في حلقتنا الثامنة هذه آثرنا أن يكون حديثنا عن النقد تواصلا من الحلقات السابقة حوله بصورة ضافية ، بحيث نركز على جانب التخصص للدكتور في النقد .. ونبدأ بتمهيد موجز حول الأدب المقارن وأهميته : توطئة الأدب المقارن، في أبسط مفاهيمه وتعريفاته، هو ذلك النوع من الدراسات الأدبية الذي يتمثل جوهره في إجراء مقارنات بين آداب قومية مختلفة، أي بين آداب كُتبت بلغات متعددة. ذلك إنّ تجاوز حدود الأدب المكتوب بلغة واحدة هو المسألة الوحيدة التي لا خلاف حولها بين المقارنين على اختلاف اتجاهاتهم ومدارسهم، أمّا المسائل الأخرى فيمكن اعتبارها كلّها خلافية. ولكن حتى حول هذا الحدّ الأدنى فإنّ الاتفاق غير كامل. وانطلاقا من ذلك سنقوم بطرح أسئلة حول هذا الأدب الذي بلغ شأواً ، وطوراً متقدماً : بعد هذه التوطئة الاستهلالية، يأتي سؤالنا التالي : * كيف ينظر الدكتور عبدالله حسين البار إلى الأدب المقارن والاتجاهات النقدية الحديثة؟ في ظل هذا الاختلاف حول بعض مضامينه؟ (ج) للأدب المقارن، كما يصفونه، والأدق أن نقول النقد المقارن لأن الأدب يتعلّق بالإنشاء الإبداعي، أما النقد فيتعلق بالوصف والتحليل، وهو ما يقوم عليه النقد المقارن. ولكنّ الدارسين في العربية وسواها درجوا على هذه التسمية حتّى غدت اصطلاحا. ففي الانجليزية يقولون (comparative literature)، ويعنون بها الأدب المقارن. وهو يقوم على دراسة علاقات التأثر والتأثير بين أدبين في لغتين متغايرتين، كما هو موقف المدرسة الفرنسية التي أسسها فان تيجم، أو بين أدبين في إطار لغة واحدة كما يقول أصحاب المدرسة الأميركيّة ومن أعلامها ريينه ويليك. وتشترط المدرسة الفرنسية إلى ذلك الاختلاف ثبوت وقائع الالتقاء التاريخي بين الأدبين، أما المدرسة الأميركية فلا تشترطه، وحسبها اكتشاف التماثل والتشابه بين عملين أدبيّين أو أديبين من أدباء أمتين يكتبان بلغة واحدة انجليزية أو فرنسية أو ما اشبه هذا. هذا النقد المقارن مفيد جدا للقارئ، لأنه يمنحه زادا ثقافيا لا يتهيّأ له إن وقف النقد عند حدود النقد العام الذي يمارسه هذا الناقد أو ذاك من حيث إن الناقد المقارن يتنقل في عوالم من التاريخ والفكر والاتجاهات الأدبية لا في أدبه القومي فحسب ولكن في آداب أمم أخرى ذات تجارب متنوعة في الإنتاج الأدبي ولها عراقة في عالم الإبداع. وهو هام جدا للمبدع من جهة وجوب توكيد الصلة بين الآداب القومية وسواها من آداب العالم، وهو ما نفتقده اليوم، ناهيك بقدرة ذلك النقد على الكشف عن صور التأثر بتلك الآداب الأجنبية التي شكل منها المبدع إطاره المعرفي والثقافي. وأضرب لك مثلا، هذا أحمد شوقي عرفه القراء شاعرا غنائيا من طراز رفيع، وعرفوا له بعض المسرحيات، لكن القليل منهم عرفوا أنه كتب شعرا للأطفال على لسان الحيوان، تنوعت دلالاته السياسية والاجتماعية واللغوية والجمالية وما إلى ذلك، وكان المعهود في أذهان من عرفوا تجربة شوقي تلك أنه كان متأثرا بتعريب عبد الله بن المقفع لكتاب كليلة ودمنة نثرا عن الهندية والفارسية، وما نظمه منها أبان اللاحقي في العصر العباسي، ولكن القلة منهم هم من عرفوا أن شوقيّا كان قد اطلع على تجربة لافونتين وهو شاعر فرنسي كتب ديوانا كاملا للأطفال على لسان الحيوان، وكان محمد عثمان جلال وهو شاعر مصري نقل من ذلك شيئا وأظنه نظمه بالعامية إن لم تخني الذاكرة. صنيع شوقي هذا لا بد من درسه في إطار المقارنة مع ما صنعه لافونتين حتى يتبين القارئ مظان الإبداع عند شوقي وهو المتهم بالتقليد كما نص على ذلك العقاد في نقده لشوقي. ولا يستطيع فعل ذلك إلا دارس تمكن من دراسة الأدبين العربي والفرنسي وهذا ما لا يقوى عليه كل أحد، ومن هنا أقول إن النقد المقارن صعب لآنه يتطلب إلماما بكثير من اللغات الأجنبية، وهو ما عرفناه عند دارسين كبار مثل غنيمي هلال ولويس عوض وطه ندا وسيزا قاسم وغير هؤلاء عدد كثير لا يكاد يلم بهم الحصر. ومنهم من سار على خطى المدرسة الفرنسية كغنيمي هلال وطلابه، فرأيناهم يؤكدون على إثبات الصلة التاريخية بين الآداب التي يدرسونها، وقد درس كثير منهم العلاقة بين الأدبين العربي والفارسي بصورة خاصة كأحمد الحوفي، وبديع محمد جمعة، وطه ندا، ودرس هو نفسه أعني غنيمي هلال قصة ليلى والمجنون في الأدبين العربي والفارسي في كتاب من أمتع كتبه وأكثرها تشويقا، ناهيك بدراساته في موضوعات أخرى تتصل بالنقد المقارن فقد كان من أبرز من أصّلوا لهذا النقد في الأدب العربي. وهناك من درس موضوعات الأدب المقارن في إطار المفهوم الأميركي لهذا النقد كما يمكن أن نعد دراسة لويس عوض عن رسالة الغفران وتأثر المعري بالرحلة إلى العالم الآخر كما جاءت في الأدب اليوناني، ومع أنه حاول أن يثبت أن المعري كان قد اطلع على نماذج من الأدب اليوناني في صغره وشهد بذلك بعض علماء زمانه أو التالين لهم إلا أنه لم يستطع توكيد ذلك توكيدا يقينيا، ومن هنا ظل افتراضا. ومثله دراسة أحمد عتمان عن قصة فيدرا التي غدت مسرحية كتب عنها يوريبيدس وسينيكا وراسين، فدرس طرائق كل واحد منهم في صياغة المسرحية وغاياته من ذلك التشكيل. ولهذا الرجل دراسة ممتازة عن المصادر اليونانية في مسرح الحيكم من أعمق الدراسات التي كتبت عن مسرح توفيق الحكيم. ناهيك بدراسات أخرى كثيرة عن تأثر الآداب الأوربية بالأدب العربي، فالمستشرق بلاثيوس تحدث عن أثر قصة المعراج ورسالة الغفران في الكوميديا الإلهية لدانتي، وأثبت بالدليل أنهما كانتا مترجمتين إلى الإيطالية، ثم جاء بعض الدارسين العرب فكتبوا عن هذا الموضوع مثل بنت الشاطئ في كتابها الغفران، وصلاح فضل في كتاب كامل خصصه لدراسة أثر الأدب العربي في الكوميديا الإلهية. ولا يزال لهذا النقد المقارن حضوره في كثير من الجامعات على الرغم من مزاحمة بعض المقولات النقدية ما بعد اللسانيات له كالتناص وقلق التأثير وما إلى ذلك. لكني أحسب أن مثل تلك المقولات ذات سمة جزئية أما النقد الثقافي المقارن فذو سمة كلية، والبعد الثقافي فيه أخصب من تلك المقولات. والنقد المقارن يتطلب إعدادا عظيما لا يقوى عليه كثير من الشباب المتقدمين للدراسات العليا في بعض الجامعات اليمنية أو العربية، وأهم شيء في هذا المقام الإلمام بعدد من اللغات إلماما كبيرا يتجاوز الإلمام بالأدب القومي وأعني به هنا الأدب العربي. ولهذا أرى النقاد الذين تمكنوا من دراسة أدبين مختلفين استطاعوا أن يقدموا فتوحا في النقد أكثر من سواهم. وعندك مثلا الناقد العراقي عبد الواحد لؤلؤة في كتابه البحث عن المعنى، فهو وإن تقادم به العهد لا يزال يمثل حالة متميزة في النقد العربي الحديث، ومثله دراسات الدكتور نذير العظمة عن تأثر السياب الشاعرة الإنجليزية إيدث ستويل، وإن كان في هذا تابعا للدكتور إحسان عباس في كتابه عن بدر شاكر السياب. وبالمناسبة فللدكتور إحسان عباس كتاب هام وخطير عن ملامح يونانية في الأدب العربي القديم أثبت فيه علاقة بينهما وجسد فيه صور تلك العلاقة على نحو لم يألفه دارسو الأدب العربي القديم كشوقي ضيف ومن لف لفه. * هل تفاعل الأدب المقارن مع المذاهب النقدية الحديثة والمعاصرة كالنقد الجديد والنقد الجدلي ونظرية التلقي ونظرية التناصّ…. واستخلص ما يترتب على استيعاب تلك المذاهب بالنسبة لحقله المعرفيّ. وهل كانت ثمة إشكالية منهجية ونظرية محور دراسات كثيرة صبت في هذا الاتجاه، ما قولك كناقد؟ (ج) من وقف على نماذج من تحليل من يستخدمون النقد المقارن في منتصف القرن العشرين يكتشف وقوفهم عند حد تبيان العلاقة بين أدبين أو أكثر، أو عملين أدبيّين أو أكثر، كما فعل أحدهم لا يحضرني الآن اسمه قام بتحليل علاقة رواية روبنسون كروزو بقصة حي بن يقظان، أو ما فعله د. أحمد عتمان حين درس موضوع أوديب وأصوله الأسطورية وهمومه الوطنية على خشبة المسرح المصري. أما من يتابع ما استجدّ من دراسات في إطار النقد المقارن يكتشف ما حدث من تطور في إجراءاته النقدية في إطار النقد اللسانيّ بنيويّا كان أم ثقافيا، وهو ما نجده عند سيزا قاسم وعز الين المناصرة، وهذا الرجل عرفه بعض القراء شاعرا فلسطينيا من جيل الستينيات ولكنه أستاذ كبير وناقد هام من أساتذة النقد الثقافي المقارن. هذا الوصف المختزل يبين لك أن النقد المقارن يستطيع تطوير إجراءاته بحيث يتماشى مع تطور النظرية النقدية في اتجاهها اللساني بكل صوره. ودعني أقل كلمة في هذا الاتجاه للدارسين في الجامعة (في حضرموت أو في سواها من جامعات اليمن) ينبغي الاهتمام بهذا النقد خاصة من جهة أولئك الذين أجادوا لغة أجنبية، فتجاوزوا بها حد الاستخدام التداولي إلى حد التفكير في نظم القيم والآداب والفلسفات والنظريات النقدية عند هذه الأمة أو تلك ليستطيعوا خدمة الأدب العربي فائدة جلّى، وإن هم راموا عقد مقارنات بين الأدب العربي وسواه من آداب فذاك هو المبتغى لكن لا بد لهم من الإلمام بالأدب العربي إلمامهم بالآداب التي درسوها في لغاتها الأجنبية، فهل نحن فاعلون؟ * هل يستطيع الأدب المقارن أن يقدّم خدمة مهمة للأدب والثقافة العربيين، وأن يظهر أنّ للدراسات الأدبية المقارنة دوراً جوهرياً في معالجة القضايا الراهنة للأدب العربي، ما لم ينطلق الأدب المقارن من منظوره الرحب الذي يأخذ الأبعاد القومية والإقليمية والعالمية للآداب في الحسبان؟ (ج) أظنه مستطيعا، وأنت تلحظ هذا من خلال الدراسات التي قام بها بعض الأعلام الذين سلف ذكرهم في الحديث. * مما لا يمكن إنكاره حقيقة أنّ بحوث التأثير تعطي الجانب المتأثر دوراً سلبياً، إذ تضعه في موقف المنفعل لا الفاعل، طامسة بذلك دوره الإيجابيّ الخلاق.. ما تعليقكم على ذلك؟ (ج) هذا قولٌ إن ثبت غير صائبٍ، فما من أدب إلا وهو عرضة للتأثر والتأثير. والأدب الذي يقف عند حدود الموجود في ثقافته القومية يكون هشّا ومكرورا ومعادا ويقل فيه الجديد حتى يصل إلى حد العدم. والأمة القوية ذات الثقافة العريقة هي التي تجدد خلاياها بالانفتاح على ثقافات وآداب أمم أخرى لتصوغ من هذا التلاقح شيئا جديدا ومغايرا للموجود. * كما هو واضح في عدد من الكتابات التي ظهرت أن النقد عندنا وبكل مرارة غير مستوعب للنصوص الإبداعية المنتشرة في جسد الواقع الثقافي وفي كثير من الاحيان لا يصدر أحكامه إزاءها بالسلب أو الايجاب .. ومن هنا ظهرت الكتابات التي لا تمتلك القدرة على سبر أغوار النص .. وبتعبير أدق .. أين النقد المكتشف لأبعاد النص الشعري الذي يدخل في جدل حياتي وعقلي ضمن سياق التبدلات الكامنة ضمن سياق التطور النفسي والاجتماعي والاقتصادي واللغوي في بيئة حاضنة؟ - النقد المواكب ضرورة يقتضيها الإبداع ويتطلبها. والمقصود به ذلك النقد الذي يواكب حركة الإبداع في كل صوره, ويرعى تقلبه في المنجز من المُبْدَع شعرا كان أو نثرا. وهو لا يخرج في كثير من فعالياته على دائرتي التقويم والتقييم. وإذا كانت غاية التقويم سداد المعوجّ, وإصلاح الخرب المتهالك, وترميم المتهدم المكسور في بعض جوانب العمل المُبْدَع, فإن هدف التقييم منحه قيمة تحدد هويته الإبداعية وتسمه بسمة تتلاءم مع طبيعته الذاتية فيحكم له أو عليه. صورة النقد على ذلك النحو الموصوف سلفا غابت عن صحفنا السيّارة فغدا كل ما ينشر من شعر أو نثر إبداعا فارقا, وكل الكاتبين مبدعين لا نظائر لهم, فاستوت الأنوار والظلم ولم يعد في إمكان المرء الانتفاع بناظره، وغدا الانصراف عن متابعة الإبداع راحة للعقل, وعافية للنفس وسلامة للذوق من الوقوف أمام القبح عجزا فلا يستطاع نقده ما استمرت جوقة المداحين تدق طبولها وتتعالى صيحات معازفها حتى غطت على كل شيء وكانت النتيجة ان تغرّب النقد وتاه الإبداع. على أنك لا تعدم في أحيان مبدعا أفلت من شرك هذه المأساة فتحرر بإرادته من قبضة من نصبوا له شركا للإيقاع به وبأمثاله فمضى يحلق بعيدا لكنه يعاقب بالصمت. وباللامبالاة وعدم الاكتراث مادام آبقا لا ينصاع لما يراد منه ومن أمثاله, ولا يصبح الصمت هنا موقفا نقديا يومئ إلى ما في عمله من ضعف ووهن ولكنه يعد سوطا يجلد به المبدع لأنه كان مبدعا حقا, وتكون ضريبة موقفه ذلك أن تتوارى عنه الأنظار وتنبو قليلا, ويتراجع عنه الذيوع فلا يشار إليه إلا على استحياء. لكن التاريخ في آخر المطاف ينصفه فينال ما يستحقه من تقويم ومن تقييم وإن تأخر الزمان به, فيعاد تكريمه بتقويمه وتقييمه ثم يشق طريقه إلى أفئدة المتلقين وتحدّق في إبداعه عيون الدارسين ويغدو مع الأيام علما في رأسه نار كما يقولون. ومن هنا نخلص إلى أن حاجتنا للنقد الذي يواكب العملية الإبداعية ماسة وملحة وضرورية لأن فيه ما يساعد الشاب الذي يجرب الإبداع على مختلف صوره على اكتشاف ما في منجزه اللغوي من ابتكار او عقم, من ابداع او خواء لا ابداع فيه. فهل نحن مقبلون على شيء من هذا وقابلون به أو نحن مستمرئون ما نحن فيه وليذهب المبدعون وإبداعهم إلى حيث شاءوا وشاء لهم صمتنا القاسي ولا مبالاتنا المجحفة؟ في حلقتنا التاسعة القادمة سنواصل الرحلة مع الدكتور عبدالله حسين البار ،حيث عرضت أسئلتكم التي جاءت ضمن مداخلاتكم القيمة ،ليجيب عليها بردود ضافية وشافية .. ترقبونا قرائي الكرام .. نسأل الله الصحة والعافية وطول العمر .