كثيرة تلك الآثار التي خلفها وراءهم رواد من أعلام حضرموت مضوا بعد أن أدوا واجباتهم القومية نحوها، لكن قليلاً منهم من لقي ورثة يعنون بميراثهم العلمي فيسعون في المحافظة عليه ونشره بين الناس من المهتمين والباحثين . مراد أحمد عوض باوزير وأخوته كانوا من هؤلاء القليلين الذين قاموا بحق الأبوة وحق الواجب الوطني في حفظ ونشر مأثرة والدهم العظيمة، وهي صحيفة ( الطليعة ) التي كانت الأولى من نوعها في حضرموت . لقد أصدر أبو مراد هذه الصحيفة الرائدة في وقت من أكثر الفترات حساسية وأهمية في التاريخ الحضرمي المعاصر ( 1959 – 1967 )، فكانت شاهدًا حيًا على اعتمالات جمة شهدتها تلك الحقبة في كافة المجالات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وما اكتنفها من تطورات ساخنة، ومتغيرات بزوايا حادة وانعطافات أكثر حدة . لقد برّ مراد بأبيه فنشر علمه وجهده الثقافي والصحافي، وبرّ بوطنه فأظهر المشهد العام له والذي كان ملفوفًا بين طيات أوراق تلك الصحيفة، فنشره للناس ليلتقط منه كل مهتم ما يهمه من ذلك المشهد الذي يبدو ماثلاً في صفحات الطليعة وهو ينبض بالحياة . لقد قام مراد وبعناية فائقة وصبر دءوب بتصوير جميع صفحات أعداد الصحيفة في أيام معدودة، وهي التي ظل والده يتعهد إصدارها لسنوات ممدودة لنحو ثماني سنوات، تصويرًا إلكترونيًا بمبادرة فردية، دون استعانة بأي جهة رسمية أو أهلية، يحدوه في ذلك رغبة في بر والده وتحقيق مراده في نشر صحيفته بين المهتمين والباحثين بطريقة تضمن تيسير المهمة لهم، مع صون الصحيفة نفسها من الضياع، وهو ما حققه مراد بإتقان وإبداع . وحين اتصل بي مراد وحقق لي مرادي من الاطلاع على كامل أعداد صحيفة الطليعة، لم تعد مركبة الزمن خرافة عندي، إذ خيل إلي أن حاسوبي المحمول بمجرد أن وضعت فيه القرص المدمج المحتوي على مجموع أعداد الصحيفة، قد تحولت مفاتيحه إلى أزرار مشغلة لمركبة الزمن وصارت شاشته نافذة أطل منها على معالم الزمن الذي تحملني إليه، وهو زمن صدور الصحيفة . فإذا بي أشاهد سلطانًا يلهو في قصره، مشغول بقرشه وكرشه، حتى يهوي عن عرشه، وأسمع كاتبًا يحذر أمته بنثره وشعره، وخطيبًا يعظ في منبره، وفي جانب آخر أرى لاعبًا يسدد رميته، وتاجرًا يعرض سلعته، والناس قد عمت بهم البلوى، فهم يكثرون من الشكوى، ولا يجدون وقتًا لقراءة مقالة أو سماع فتوى، وينتهي المشهد بسطوة الخادعين المخدوعين الذين منوا الناس بالأماني العذاب، وساموا وجهاءهم سوء العذاب، ثم تركوهم يجرون وراء السراب، حتى انتهت بهم الرحلة إلى وحلة . وعلى كل حال نهنئ مراد الشاب الأحق بصفة الخلوق، والذي انتصر على مشاغله، وحقق ما عجز عنه الآخرون، ومن بينهم من نراه أولى بالعناية بميراث والده الثقافي والصحافي بمهمة الحفظ والنشر، لا أن يستره عن الجميع، ويؤثر به المصانيع .