* ذات يوم كان الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراق راجعاً من الحج وإذا به بعريش عرافة إمرأة عجوز فسلم عليها ودار بينهما حديثاً, قالت له: أيها الحجاج سيخلفك رجلاً أسمه يزيد وهو جديراً به أكثر منك أيها الجبان الهزيل الحقود الكذوب!.. فجن جنون الحجاج وطلب منها أن تكمل أسمه فرفضت.. فألح عليها وهددها فإذا بها تصر على الرفض قائلة: أن أسمه يزيد ولن أزيد على شيءٍ من أسمه.. ثم حاول أن يغريها بالمال.. فطلبت منه أن يأتيها في اليوم الثاني وستخبره عن أسمه كاملاً.. لم ينم الحجاج ليلته وإذا به مع بزوغ شمس اليوم التالي.. يهرول إلى عريش العرافة.. فلم يجدها فأمر جنوده بالبحث عنها فكأنما الأرض أنشقت وبلعتها.. * أكمل الحجاج مسيرته إلى أن وصل العراق وفي ذهنه هواجساً إجرامية من أحاديث العرافة حرمته منامه وأعمت بصيرته وزادت من حقده ووحشيته.. وأخذ يبحث في العراق حجراً حجراً عن رجلاً أسمه يزيد من المحتمل أن يكون كفواً له فلم يجد.. أخد يفكر أياماً طويلة فأشاروا عليه بطانته وحاشيته أن العرافة لعلها كانت تقصد يزيداً بن المهلب, أحد قادة الفتح الإسلامي في المشرق العربي.. وهو شاباً مهاباً شجاعاً ورث الحرب والقتال عن أبيه قائد الفتوحات الإسلامية المهلب بن أبي سفرة ومرافقاً لوالده في حروب الفتوحات الإسلامية هناك.. ومن دنائة الحجاج وخسته وتشبته بالكرسي والحكم والإمارة.. وهو الذي رآه ذات يوم عمر بن عبدالعزيز بن مروان الذي أصبح فيما بعد خامس الخلفاء الراشدين.. حينما قابله وجهاً لوجه بعد خروج الحجاج من بلاط الخليفة عبدالملك بن مروان فأخذ الحجاج يتملق عمر بن عبدالعزيز وهو الأمير أبن أخ الخليفة فرد عليه عمر: أنت ياحجاج حقوداً لجوجاً كذوباً جباناً.. لأن أوكل إليّ هذا الأمر لأقطعن عنقك.. * من صفات الحجاج وحقده ومكره وجبنه أنه وصل إلى كرسي الإمارة بالخداع والمراوغه والتملق والخساسه ينحني لعبدالملك بن مروان ويقبل رجله ويعرض عليه أن يوليه مقابل أن يفتح له بلاد الحجاز ويقتل عبدالله بن الزبير ومن معه من الصحابة ويحاصر مكة.. وفعلاً كان له ذلك ومن فضائع قبحه وإجرامه أنه رمى الكعبة المشرفة بالمنجنيق وحاصر مكة حتى يعجل بسقوط إمارة ابن الزبير, وينال الحظوة والمنصب الأبدي من الأمويين, غير مكترث بعقوبة الله عز وجل في إستباحة بيته المحرم وإهانة الكعبة المشرفة وإحراقها وتدمير بعض أركانها, وبقي الحجاج في منصبه عقدين من الزمن جار فيها على البلاد والعباد وسال الدماء وأزهق أرواح الأبرياء وقتل الضعفاء وأعدم رجال الدين والتابعين والفقهاء والعلماء وكل من يعارضه أو ينتقده يقطع عنقه وحدثت ثورات كثيرة في العراق مطالبة بعزله بسبب بطشه وظلمه أخمدها بالسيف ومن أشهر هذه الثورات ثورة عبدالرحمن بن الأشعت.. * هذا حال المناصب وشهوة الحكم لأجل الوصول والبقاء في الكرسي يرتكب الجرائم ويستمر فيها كل من هو غير كفوأ وغير جدير بالإمارة.. فالحجاج أخذ على عاتقه تصفية كل خصومه وقتلهم والقضاء عليهم حتى لا يعطي للخليفة فرصة فيما إذا أراد عزله في أن يعين بديلاً عنه.. ثم تقرب من المهلب بن أبي سفرة ليتزوج بأبنته هند فرفضته.. ولكنه من دهائه أنه أحرج أبيها بأن جعل الخليفة بنفسه يخطبها له.. وبهذا التصرف الدنئ حاز بهند وهو غير جديراً بها.. كل ذلك حتى يفتك بأخيها يزيد فيما بعد.. ومن غرابة الأقدار أنه أستطاع عن يغدر بأخيها يزيد وهو لا يجيد في سياسته وحكمه غير الغدر وأودعه في قبو قصره ليشرف على تعذيبه بنفسه.. ويسمع زوجته هند صراخ أخيها من ألم التعذيب والمعاناة.. رافضاً قتله وحريصاً أن يكون تحت قصره مباشرة مخافة إيداعه السجن لكي يطمئن من عدم هروبه والإفلات منه.. * وهكذا بقي يزيد بن المهلب تحت تعذيب الحجاج فترة طويلة كل ذلك لأن العرافة أخبرته "أن رجلاً أسمه يزيد سيخلفك في إمارة العراق" وما ذنب يزيد في ذلك إلا لأنه رجلاً شاباً محارباً شجاعاً يشار إليه بالبنان ويترأس الجيوش مع والده ويقود معه الفتوحات مقاتلاً وفارساً مقداماً وليس مثل الحجاج كذوباً خبيثاً جباناً يكون في مؤخرة الجيش فإذا أنتصروا أنتقل إلى المقدمة يتبجح ويستعرض رجولته وفروسيته بعد إنتهاء المعركة.. وإذا إنهزموا كان أول الفارين الهاربين المولين الأدبار الناجين بأرواحهم من الموت.. * وطبعاً شتان بين الرجلين فالحجاج ساعي للمناصب والخلود فيها وسفك الدماء وجار في الأرض الفساد ومع بعض مناقبه إلا أن مؤرخي كتب التاريخ ذكروه بالطاغيه والسفاح.. وأما يزيد بن المهلب فرجلاً محارباً لا يسعى للمناصب ولكنه يسعى للفتوحات والقتال ونشر الإسلام.. وبعد مساعدة أخته هند إستطاع يزيد الهرب من قبضة الحجاج والاختفاء عن الأنظار حتى إستجار بالأمير سليمان بن عبدالملك الأموي.. وبقي هناك حتى مرض الحجاج الأخير.. قال له حاجبه بعدما يئس الأطباء من علاجه: تُب إلى الله أيها الأمير.. فقال الحجاج: ويحك.. إنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة وليس التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال ربي إني تبت الآن.. أعترافاً من الحجاج أن عشرين سنة من الإسراف في القتل والفساد والبطش والجور كان بغرض البقاء والخلود في المنصب.. فلا يحق له أن يدعوا لنفسه بالتوبة.. ولكنه بعد ذلك دعاء ربه معترفاً بأن ذنوبه عظيمة.. * وبعد وفاة الحجاج.. توفي الخليفة يزيد بن عبدالملك وتولى الخلافة بعده أخيه سليمان بن عبدالملك الصديق الحميم ليزيد بن المهلب, فعينه أميراً للعراق في نفس المنصب التي بشرت به العرافة العجوز الحجاج بن يوسف الثقفي بأن رجلاً أشجع وأصدق وأحق بالإمارة منه سيخلفه وأسمه يزيد.. فلم يفلح كل ما فعله الحجاج في يزيداً من تعذيب وإضطهاد وظلم وحبس وتلذذ الحجاج بسماع أنينه من هول ما ينزل به من العذاب بغية تدميره نفسياً ومعنوياً وجسدياً والتسبب له بعاهة مستديمه دون قتله, لأن قتله ربما من حقد الحجاج أنه لا يريد أن يمنح يزيداً الشهادة.. فأنظروا شهوة الكراسي تجعل من الضعفاء غير الأكفاء يتجردوا من آدميتهم ويرتكبوا جرائم بشعة ضد الإنسانية حتى يبقوا في مناصبهم ويتخلدوا فيها.. دون أن يعملوا حساباً أن الموت سيطلبهم لا محال " فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك".. * كنت أريد أن أختم بالفكرة التي جعلتني أكتب هذا المقال ولكن لي صديق عزيز بجانبي يقرأ كل ما كتبته.. وأستوقفني قائلاً: هل تقصد بهذا المقال وقصة الحجاج ويزيد فيما يفعل بك في مواقع عملك من إضطهاد وتهميش وتضييق على مصادر رزقك.. ثم يسألني هل أفرجوا عن معاشك الذي أكلوه.. فوالله لقد أضحكني صديقي هذا وأثلج صدري من الضحك وهو متواضع في فهمه وثقافته.. فلقد صدق من قال: "شر البلية ما يضحك".. فجاوبته وما علاقة هذا الذي تابعتني بقراءة ما أكتبه ومسألة إيقاف راتبي.. فقال المسكين: لإننا سمعنا قبل سنوات بإنك مرشحاً بأن تكون مديراً للمرفق الذي يحاربونك متعمدين تسريحك وعدم أعطاءك موقعك الذي تستحقه وأكلوا مكافئاتك التي تستحقها ويستقطعون معاشك الأساسي ويترصدون لك بشكل مستمر بهدف تدميرك مثل يزيد بن المهلب.. فضحكت مرةً أخرى فوالله أن الناس البسطاء أنقياء السريرة أطهار القلوب.. * لهذا قلت له يا أخي ياطيب: أنا لست حق مناصب وأخاف منها خوفاً شديداً.. لأنني أخاف أن أظلم موظفاً فيدعو عليّ فلن أهنأ بمنامي طرفة عين.. ولهذا السبب أبتعد عن الدخول ومقابلة المسؤولين الكبار وأتعمد عدم التواصل معهم والتهرب من مكاتب القيادات الكبيرة.. ولا سامح الله من جاء رسولاً من السلطة المحلية إلى مرفقي في ذروة الإضرابات التي حدثت قبل سنوات مطالبة بتغيير مدير المرفق.. وعرض على الموظفين أسمي واخذ رأيهم وموافقتهم في تعييني في حالة الإستجابة للإضرابات وتغيير المدير وإحلال البديل عنه.. فقد ظلمني ذاك الإنسان ظلماً كبيراً جداً دون أن يقصد.. وها أنا ذا أعاني الأمرين من حينها حتى اليوم ولن تنتهي معاناتي أبداً طالما أن المدير الحالي باقياً في منصبه الذي وصل إلى سمعه هذا الخبر فحقد على شخصي حقداً لا رجعة عنه ولا رحمة مرتجأ فيه مثلما حقد الحجاج على يزيد بن المهلب حقداً سرمدياً.. * فقال لي: طيب.. لماذا لا تكتب إقتراحاً للمسؤولين الكبار بأن يتم إنتخابات كل خمس سنوات لإختيار مديراً جديداً لأي مرفق حكومي يحدث فيه مظالم كثيرة.. ويحضر هذا الإقتراع ممثلين من السلطة المحلية أو الوزارة ويضعون صندوق الإقتراع في جلسة عامة لكل الموظفين والذي يحصل على أغلبية الأصوات يحظى بفرصته لإدارة شؤون المرفق لولاية جديدة مدتها خمس سنوات.. تسحب منه الثقة بعد ثلاث سنوات إذا فشل بنفس الطريقة.. أو تمدد له سنتان أخرى.. حتى ينهي ولايته بخمس سنوات.. تجرى بعدها إنتخابات أخرى والذي يحصل على أكبر قدر من الأصوات يصدر به قرار من وزارته أو من السلطة المحلية بتعيينه مديراً جديداً للمرفق.. * فقلت لصديقي: أنت يظهر بأنك تريد قطع رأسي وتريد ذبحي فوق ما أنا عليه من قطع معاشي.. فقال ليش: قلت ألا تعرف عن نظرية "تصفية الخصوم وقتلهم وتدميرهم للخلود في المنصب".. فقال: ألم يعجبك رأيي.. قلت له: لقد شوشت فكرة ختامي للمقال.. وأدخلتني في خاتمة مغايرة جداً عن ما أردت ختامها.. ثم أخبرته بفكرة أفضل من فكرته.. فقلت له: أنا أرى فكرة أخرى فمدراء المرافق الذين تكثر عليهم الشكاوي ويرتكبوا المظالم الكبيرة وأعني بذلك الذين يقوموا بإضطهاد وتدمير الكفاءات وتهميشهم وتسريحهم والتضييق على مصادر دخلهم وأرزاقهم وأكل معاشاتهم الشهرية بغية تدميرهم نفسياً ومهنياً حتى يدخلونهم في ظروف مالية قاهرة ينتج عنها مشاكل عائلية كبيرة لعدم إيفائهم بإلتزاماتهم المعيشية تجاه أطفالهم وتتطور المشاكل العائلية لتصل إلى الطلاق ويتفكك المجتمع ويحترموا من أطفالهم حتى يدخلوهم مدرائهم "المهووسون بالخلود في المناصب" في حالات نفسية مزمنة بطريقة خبيثة وحقوده ومجرده من كل معاني الآدمية والإنسانية وهي بلا شك أعمال إجرامية أكبر بكثير مما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي.. مثلما يقول المثل الحضرمي المعروف: "قطع الأعناق أهون عند الله من قطع الأرزاق".. وهذا كله يندرج ضمن سياسة تصفية الخصوم ليكي لا يبقى البديل الكفوأ لهم داخل المرفق.. وبهذا يضمنوا جلوسهم في المناصب مدى الحياة.. * فإذا ما ضمّنا لهم بقاءهم في مناصبهم للأبد بقرارات جمهورية تملكهم المنصب ولولاية العهد لأبنائهم من بعدهم.. سنضمن إنتزاع الخوف من قلوب مدراء هذه المرافق من مسألة الخصوم وتدميرهم واستقطاع معاشاتهم وقتلهم حتى لا يكون هناك كوادر أكفاء قد يحلون محلهم فيما إذا أرادوا تغييرهم.. وبهذا سيضمنون خلودهم للأبد.. وبعدها سيعملون على إعطاء الكفاءات مواقعهم التي يستحقونها وسيصرفون لهم كل المكافئات والحوافز والأجور المرضية والمغرية لكي يشتغلوا بمعنوية عالية جداً وسينعكس ذلك إيجاباً في إبداعاتهم وإظهار قدراتهم ومهاراتهم المهنية.. دون الخوف من أي كادراً أياً كان أسمه أو نجاحه في أن يكون خصماً لهم ينازعهم الكرسي.. وبهذا ستتطور هذه المرافق وسيتحقق نجاحات باهرة في ميدان العمل والإنتاج وسترتقي المجتمعات وستزدهر الشعوب العربية الغارقة في الفشل والظلم والإجرام والصراعات.. فأدعوا الله تجلى شأنه أن يميتني مظلوماً ولا يميتني ظالماً!!.. والله سبحانه وتعالى من وراء القصد,,,