون سلبية، لذا فحتى النية بالتحرر لا تتشابه مع الرغبة في الحرية.
- يقود حكم الفرد الواحد إلى الديمقراطية، وتقود الديمقراطية إلى الأوليغاركية (أي حكم جماعة صغيرة همها الاستغلال وتحقيق المنافع الذاتية) والأوليغاركية تقود إلى الملكية والعكس بالعكس.
- إن جرائم الاستبداد تسرع في تقدم الحرية، وتقدم الحرية تكثر جرائم الاستبداد.
- ربما كان الثوريون المحترفون في أوائل القرن العشرين من مغفلي التاريخ، ولكنهم هم أنفسهم ليسوا مغفلين بالتأكيد..!
- ضمير الرجل الفقير ضمير مرتاح، إلا أنه يشعر بالخزي.
- مماهاة النظام الملكي بصفته حكم رجل واحد بالنظام الاستبدادي هي التي قادت إليه الثورات سريعاً.
هامش
- الحوار الذي جرى بين لويس السادس عشر ورسوله ليانكورت حين أبلغه الأخير بسقوط الباستيل وتحرير بضعة سجناء منه، وتمرد القوات الملكية قبل وقوع هجوم شعبي، صاح قائلاً :"إنه تمرد" فصحح ليانكورت له الأمر قائلاً :"كلا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة".
- عليّ أن أدرس السياسة والحرب حتى تتوفر لأبنائي الحرية لدراسة الرياضيات والفلسفة. ينبغي لأبنائي دراسة الرياضيات والفلسفة والجغرافيا والتاريخ الطبيعي، العمارة البحرية، الملحة، التجارة والزراعة لكي يقدموا لأبنائهم الحق بدراسة الرسم والشعر والموسيقى والعمارة والنحت والسجاد والبورسلين"
من رسالة جون آدمز لزوجته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.