توفر مقاهي المكلا كأي مقهى في العالم فرصة لسماع الأخبار المستجدة في عالم المجتمع والسياسة التي تنشأ حولها التعليقات ووجهات النظر والتكهنات المختلفة في أجواء نسيم البحر، ورائحة البخور العابر بين لحظة وأخرى، ولذعة الشاي الذي تعد جودته جزءا مهما من سمعة المقهى في انسجام داخلي حميم بين الأصدقاء وسط حركة الناس العابرة، فالمقهى المكلاوي مقهى مفتوح مغلق في وقت معا، يطرح همومه السياسية مباشرة ودون ترتيب مسبق مما يجعله أكثر جاذبية بعيدا عن الترتيبات والانتظامات الثقيلة على النفس، ولعل كثيرا من الآراء والمواقف السياسية تولدت في تلك المقاهي كمجال تلقائي مؤثر يعمل على تفعيل الآراء وتنشيطها بصورة أكبر. وصاحب المقهى يجب أن يكون مكلاويا خالصا أو حضرميا في الأقل يحس الجالسون فيه بدفء الصديق بما يمنحهم حرية الثرثرة كبرلمان حقيقي مصغر بدون تكتلات، يجيد سكب الماء المغلي بمهارة ورشاقة ويذيب السكر والشاي في الأكواب بقياس دقيق وبراعة، يساعده موزع الشاي بنكهته الودودة وابتساماته كجزء من ذلك الوجود المنسجم بروحه التنفيسية العالية. وإذا أحس الجالسون بغريب ينتبهون إليه بحساسية بالغة ويتغامزون بينهم ويتهامسون (صهدود) في إشارة إلى أن الرجل مخبر، أو قد يكون مخبرا، والصهدود هو قطعة الزجاج الحادة الجارحة بقوة. هو مقهى سياسي اجتماعي تمتزج فيه هموم الناس بأحلامهم وتبرمهم بتطلعاتهم. ولأنه صوت صادق وتلقائي يحاول المخبرون ارتياده كحضن دافئ يشجع على طرح الآراء المختلفة والاسترسال فيها بحماس وحيوية، وإن كان الخلاف يشتط فيه أحيانا وترتفع الأصوات بين المتحاورين. المقهى مرتكز رئيس لقياس رأي الشارع، ولكل جماعة مقهاها المفضل الذي لا تستسيغ غيره، يتنفسون فيه بعد عناء يوم كامل من الدوام الرسمي، ويزداد حديثهم انتشاء في أثناء تعاطي أكواب الشاي والنسيم العليل وقفشات الأصدقاء، الأمر الذي يدفع للتعلق به والحنين إليه. ولعل المقهى أحد الأسباب وراء قلة النوادي الاجتماعية والثقافية بالمكلا، وقد سلبت مجالس القات مؤخرا كثيرا من رواد المقاهي المكلاوية كما سلبت شيئا من حيوية المقهى الأصيل الذي مازالت له جاذبيته لاسيما مقاهي المكلا القديمة بكراسيها الخشبية العتيقة الفردية والجماعية التي ظلت تحافظ على جزء من نكهة المكلا الشعبية الخاصة. ولعل عددا من القادة السياسيين من أبناء المكلا بدؤوا من المقهى وتمرسوا فيه، وكثير من الشباب يرتادونه اليوم مجربين النقاش والجدال وصقل الرأي ممزوجا بروح الفكاهة والتنكيت كآبائهم، ورواد المقهى لا يحبون من يغالي بينهم في المدح، ويميلون نحو الاقتصاد فيه، وإن كانوا يطلقون أعنتهم أحيانا فيما سوى ذلك مما قد يتصل بموقف سياسي أو اجتماعي أو نفسي، لكنهم جزء مهم من جمال المقهى وروحه البديعة.