لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    البركاني يدعو لتوفير الحماية للفلسطينيين واتخاذ خطوات رادعة تجبر الاحتلال على إيقاف الابادة    مشروع "مسام" ينتزع 1.375 لغمًا خلال الأسبوع الثالث من مايو    بالصور.. الهلال السعودي يعلن تجديد عقد جيسوس    الدوسري يتفوق على رونالدو في سباق الأفضل بالدوري السعودي    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية صباح اليوم    اعرف تاريخك ايها اليمني!    الحوثيون يفرضوا ضرائب باهظة على مصانع المياه للحد من منافستها للمصانع التابعة لقياداتها    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    رسالة غامضة تكشف ماذا فعل الله مع الشيخ الزنداني بعد وفاته    تهامة: مائة عام من الظلم وحلم الاستقلال المنتظر    "البحر الأحمر يشتعل: صواريخ حوثية تهدد الملاحة الدولية والقوات الأمريكية تتدخل وتكشف ماجرى في بيان لها"    شباب الغضب بوادي وصحراء حضرموت يؤيدون مخرجات اجتماع المجلس الانتقالي    الإخواني أمجد خالد وعصابته.. 7 عمليات إرهابية تقود إلى الإعدام    وهن "المجلس" هو المعضلة    سفير مصري: حزب الله يستعد للحرب الشاملة مع إسرائيل هذه الأيام    جماهير الهلال في عيد... فريقها يُحقق إنجازًا تاريخيًا جديدًا!    انفجار عنيف يهز محافظة تعز والكشف عن سببه    سانشيز افضل مدرب في الليغا موسم 2023-2024    غوندوغان سيتولى شارة قيادة المانيا بلون العلم الوطني    لامين يامال افضل لاعب شاب في الليغا    دموع أم فتاة عدنية تجف بعد عامين: القبض على قاتل ابنتها!    برعاية السلطة المحلية.. ندوة نقاشية في تعز غدًا لمراجعة تاريخ الوحدة اليمنية واستشراف مستقبلها    منتدى حواري في مأرب يناقش غياب دور المرأة في العملية السياسية    في اليوم 235 لحرب الإبادة على غزة.. 36096 شهيدا و 81136 جريحا وعدة مجازر في رفح خلال 48 ساعة    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    "طوفان زارة"....جماعة إرهابية جديدة تثير الرعب جنوب اليمن و الأجهزة الأمنية تتدخل    قوات الأمن تداهم حي الطويلة في عدن وسط إطلاق نار كثيف    نقابة الصحفيين تستنكر الحكم الجائر بحق الصحفي ماهر وأسرته تعتبره حكماً سياسياً    غوتيريش يدين بشدة هجوم إسرائيل على مخيم للنازحين في رفح    بالإجماع... الموافقة على إقامة دورة الألعاب الأولمبية لفئة الشباب لدول غرب آسيا في العراق    ضربة معلم تكسر عظم جماعة الحوثي وتجعلها تصرخ وتستغيث بالسعودية    استمرار النشاط الإيصالي التكاملي الثاني ونزول فريق إشرافي لأبين لتفقد سير العمل للفرق الميدانية    خبر صادم: خروج ثلاث محطات كهرباء عن الخدمة في العاصمة عدن    الهلال السعودي ينهي الموسم دون هزيمة وهبوط أبها والطائي بجانب الحزم    ارتفاع أسعار النفط وسط ترقب المستثمرين لبيانات التضخم واجتماع أوبك+    تدشين مشروع توزيع "19"ماكينة خياطة على الأرامل في ردفان    مجلس الوزراء السعودي يجدد رفضه القاطع لمواصلة انتهاكات الاحتلال للقرارات الدولية    الوحدة التنفيذية : 4500 شخص نزحوا من منازلهم خلال الربع الأول من العام الجاري    بعد تجريف الوسط الأكاديمي.... انتزِعوا لنا الجامعات من بلعوم السلفيات    انعقاد جلسة مباحثات يمنية - صينية لبحث مجالات التعاون بين البلدين وسبل تعزيزها    انطلاق أولى رحلات الحج عبر مطار صنعاء.. والإعلان عن طريقة الحصول على تذاكر السفر    استعدادات الأمة الإسلامية للعشر الأوائل من ذي الحجة وفضل الأعمال فيها    أكاديمي سعودي: التطبيع المجاني ل7 دول عربية مع إسرائيل جعلها تتفرعن    العكفة.. زنوج المنزل    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    تدشين دورة إدارة البحوث والتطوير لموظفي وموظفات «كاك بنك»    8200 يمني سيغادرن من مطار صنعاء الى الأرضي السعودية فجر غدا الثلاثاء أقرأ السبب    سلطان العرادة وشركة غاز صافر يعرقلون أكبر مشروع لخزن الغاز في ساحل حضرموت    دعم سعودي جديد لليمن ب9.5 مليون دولار    - 45أعلاميا وصحفيا يعقدون شراكة مع مصلحة الجمارك ليكشفون للشعب الحقيقة ؟كأول مبادرة تنفرد بها من بين المؤسسات الحكومية منذ2015 فماذا قال مرغم ورئيس التحرير؟ اقرا التفاصيل ؟    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    عالم يمني يبهر العالم و يكشف عن أول نظام لزراعة الرأس - فيديو    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    وهم القوة وسراب البقاء    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقدمات، الرؤية الزنكية، الآلة والوعي العربي
نشر في حشد يوم 19 - 08 - 2010

تحول معرفي دشن نظام مصرفي لأوراق نقدية في دمشق قبل 9 قرون:


من المحرق- مملكة البحرين

د. محمد الزكري
أنثربولوجي بحريني مستقل

في مقالتنا التأويلية هذه سنتحدث عن وميض مبكر من التمدن العربي لم ينل قدرا مناسبا من الإشهار والبحث إلى وقتنا الراهن. وميض أنار للحظات محدودة ليل العالم عندما دشنت المملكة الزنكية (1) من دمشق الآلة (المطبعة) في القرن 12م. وفي محض بحثنا في هذه المرحلة التنويرية المبكرة لا نجد أمام تداخل المحاور سوى التشعب في تساؤلاتنا من أجل اكتشاف أكبر قدر من المعلومات عن هذه الحقبة، وهي:

1) قبل كل شيء علينا أن نعرف أن لا شيء يولد من فراغ. فلم يولد النظام المصرفي ولم تخترع الآلة (مطبعة الدراهم الورقية) في دمشق هكذا بل سبقها انتشار نظام معرفي جديد شجعته المملكة الزنكية، وهو نظام هدف إلى إعادة برمجة الثقافة الإسلامية فنتساءل هنا عن ماهية تلك الدوافع خلف هذا التغيير؟
2) وكلنا يعرف أنه لا يمكن لأي مشروع معرفي من السير إلى الأمام بلا رؤية فعليه ستحاول المقالة جمع الخطوط العريضة للكشف عن ماهية الرؤية الزنكية؟
3) الحياة علمتنا أن تطبيق أي رؤية يكلف ماديا، فستبين المقالة أن طموح الرؤية الزنكية أدى إلى شبه إفلاس لخزانة المملكة الزنكية؟
4) في ظروف الإفلاس سنرى كيف أدى مناخ الإبداع من توليد "الآلة" واستخدامها لطباعة الأوراق النقدية، بمعنى آخر خلق المال من الورق لتغطية عجز المملكة المالي، بمعنى آخر تأسيس لنظام معرفي مالي مصرفي غير مسبوق كنتيجة حتمية للنظام المعرفي الذي دشنته المملكة الزنكية؟
5) في ظل هذا الإبداع سيكون جميلا التطرق إلى قضية الهوية العربية وحصر بعض الخطابات التي شكلت الوعي العربي في فترة الآلة التي طبعت عملات ورقية من خلال محور الآلة، محور المطبعة ومحور النظام المالي الجديد؟
6) أخيرا سنوضح الظروف التي أسدلت الستارة على الآلة؟

الواقع الإسلامي: تقلص حضور الخلافة العباسية في الساحة السياسية وهي في مرحلتها الثالثة إلى حضور رمزي فقط، في تلك الأثناء واجهت الديار الشامية ومنذ مطلع القرن 11م واقعاً جديداً تمثل في الغزو الصليبي الذي اخترق البلاد الإسلامية والذي نجح من تأسيس ممالكه فوق الأراضي الإسلامية. في خضم هذا الفراغ وانعدام الحلول انبثقت عدة مشاريع "دول" و"ممالك" تطمح إلى تبديل الواقع الإسلامي كل حسب رؤيته. من هذه الدول والممالك الإسلامية: الدولة الحمدانية (إسماعلية)، السلجوقية (سنية)، الفاطمية(إسماعلية)، وقوى القبائل (سنية، إسماعلية، مسيحية) (2). كان أحد هذه المشاريع المملكة الزنكيّة الجديدة التي سعى إلى تثبيت قواعدها نور الدين محمود زنكي (1118م - 1174م) فكيف تميزت عن مثيلاتها؟

كيف عرّفت المملكة الزنكية المشكل وما هي رؤيتها وإستراتجيتها التطبيقية؟: أمام هذا الواقع المتنوع والثري بهوياته السياسية، الطائفية والإثنية كان ولابد لأي مشروع على مستوى مملكة يريد النجاح من أن يتمكن من تشخيص المشكل ليتمكن من رسم رؤية واضحة تنير له الطريق ومعالمه (3). يمكن حصر التحديات في الزمن الزنكي كالآتي: أ) قضية الغزو الصليبي، ب) قضية الجهاد، ج) قضية استقرار المملكة الزنكية، ه) قضية الموقف من تعدد الممالك الإسلامية السياسية، ومن التعدد المذهبي والعرقي.

أمام هذه التحديات رسمت المملكة الزنكية رؤيتها. ويمكن تلخيص الرؤية الزنكية بأنها تسعى إلى: إعادة برمجة المجتمع الشامي من خلال إحلال نظام معرفي يتوغل في ثنايا الثقافة الدينية، السياسية والعسكرية من أجل رفع قدرات طريقة تفكير ساسة المملكة وأجهزتها وشعْبها لتتمكن من التعامل مع التحديات والقضايا والمشاكل الموضحة سابقا. عليه فقد:
عالجت الرؤية الزنكية (4) قضية الغزو الصليبي من خلال:
* فهم التعدد والخلفيات الصليبية
* فهم التعدد والخلفيات المسيحية
* القدرة على التميز بين الصليبي والمسيحي (5)
عالجت الرؤية الزنكية قضية الجهاد من خلال:
* تطوير خطاب جهادي يدحر الصليبية
* تطوير خطاب لا يسمح بأن يتحول الحرب ضد الصليبية إلى عداء للمسيحية.
* الاعتراف بالممالك المسيحية تحت حكم الطوارئ والدخول في معاهدات معها إذا هي تركت
صليبيتها (6).
* إنماء وتطوير الجيش واستحداث طبقة الفرسان ليلعبوا دور قيادة عسكرية وسيطة
عالجت الرؤية الزنكية قضية استقرار المملكة الزنكية من خلال:
* نشر العدل
* التنمية الاقتصادية
عالجت الرؤية الزنكية قضية الموقف من تعدد الممالك الإسلامية السياسية، تعدد المذهبي والعرقي من خلال:
* تطوير خطاب يتجاوز عربي-غير عربي ويتجاوز سني-إسماعيلي
* تطوير خطاب مؤيد ومتعاطف مع الجهاد
* توحيد الشتات الإسلامي (دولا وقبائلا) (7) ليس بدمج الدول عسكريا ولكن بدمجها تحت مظلة الاشتراك في دعم الجهاد أو التعاطف مع الدول المجاهدة


النظام المعرفي الزنكي (8) خلق طريقة تفكير وجّهت سياسة العلاقات الخارجية نحو البلاد الإسلامية. حيث نهج القادة الزنكييون سياسة التعامل برفق مع بقايا الدولة الحمدانية دون إثارة نعرات طائفية (سني-إسماعيلي). مثل ذلك اعتمدوا سياسة احتضان المد السني السلجوقي الكردي والتركماني. على الجبهة الغربية فتحوا قنوات حوار مع الدولة الفاطمية وعندما دخل العسكر الزنكيي مصر خلقوا حالة نادرة من الحكم المزدوج مع رموز الدولة الفاطمية لعدة سنوات مما أكسبهم حب الإسماعليين المصريين والذين تحولوا مع الوقت إلى مقاتلين مخلصين في الجيش الزنكي ومن ثم في الجيش الأيوبي. وعلى مستوى العمق الإسلامي بسطوا السيادة على الديار الحجازية.
كما أنهم درسوا الجيش الصليبي وصنفوه على أساس أنه مكون من عدة مراكز قوى صليبية. وعرفوا مبكرا أن الجيش الصليبي غير متجانس ومكون من إثنيات أوروبية متعددة. مع هذه المعرفة لم يتعاملوا مع الصليبيين بفكر معمم ينتهج سياسة واحدة معممة بل انتهجوا سياسة تعدد المسارات والخيارات تسمح بالتعامل مع الصليبيات كل على حسب خصوصيته (9). وفر الزنكييون الأمان الديني للمسيحيين عموما وخصوصا الأرثودكس الذين لم يشاركوا في الحروب الصليبية. شجع الزنكييون الصليبين إلى التحول من صليبين إلى مسيحيين مسالمين. وعزز الزنكييون طريقة التفكير التي أعطت الصليبي عندما يتحول إلى مسيحي حق الاختيار للعيش مع المسلمين في الأراضي الإسلامية على أساس أنه من أهل الكتاب وهو تصنيف أقره القرآن المجيد.

لا رؤية بدون قيم تجدّل الثّابت بالمتغير: كل رؤية بلا قيم معرضة أن تبرر أي وسيلة للوصول إلى غايتها. فما هي القيم التي صانت الرؤية الزنكية من استمراء القتل بإسم الجهاد ومن الظلم بإسم التقشف؟ تحصنت الرؤية الزنكية بعدة قيم منها دعم استقلال وحرية العقل وإبداعه، برمجة المجتمع على قناعات تعالج آنيّاته الحاضرة دون انفصال عن قيم الماضي من صدق، أمانة، إخلاص، مثابرة، صبر، كان مهما على الرؤية الزنكية أن تميز بين القيم والماضي إن هي أرادت الانتصار. فارتبطت بقيم ولكنها لم ترتبط بالماضي، لذلك لم تعق قيم الرؤية دينامكية اللحظة الزنكية (10).

تمويل الرؤية والعجز المالي: أخذت جنبات الرؤية الطموحة تتموضع على أرض الواقع. فكما كان متوقع قادت الرؤية إلى تغيرات هائلة في طرق تنظيم العسكر ومؤسساته ومراكز إعداد وتأهيل كوادره، كما قادت إلى تغيرات في تركيبة المجتمع وثقافته وعلاقاته البينيّة والخارجية. إستراتجيات لا تتحقق إلا بتموين مالي هائل. فحصل المحتوم من تعرّض خزانة الدولة الزنكية إلى نقص مالي شديد.

إذا لم نملك الذهب فلنطبع الورق: في كنف هذا التحدي المركب كيف واجهت دمشق شبح الإفلاس؟ لقد استفادت دمشق من طرق التفكير الإبداعية التي بثها النظام المعرفي الذي ثبتت معالمه الرؤية الزنكية.
فبالتعود على التحرر من قوابض الروتين توصل علماء الديار الشامية من ابتكار غير مسبوق استطاع به من رفع رصيد المملكة المالي ذاتيا. تم لهم ذلك بتأسيس مطبعة لطباعة النقود الورقية. تطرح خزينة المملكة الأوراق إلى السوق وتقايضه مع تجار الشام مقابل ما يملكون من ذهب وفضة. نعم طورت العبقرية الدمشقية نظام الطباعة الآلي المعتمد على قوالب خشبية. قوالب محفورة بدقة متناهية ومع كبسها بعد مسحها بالحبر على قطع الورق أنتج بيت المال (البنك المركزي) النقود الورقية. طباعة آلية تجاوزت ولأول مرة تفاوت الإنتاج اليدوي وضمنت دقة وتطابق كل ورقة نقدية مع مثيلتها مع سرعة الإنتاج للأعداد كبير (11) المطلوبة من الأوراق. فطبع أهل دمشق نقود ورقية تسمى "القراطيس السود" (المطبعة تطبع بلون واحد. اللون الأسود) أو "العادلية" (12) وذلك في زمن السلطان نور الدين زنكي (1118م - 1174م).

تسويق فكرة نظام نقدي ورقي، المطبعة، الآلة: الأمر ليس بهذا السهولة، فلكي ينجح هذا المشروع كان على دمشق ابتداع نظام مصرفي قائم على دعائم فكرية مالية يقبله القطاع التجاري ويتفق عليه الجمهور لكي يتداولوه فيما بينهم. عمدت المملكة الزنكية على الترويج للأوراق على أنها عملة ورقية شرعية مدعومة من المملكة لكي تستخدم في عملية البيع والشراء بدل من القروش المعدنية المصنوعة من الذهب والفضة. بعد ذلك قامت الإمارة بمقايضة الأوراق مع تجار الشام مقابل ما يملكون من ذهب وفضة. ومع توفر الذهب والفضة استطاعت دمشق من الارتباط مجددا بالتاريخ ومن التفاعل مجددا مع تحديات الأحداث. كانت لحظة مفصلية تمثل تحولا نوعيا في هوية العربي. لحظة قدمت إجابات وحلول لمشاكل العالم العربي. لحظة أنشغل فيها الوعي العربي بميلاد الآلة، بمطبعة طبعت عملات ورقية تداولها ولامس منتجها الورقي الطفل، الشاب، المرأة، الرجل والمسن وتحدث عنها الجميع من حضر وبدو، القاصي والداني. استشعر العربي بأن الآلة أعانت عبوره من ثقافة نظام مصرفي تقليدي إلى ثقافة غير مسبوقة تعتمد نظام مالي جديد. خطاب انبثاق الأوراق النقدية أشعر العربي أن هويته مرتبطة بالتغيير وأنه إنسان له حضور فاعل في مجال المعارف والرقي والتقدم.

كل فعل تغييري يولّد حزمة من ردود أفعال:عند دراسة تجربة العرب المبكرة للتعامل مع الآلة سيتضح لنا عدم بروز أي نوع من الهوة بين العلماء ورجال الدين. ولأن العربي هو الذي اخترع حداثته ذاتيا لم يعاني آبائنا من خطاب الأنا العربي الذي يقلد الآخر الغربي كم هو أغلب خطابات عصرنا، بدليل أن الكتب القديمة لم ترصد أي خطاب تطرق إلى صدام بين قيم الأصالة وقيم الحداثة. ولكنها ذكرت خطابات في جوهرها عملت على صياغة الوعي العربي بأن الآلة، كأداة لطباعة العملات الورقية، قد سببت تضخم مالي أضعف قدرته على شراء متطلباته اليومية. تزعّم هذا الخطاب طبقة التجار نتيجة تقلص رأسمالهم كثيرا بسبب تراجع قيمة "القراطيس السود". وعلى ضوء هذه الخلفية أخذت مَرْايّاتهم تتبلور في صيغ مطالب لإصلاح الوضع المالي لا على أسس خطاب ديني بل على أساس خطاب قائم على اعتبارات اقتصادية.
قررت المملكة الزنكية الدخول في حوار مع التجار عسى أن تتوصل إلى تسوية تضمن مصالح المملكة وترضي التجار. فرصد المقدسي (13) انعقاد مؤتمر بين التجار والسلطان نور الدين، دارت محاوره حول تراجع قيمة عملة "القراطيس" أمام قطع الدنانير المعدنية، وبسبب غياب (فكرة) مؤسسة مالية تنظم وتثبت سعر "القراطيس" أمام الذهب والفضة في سوق دمشق، طلب التجار من السلطان إلغاء التعامل بالقراطيس. كان رد السلطان رفض مطالبهم حيث أن إلغاء الأوراق النقدية سيضعف المملكة ماليا.

انقشاع هالة الانبهار أم توقف الإبداع:النظام المالي الجديد لم يعالج قضية منع تزوير الأوراق النقدية، لم يطور قانون يسمح بإبدال الأوراق التالفة بغيرها، ولم يتوصل إلى اتفاقية يتم بموجبها صرف العملات الورقية في المدن الشامية الأخرى ومن تداولها في أسواق الدول المجاورة للشام.
في مرحلة توقف فيها تدفق الإبداع انتقل تشكل وعي العربي الدمشقي في واقع ما بعد الآلة، في واقع معايشة منتجات المطبعة، في واقع متأثر بالنظام المالي الجديد، انتقل إلى الشكوى من الآلة ومن تراجع مستوى حياته الاقتصادي والاجتماعي مقارنة بما كانت عليه حياته في مرحلة ما قبل الآلة.

لم تصمد الآلة أمام خطاب الظلم-العدل: مع استمرار خطاب تظلم التجار تحولت القضية المالية إلى قضية دينية. كيف حصل هذا؟ حصل هذا عندما أبدى الشيخ ابن اليونيني (نسبة إلى "يونين" قرية إلى الشمال من بعلبك) تخوفه من الظلم الذي يقع على الناس بجراء تقلب قيمة عملة "القراطيس" (14). في هذه المرحلة بدأ الخطاب الديني يأخذ موقف من النظام المصرفي الجديد وبطريقة غير مباشرة من المطبعة أي من الآلة. ولأن القضية برمتها أخذت بتوجيه إصبع اللوم نحو ساسة المملكة الزنكية (في تلك المرحلة أنتقل الحكم إلى الفرع الأيوبي وأصبحت تعرف بالمملكة الأيوبية) حيث أن المشروع مشروع الدولة أخذ الأمر برمته ينتقل من خانة اختلاف في انتقاء حلول إلى أمر آخر وخطير جدا في نفس الوقت. فكم ذكرنا سابقا أن قضية استقرار المملكة الزنكية من أساسيات الرؤية الزنكية والتي اعتمدت إستراتجيات نشر العدل و التنمية الاقتصادية لأن السياسة في الإسلام كما ذكر أبو البقاء أيوب الكفوي في "الكليات" تعني " تدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والإستقامة" (15). فقد آمنت الدولة الزنكية بأن الهزيمة تبدأ من الداخل وعليه فهي لا تجامل في أي أمر يزعزع قضية الاستقرار. علينا التوقف عند تشكل وعي العربي الدمشقي. فقد أخذ وعيه يتصور الآلة، المطبعة، العملات كأدوات ظلم. فخطاب العدل-الظلم خطاب عظيم له تأثيره ومداه في زمن الجهاد الإسلامي. وكما ذكرنا فإن الرؤية الزنكية محصنة بقيم ترفض الوسائل التي تبرير الغايات المنافية للقيم. فرضخ سلاطين دمشق لمخاوف الشيخ اليونيني، وهو شخصية موقرة عندهم (16)، وألغيت العملة.


لم تستمر الآلة كمشروع دولة:ساهم دعم المملكة الزنكية للطباعة الآلية إلى توسيع نطاق حدث الآلة وتمكينه من الدخول في كل بيت وفرد في المجتمع الدمشقي. ولكن مباشرة بعد إلغاء دمشق "القراطيس السود" أو "العادلية" ألغيت معه المطبعة أي الآلة. ولم تناط إلى المطبعة مهمة جديدة مثل أن تطبع الكتب. فبفقدان وظيفتها الوحيدة (طباعة الأوراق النقدية) أنهت الدولة رعايتها للآلة. في مثل هذا الغياب تحولت الآلة إلى مشروع فردي. وبغياب الدعم تضاءل حضورها الاجتماعي. ما يدعم ضعف دور الآلة في العالم الإسلامي هو عثور علماء الآثار على أعداد قليلة فقط من نصوص لحوالي خمسين كتابا تم طباعتها بواسطة نظام الطباعة بالقوالب الخشبية. وآخر ما عثر عليه هو كتاب ديني مطبوع يعود إلى عام 1350م وقد عثر عليه قرب مدينة "الفيوم" المصرية (17). وبعد ذلك اختفت تماما.

د. محمد الزكري

أنثربولوجي بحريني مستقل
المحرق_مملكة البحرين
التواصل: [email protected]
.
هوامش:
1) باعتلاء عماد الدين زنكي سدة الحكم في الموصل قامت الدولة الزنكية وذلك في عام 1127م، كما ورد في "تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام" تأليف د. محمد سهيل طقوش. ولكن في هذه المقالة سنعتبر حقبة نور الدين زنكي هي مرحلة التبدل نوعي للمملكة.
2) من أجل تخيل الزمن الإسلامي قبيل وأثناء الدولة الزنكية اطلع على"تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام" تأليف د. محمد سهيل طقوش.
3) "قصة الدولة الزنكية"، http://www.islamstory.com
4) "فلسطين في التاريخ الإسلامي"، http://www.palestine-info.com
5) ميز نور الدين ودرس ولاءات المسيحيين وقرب المسيحي الأرميني "مليح بن ليون" وجعل في يده قيادة لقطاعات الجيش و ولاه إمارة من نواحي الشام. وبرر نور تقريبه ل "مليح" بأنه خبير بالتنوع المسيحي وخبير بالتعدد الصليبي. وأنه أداة مهمة لتفكيك الآخر وتصنيفه بصديق أو عدو. كما أن نور قرب البطارقة وعبن لهم كنائس وأمنهم على ممارسة دينهم بكل حرية. للمزيد أطلع على المصدر رقم (3) وعلى بسام العسلي، "نور الدين القائد".
6) مصطفى وهبة، "موجز تاريخ الحروب الصليبية".
7)تطرق الأستاذ محمد سعيد مرسي في كتابه "عظماء الإسلام عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان" إلى سياسة نور الدين زنكي الجديدة للتعامل مع القبائل العربية وكان من أهمها إيقاف أراضي وحقول زراعية لينتفعوا بدخلها مقابل ولائهم وتقديم الحماية لخطوط القوافل، التجارية والدينية مع منع الصليبيين من التحرش بها.
8) من أدواتها تطوير المؤسسات التعليمية ونشرها ببناء المدارس في جميع أرجاء المملكة. ومن أجل ترويج المعرفة قام الملك بدعم الإقبال على العلم من خلال إظهار حبه وتكريمه للعلماء، كما أنه جعل من نفسه مثالا للمجتمع الشامي بفتح مجلسه الخاص أمام طلبة العلم والعلماء مع حضوره الشخصي لها أربع أيام من كل أسبوع، المصدر رقم (7).
9)"العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي مدلولات التحليل السياسي. للتاريخ الإسلامي ودراسة العلاقات الدولية". ورقة قدمتها الأستاذة دودة بدران. للمزيد ارجع إلى "ندوة العلاقات الدولية بين الأصول الإسلامية وبين خبرة التاريخ الإسلامي"، القاهرة-مصر.
10) عد إلى المصدر رقم (4)، والى ابن كثير، "البداية والنهاية"، ج12.
11) للمزيد ارجع إلى كتاب " ندوة تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر" من نشر مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث – دبي.
12) ذكر إبن كثير في البداية والنهاية، ج13 "تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادليّة ثم بطلت بعد ذلك ودفنت".
13) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية. تأليف أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الشافعي.
14) راجع سير أعلام النبلاء للذهبي.
15) الكفوي، "الكليات", تحقيق عدنان درويش.
16) راجع مصدر رقم (14).
17) للمزيد اقرأ ''الكتاب العربي المطبوع: من الجذور إلى مطبعة بولاق''. تأليف د. خالد عزب و أحمد منصور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.