الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    أمطار رعدية تعم 20 محافظة يمنية خلال الساعات القادمة.. وصدور تحذيرات مهمة    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    مليشيا الحوثي تحاول الوصول إلى مواقع حساسة.. واندلاع مواجهات عنيفة    السعودية تطور منتخب الناشئات بالخبرة الأوروبية    الشباب يكتسح أبها.. والفتح يحبط الرائد بالدوري السعودي    بالصور: متناسيا أزمته مع الاتحاد السعودي.. بنزيما يحتفل بتأهل الريال    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    إيران تغدر بحماس وتطعنها وراء ظهرها.. صفقة إيرانية أمريكية لاجتياح رفح مقابل عدم ضرب إيران!    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    الدوري السعودي ... الشباب يكتسح ابها بخماسية    "لا حل إلا بالحسم العسكري"..مقرب من الرئيس الراحل "علي صالح" يحذر من مخيمات الحوثيين الصيفية ويدعو للحسم    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة الى 33.970    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    لجنة الطوارئ بمأرب تباشر مهامها الميدانية لمواجهة مخاطر المنخفض الجوي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    مصرع وجرح عدد من العناصر الإرهابية على يد القوات الجنوبية بوادي عومران    انطلاق أعمال الدورة ال33 للمؤتمر الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لأفريقيا    سقوط 9 مدنيين في الحديدة بسبب الألغام ومخلفات الحرب خلال مارس الماضي مميز    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول الفن والصدق والسياسة - هارولد بنتر
نشر في حشد يوم 05 - 03 - 2013


ترجمة-أحمد صالح الفقيه
حديث الكاتب البريطاني هارولد بنتر في مناسبة تسليمه جائزة نوبل للأدب .
ليس هناك فاصل صلب واضح بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، ولا بين ما هو صادق وما هو كاذب. وليس من الضروري أن يكون أي شيء إما صادقا او كاذبا ، بل انه يستطيع أن يكون كلاهما في الوقت ذاته.
اعتقد أن هذا التعريف لا يزال معقولاً وقابلاً للتطبيق في عملية اكتشاف الحقيقة من خلال الفن، ولذلك فإنني ككاتب أقف معه ، ولكني كمواطن لا أستطيع، فأنا باعتباري مواطنا لابد لي أن اسأل ما هي الحقيقة، وما هو الصدق، وما هو الكذب.
الصدق في الدراما مخاتل بطبيعته، ولا يمكن للمرء ان يجده، ولكن البحث عنه دافع قهري، ومن الواضح ان البحث هو الذي يقود الجهد، فالبحث هو مهمتك، وغالبا ما تتعثر في الظلام الحالك بالحقيقة مصطدما بها، أو ربما تلمح لمحة من هيئة تبدو لك كما لو كانت لها علاقة بالصدق الذي تبحث عنه، وغالبا ما يحدث ذلك دون ان تنتبه الى حدوثه.
ولكن الصدق الحقيقي، هو انه ليس هناك ابدا في فن الدراما صدق او حقيقة ذات وجه واحد يمكن الإمساك به، بل هناك الكثير. هذه الحقائق المتعددة يتحدى بعضها بعضا، ويلتف احدها على الآخر، ويعكس بعضها بعضا، او يتجاهله، أو يعمي عليه، او يسخر منه، وأحيانا تشعر انك قد أمسكت بحقيقة اللحظة في يدك، ولكنها سرعان ما تتسرب من بين أصابعك وتضيع.
لقد سئلت مراراً عن الطريقة التي ولدت بها مسرحياتي. ولكني لا استطيع شرح الامر بالضبط، ولا أستطيع تلخيص مسرحياتي بعبارة جامعة، ولا املك إلا القول بانها حدثت لي كما تحدث الأشياء للإنسان، فذلك هو بالضبط ما حدث.
معظم المسرحيات تتخلق بسطر او كلمة او لمحة وغالبا ما تتبع اللمحة الكلمة، وسأعطي مثالين عن سطرين هبطا على عقلي هكذا فجأة ودون سابق إنذار، وتبعت كلا منهما لمحة، ثم أكملت الباقي، المسرحيتان كانتا “الإياب إلى البيت” و”الأزمنة الخوالي”. السطر الأول من الإياب إلى البيت يقول : ماذا فعلت بالمقص؟ أما السطر الأول من الأزمنة الخوالي فيقول: مظلمة.
وفي الحالتين لم تكن هناك أي معلومات إضافية.
في الحالة الاولى كان شخص ما يبحث عن المقص ويريد ان يعرف مكانه من شخص آخر، ربما كان يظن انه قد سرقه. ولكنني أدركت بطريقة ما أن الشخص المخاطب لم يكن مهتما لا بالمقص ولا بالشخص الذي يخاطبه. اما كلمة مظلمة، فقد ظهرت لي كما لو كانت وصفا للون شعر شخص ما... شعر امرأة ، وكان هو الجواب للسؤال، وفي الحالتين كنت مجبرا على متابعة الأمر ، وقد حدث ذلك بصرياً وتلاشى ببطء إلى النور من خلال الظلال.
أبدأ المسرحية دائماً بتسمية شخصياتها بالحروف..ا ، ب ، ج. وفي المسرحية التي أصبحت فيما بعد مسرحية “الإياب إلى البيت”، رأيت رجلا يدخل إلى غرفة معتمة ويسأل رجلاً اصغر سنا منه جالسا على أريكة قبيحة، وبين يديه جريدة سباق الخيل وهو يقرأها، وقد شككت أن الشخص (أ)، كان والد الشخص (ب) ولكن لم يكن لدي دليل على ذلك. ولكن الدليل اتى بعد قليل عندما رد (ب) الذي سيصبح فيما بعد (ليني) على (أ) الذي سيصبح فيما بعد (ماكس): هل تمانع يا أبي لو أنني بدلت موضوع الحديث؟ فأنا أريد أن أسألك عن شيء ماذا كان اسم العشاء الذي تناولناه قبلا ؟ ماذا تسميه ؟ ولماذا لا تشتري لك كلبا ؟ فأنت لست إلا طباخ كلاب، أقول هذا بأمانه إنك تظن نفسك تطبخ لعدد كبير من الكلاب .
ولذلك وما دام (ب) قد دعا (أ) أباه فقد بدا لي ان من المنطقي أن افترض بأنهما كانا أبا وابنه، وقد كان من الواضح أيضا أن (أ) هو الطباخ وان طبخه لم يلاق استحسانا كبيراً لدى الابن .
هل يعني هذا انه لم تكن هناك أم ؟ لست ادري . ولكن ، كما قلت لنفسي وقتها ، إن بداياتنا لا تعرف أبدا نهاياتنا .
أما كلمة “مظلمة” فقد كانت نافذة كبيرة ... سماء ليل. ورجل هو( أ ) الذي سيصبح فيما بعد (ديلي) وامرأة هي (ب) ستصبح فيما بعد (كيت) وكانا جلوسا يشربان . وسأل الرجل : متين ام نحيف؟ عمن كانا يتكلمان ؟... ولكني رأيت ساعتها امرأة واقفة بجوار النافذة هي(ج) التي ستصبح فيما بعد ( آنا ) ، وذلك تحت ضوء مختلف ، كان ظهرها إليهم، وكان شعرها مظلما فاحم السواد.
إنها لحظة غريبة ، لحظة خلق الشخصيات التي كانت حتى تلك اللحظة لا وجود لها . أما الذي يأتي بعد ذلك فهو مليء بالاحتمالات وغير مؤكد، بل انه حتى هذياني ولو انه في بعض الأحيان يصبح أشبه بانهيار ثلجي ليس بالوسع إيقافه .
ان وضع المؤلف وضع عجيب . فهو من جهة شخصية غير مرحب بها من قبل شخصيات العمل الأدبي ، فهي تقاومه، انها شخصيات لا يسهل العيش معها لدرجة أنك تلعب معها لعبة أشبه بمباراة لا تنتهي ، لعبة القط والفار الأزلية ، تخبط الأعمى ولعبة( الغميضة) .
ولكنك في النهاية تجد ان لديك أشخاصاً من لحم ودم، أناساً ذوي ارادة وذوي حساسية خاصة بكل منهم، وقد بنيت شخصياتهم من أجزاء لا يمكن تغييرها أو السيطرة عليها أو تشويهها.
ولذلك فان اللغة في الفن تظل عملة عالية الغموض ، رمالاً متحركة ، لوحة قفز مرنة - ترامبولين. حفرة متجمدة قد تذوب فجأة تحت الكاتب فيهوي في أي لحظة .
ولكن وكما قلت فإن البحث عن الحقيقة لا يتوقف أبدا، لا يمكن هجرها. ولا يمكن تأجيلها، بل يجب مواجهتها هنا، الآن، وفي هذه اللحظة .
المسرح السياسي يقدم مجموعة من القضايا المختلفة تماما، ويجب تجنب الاحتفالية فيه بأي ثمن. والموضوعية أمر بديهي، يجب ألا يسمح للشخصيات بتنفس هوائها الخاص، المؤلف لا يستطيع تقييدها أو الحد من جموحها ليرضي ذوقه او مواقفه أو تحيزاته الخاصة .
يجب عليه ان يكون مستعدا لمعالجتهم من زوايا متعددة ، من زوايا نظر كاملة وغير محدودة ، يجب عليه مفاجأتهم، وربما يجب أحيانا وليس دائماً ان يمنحهم حرية الذهاب في أي اتجاه يريدون، وان كان هذا لا ينجح دائما. وبطبيعة الحال لا يخضع الهجاء السياسي لأي من هذه المفاهيم بل انه على العكس تماما، فتلك هي وظيفته الملائمة .
أظن أنني سمحت في مسرحيتي، حفلة عيد الميلاد، لطائفة كاملة من الخيارات للعمل في غابة كثيفة من الاحتمالات، قبل أن أركز أخيرا على مشهد الهزيمة.
اللغة الجبلية ليست فيها هذه المجموعة من العمليات. فهي تظل دموية وموجزة وقبيحة، ولكن الجنود في المسرحية تتاح لهم بعض التسلية من خلالها، وينسى المرء أحيانا أن أعمال التعذيب تصبح مملة بسهولة، فهم يحتاجون إلى قليل من الضحك للمحافظة على معنوياتهم عالية. وقد تأكد ذلك بطبيعة الحال في أحداث سجن أبو غريب في بغداد، وتستمر اللغة الجبلية في المسرحية حوالي عشرين دقيقة فقط ، ولكنها قادرة على الاستمرار لساعات وساعات بلا هوادة ، ويتردد نفس النمط مرة بعد أخرى ساعة بعد ساعة وبلا هوادة.
في مسرحية “من التراب إلى التراب”، يبدو لي أن مكان الحدث يقع تحت الماء، امرأة تغرق ويدها مرتفعة إلى أعلى خلال الأمواج مستنجدة، ولا تلبث ان تختفي عن الأنظار، وعندما رأت انه لم يكن هناك احد لا فوق الماء ولا تحته، ولم يكن بصحبتها غير الظلال والانعكاسات الطافية. كانت المرأة شخصاً ضائعاً في الأفق الغارق. امرأة ليس بوسعها النجاة من الهلاك الذي بدا كما لو كان لا ينتمي إلا إلى الآخرين. ولكن ولأنهم هلكوا فقد كان لابد لها من الهلاك أيضا.
اللغة السياسية كما يستعملها السياسيون، لا تغامر في الدخول إلى أي من هذه المناطق طالما ان معظم السياسيين، طبقا للأدلة المتوفرة لنا، ليسوا مهتمين بالحقيقة قدر اهتمامهم بالسلطة والحفاظ عليها. وللحفاظ على السلطة، كان من الضروري إبقاء الجمهور جاهلا بحقيقة انهم يعيشون حياتهم منكرين للصدق، حتى لو كان هذا الصدق يخص حيواتهم ذاتها. ولذلك فإننا محاطون بخضم هائل من الأكاذيب التي نتغذى بها.
كما يعرف كل شخص هنا، فإن التبريرات التي سيقت لغزو العراق كانت أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل خطيرة للغاية، يمكن له إطلاق بعضها خلال خمسة وأربعين دقيقة ليحدث دمارا فظيعا. وقد أكدوا لنا ان ذلك كان صحيحاً وهو لم يكن إلا كذباً محضاً.
لقد اخبرونا ان العراق كانت له علاقة بالقاعدة، وانه يتحمل مسؤولية المشاركة في الفظائع التي حدثت في نيويورك في 11 سبتمبر 2001. أكدوا لنا ان تلك كانت الحقيقة. ولم يكن ذلك إلا كذباً اخبرونا بان العراق هدد امن العالم وان ذلك كان صحيحاً ولم يكن قولهم ذاك إلا كذباً.
إن الحقيقة مختلفة تماماً والحقيقة لها علاقة بالطريقة التي ترى فيها الولايات المتحدة الأمريكية دورها في العالم، والأسلوب الذي اختارته للعب ذلك الدور.
ولكن قبل ان أعود إلى الحاضر أود إلقاء نظرة على الماضي القريب، وبالذات فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. واعتقد انه من واجبنا في هذه المرحلة ان نقوم ولو بمراجعة محدودة في الزمن القصير المتاح لنا هنا.
ان كل امرئ يعلم ما حدث في الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا خلال الفترة التي أعقبت الحرب من الدموية المنظمة، إلى الفظائع الواسعة الانتشار، والقمع القاسي للتفكير المستقل. كل هذا تم توثيقه والتأكد من صحته.
ولكن ما أريد قوله هنا هو إن جرائم الولايات المتحدة في الفترة ذاتها لم يتم تسجيلها إلا بشكل سطحي ناهيكم عن توثيقها، بل وناهيكم عن الاعتراف بها، هذا اذا وضعنا جانباً، من حيث المبدأ، مسألة الاعتراف بأنها كانت جرائم.
وعلى الرغم من الحدود التي أوجده أمامها الاتحاد السوفييتي، فإن أعمال الولايات المتحدة حول العالم أوضحت بجلاء أنها كانت تعتقد بأن من حقها ان تفعل ما تريد.
ولم يكن غزو الدول ذات السيادة من الأساليب المفضلة لدى أمريكا. ولكنها فضلت وبشكل أساسي ما وصفته بالنزاعات ذات الحدة المنخفضة.
النزاعات ذات الحدة المنخفضة تعني أن آلافا من الناس سيموتون، ولكن بشكل أبطأ مما لو ألقيت عليهم قنبلة تقضي عليهم في لحظة واحدة. وهي تعني أيضا انك ستقوم بتلويث قلب هذا البلد أو ذاك، وتؤسس لمرض خبيث ينهش هذا القلب، ثم تظل ترقب انتشار الغنغرينا وازدهارها فيه.
وبعد ان يتم إخضاع الشعب او تدميره حتى الموت- وكلا الأمرين سواء- وتقوم بتنصيب أصدقائك في الجيش والمؤسسات الاقتصادية الكبرى بكل راحة في سدة السلطة، عندها تذهب بادي الرضى لتعلن أمام الكاميرا ان الديمقراطية قد انتصرت، كانت هذه هي الصورة المعتادة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة التي اعنيها هنا.
ما حدث في نيكاراغوا
المأساة في نيكاراغوا حالة نموذجية، وأقدمها كمثال بارز يشير الى رؤية الولايات المتحدة لدورها في العالم، أمس واليوم.
في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي حضرت اجتماعاً في السفارة الأمريكية في لندن، وكان الكونغرس في الولايات المتحدة يوشك على إصدار قرار حول تقديم الدعم المالي لقوات الكونترا في حملتها ضد الدولة في نيكاراغوا، وكنت عضواً في الوفد الذي تحدث نيابة عن نيكاراغوا، وكان الأب جون ميتكالف أهم عضو في هذا الوفد، وكان رئيس الوفد الأمريكي ريموند سيتز (الذي كان في حينه الرجل رقم 2 بعد السفير، وهو نفسه اصبح سفيرا فيما بعد). قال الأب ميتكالف: سيدي أنا مسؤول عن رعية في شمال نيكاراغوا، وأبناء رعيتي يبنون المدارس والمراكز الصحية والثقافية. عشنا بسلام. قبل اشهر قليلة هاجمت قوات الكونترا رعية الكنيسة، ودمروا كل شيء: المدارس والمراكز الصحية والثقافية. اغتصبوا الممرضات والمدرسات، ذبحوا الأطباء بطريقة قاسية. وتصرفوا مثل الوحوش. أرجو أن تقوم بدعوة الولايات المتحدة الى سحب دعمها لهذه الأعمال الإرهابية السافرة، كان لريموند سيتز سمعة جيدة كرجل عقلاني، مسؤول ومقنع. وكان يتمتع بالاحترام في أوساط الدبلوماسيين. أنصت جيدا، وعندما تحدث كان في حديثه رنة حزن، قال يا أبتِ دعني أقل لك شيئا. في الحرب، الأبرياء هم الذين يعانون، حدقنا به صامتين ولكن لم يرمش له جفن، كانت هناك لحظة صمت باردة،. طبعا الأبرياء هم الذين يعانون قال احد الحاضرين اخيرا، ولكن في هذه الحالة كان الناس الأبرياء ضحايا مجزرة فظيعة دعمتها حكومتكم، من بين عدد آخر من المجازر. وإذا سمح الكونغرس بتمويل الكونترا من جديد، فان مجازر أخرى من هذا النوع ستحدث ، أليس هذا هو الوضع؟ أليست حكومتك مذنبة بدعمها، أفعال القتل والتدمير التي تمارس على مواطني دولة ذات سيادة؟. قال سيتز متجهماً: لا اعتقد ان الحقائق التي قدمتها تدعم موقفك. وعندما كنا نغادر السفارة، قال لي احد المساعدين في السفارة: انني استمتع بقراءة مسرحياتك، فلم أرد عليه. لا بد لي من تذكيركم انه في الوقت ذاته، كان الرئيس ريغان يدلي بالتصريح التالي: ان الكونترا هم المعادل الأخلاقي لآبائنا المؤسسين.
لأربعين عاماً دعمت الولايات المتحدة الدكتاتور سوموزا في نيكاراغوا. وقام الشعب النيكاراغواي مدعوماً بثوار السانديستا بالإطاحة به في عام 1979 في ثورة شعبية عارمة. ولم يكن السانديستا بلا أخطاء. فقد كان لهم نصيبهم من الغرور، وكانت فلسفتهم السياسية تتضمن الكثير من الأمور المتناقضة. ولكنهم مع ذلك كانوا أذكياء وعقلانيين ومتحضرين. وقد بدأوا بإنشاء مجتمع تعاوني مستقر ، وألغوا حكم الإعدام، وبدوا كما لو كانوا قد أعادوا مئات الآلاف من الفلاحين الذين كانوا على حافة الموت إلى الحياة. وأعطيت أكثر من مئة ألف عائلة عقود تمليك للأراضي، وتم بناء ألفي مدرسة، وأدت حملة لمحو الأمية الى انخفاض مستوياتها الى اقل من السبع. وتم تعميم التعليم والعلاج الصحي المجانيين، وانخفض عدد الوفيات بين المواليد بنسبة الثلث، وتم القضاء على مرض شلل الأطفال. وقد شجبت الولايات المتحدة هذه الإنجازات واعتبرتها قمعاً ماركسياً لينينياً. فإذا سمح لنيكاراغوا بإنجاز بناء البنى الأساسية للمجتمع وإقامة نظام اقتصادي عادل، واذا سمح لها برفع مستويات العناية الصحية والتعليم وتحقيق وحدة اجتماعية واعتزاز وطني، فهذا النظام- في نظر الولايات المتحدة- سيقدم مثالاً خطيراً للدول المجاورة له، فتقوم بطرح الأسئلة ذاتها ومن ثم تحذو حذوه.
في السلفادور كان يبذل جهد قوي للحفاظ على الوضع القائم. تحدثت في البداية عن نسيج منمق من الأكاذيب التي تحيط بنا، فالرئيس الأمريكي وصف نيكاراغوا دائماً بأنها قبو مظلم من الديكتاتورية ، وقد تعامل الإعلام، وبالتأكيد الإعلام البريطاني، مع هذا الوصف على اعتبار انه دقيق ووصف مقبول. ولكن، وفي الحقيقة، لم يكن هناك سجل لفرق موت في فترة حكم الساندينستا، ولم يكن هناك سجل عن التعذيب، لا يوجد سجل للقسوة الرسمية او العسكرية، ولم يتم قتل القسس في نيكاراغوا. بل كان هناك ثلاثة قسس في الحكومة، اثنان من الجزويت وواحد من تبشيرية مارينول. الأقبية والسجون القمعية كانت في الجانب الآخر، في السلفادور وغواتيمالا. فقد أطاحت الولايات المتحدة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا في غواتيمالا عام 1954 وقدرت الإحصائيات وقوع 200 ألف شخص ضحية للأنظمة الديكتاتورية العسكرية المتعاقبة. وتم اغتيال ستة من المبشرين الجزويت من ذوي السمعة العالمية في الجامعة الأمريكية المركزية في سان سلفادور في عام 1989، من قبل فرقة من الكاتال التي تدربت في فورت بينينغ في جورجيا، بالولايات المتحدة. الأب روميرو، ذلك الرجل الشجاع، اغتيل عندما كان يقود صلاة عامة. وقد قدر أن 75 ألف شخص ماتوا، لماذا قتلوا؟ قتلوا لأنهم كانوا يعتقدون أن حياة افضل ممكنة ويجب الحصول عليها. هذا الإيمان تم اعتباره مباشرة، شيوعية. ماتوا لأنهم تجرأوا على تحدي الوضع القائم، وتحدو الجبل العالي من الفقر والمرض والتخلف والاضطهاد، التي أصبحت وكأنها حقوقهم بالولادة. أخيرا أطاحت الولايات المتحدة بنظام الساندينستا، واحتاج الأمر لسنوات طويلة من المقاومة إلا أن العقوبات الاقتصادية المتواصلة ووفاة 30 ألف شخص أثرت على روح الشعب النيكاراغوي، كانوا منهكين وفقراء مرة أخرى عادت الكازينوهات مرة أخرى إلى البلاد، لم يعد هناك تعليم مجاني ولا خدمات صحية. وعاد رجال الأعمال الكبار بالانتقام، لقد انتصرت الديمقراطية.
لم تكن هذه السياسة مقتصرة على أمريكا الوسطى ولكنها كانت تمارس في أنحاء العالم، كانت سياسة بلا نهاية ومع ذلك تبدو كما لو انها لم تحدث على الإطلاق. لقد جلبت الولايات المتحدة ودعمت كل دكتاتورية عسكرية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأنا أشير هنا إلى اندونيسيا واليونان والاروغواي والبرازيل والبارغواي وهايتي وتركيا والفليبين وجواتيمالا والسلفادور وبطبيعة الحال تشيلي . إن الرعب الذي أنزلته الولايات المتحدة على تشيلي في العام 1973 لا يمكن إصلاحه ولا يمكن نسيانه.
جرائم القتل التي أودت بحيات مئات الآلاف من البشر حدثت في هذه البلدان، فهل حدثت حقاً وهل كلها نتيجة للسياسة الخارجية الأمريكية؟ الإجابة هي نعم، لقد حدثت وكلها كانت نتيجة للسياسة الخارجية الأمريكية، ولكنكم ربما لا تعلمون.
انها لم تحدث، لاشيء من هذا حدث، حتى أثناء حدوثها لم تكن تحدث. انها لا تهم. إنها مسألة تافهة.
لقد كانت جرائم الولايات المتحدة الأمريكية جرائم منظمة ومستمرة ووحشية ولا رحمة فيها، والواقع ان قليلاً من الناس فقط تحدثوا عنها. ويجب ان تسلموا بان أمريكا مارست سياسة صمت من الاستحواذ الإكلينيكي للقوة حول العالم، في الوقت الذي كانت تثرثر فيه قائلة عن نفسها انها قوة تهدف إلى خير العالم. لقد كانت عملية تنويم مغناطيسي ذكية وخبيثة وناجحة، انها لم تحدث، لا شي من هذا حدث، حتى أثناء حدوثها لم تكن تحدث، إنها لا تهم، إنها مسألة تافهة.
أؤكد لكم أن الولايات المتحدة هي بدون شك اعظم عرض مسرحي يتم على قارعة الطريق، دموية ولا مبالية، مليئة بالقسوة ولكنها مع ذلك غاية في الذكاء، وكأي بائع فإنها تخرج متوحدة على الناس وبيدها اكثر سلعها رواجا، حب الذات، إنها بضاعة رائجة، استمعوا إلى كل الرؤساء الأمريكيين وهم يقولون العبارات ذاتها على شاشة التلفزيون من مثل “أقول للشعب الأمريكي هذا هو وقت الصلاة والدفاع عن حقوق الشعب الأمريكي، وإنني اطلب من الشعب أن يثق برئيسه وان يدعمه في القرار الذي سيتخذه نيابة عن الشعب.
إنها وسيلة ناجحة ولامعة، في الواقع يتم توظيف اللغة لمنع العقل من التفكير. فعبارة الشعب الأمريكي توفر وسادة مريحة مطمئنه، فأنت لا تحتاج إلى أن تفكر. كل ما عليك أن تستلقي بظهرك على الوسادة، قد تخنق الوسادة ذكاءك ومهاراتك النقدية ولكنها مع ذلك مريحة جدا. وهذا بطبيعة الحال لا ينطبق على الأربعين مليونا الذين يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة، ولا على المليونين من الرجال والنساء المسجونين في الغولاغ الضخم من السجون المنتشرة على الأرض الأمريكية.
ولكن الولايات المتحدة لم تعد تحفل اليوم بالصراعات المنخفضة الحدة، انها لم تعد ترى فائدة في التحفظ أو الخداع، إنها اليوم تضع أوراقها على الطاولة دون خوف او تردد، إنها بكل بساطة لا تأبه بالأمم المتحدة ولا بالقانون الدولي ولا بالشقاق المحرج الذي غدت تنظر إليه على أنه تافه وغير ذي صلة، وهي لديها ايضا حملها التابع الذي يسير في مقدمة التابعين خلفها، بريطانيا العظمى السطحية والمثيرة للشفقة .
ماذا حدث لحساسيتنا الأخلاقية؟ هل كانت لدينا واحدة ؟ بل ماذا تعني هذه الكلمات؟ هل يشير تعبير الحساسية الأخلاقية إلى ألفاظ نادرة الاستعمال هذه الأيام مثل الضمير؟ الضمير الذي لا يتعلق بأعمالنا فحسب ولكن أيضا بمسؤوليتنا المشتركة عن أفعال الآخرين؟ هل مات كل هذا؟ انظروا إلى خليج غوانتانامو مئات من الأشخاص محتجزون بدون اتهام محدد لأكثر من ثلاث سنوات، دون تمثيل قانوني او إجراءات قانونية مرعية، انهم من الناحية التقنية محتجزون إلى الأبد.
ان هذه البنية الغير قانونية يتم إدامتها ضداً على اتفاقيات جنيف، انه لا يتم التساهل بشأنها فقط بل نادراً ما يتم التفكير فيها من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي، وهذا الإجرام المثير للغضب يرتكبه بلد يسمي نفسه زعيم العالم الحر، هل فكرنا في أولئك القابعين في خليج غوانتانامو؟ ماذا تقول وسائل الإعلام عنهم؟ إنهم يظهرون في بعض المناسبات على الصفحة السادسة كموضوع صغير مهمل لا يستحق الاهتمام، لقد تم شحنهم إلى أرض لا تخص أحدا حيث يراد لهم أن لا يرجعوا منها أبداً.
إنهم في الوقت الحاضر مضربون عن الطعام ويتم إطعامهم القوة، بما في ذلك البريطانيون منهم ، وبالمناسبة ليس هناك أي شيء لطيف في عملية الإطعام، لا مهدئ ولا مخدر بل مجرد أنبوب يتم حشره في الأنف وعبره إلى الحنجرة.. يقيء المرء دما من جراء العملية. انه تعذيب. ماذا قالت الخارجية البريطانية عن هذا الأمر ؟ لا شيء ولم؟ لان الولايات المتحدة قالت” إن انتقاد سلوكنا في خليج غوانتانامو عمل غير ودي. فأما أن تكونوا معنا أو أن تكونوا ضدنا، ولذلك اقفل بلير فمه.
ان غزو العراق كان عملاً من أعمال قطاع الطرق، عملا فاقعا من أعمال الإرهاب الدولي، ويمثل احتقارا مطلقا لفكرة القانون الدولي، لقد كان الغزو عملاً عسكرياً عشوائياً تم حفزه بسلسلة من الأكاذيب المتراكمة بعضها فوق بعض، وعملية استغلال بشعة لوسائل الإعلام ومن ثم للجماهير؛ انه عمل قصد منه فرض السيطرة العسكرية والاقتصادية الأمريكية على ثروات الشرق الأوسط- كملجأ أخير- بعد أن فشلت كل بقية التبريرات- مثل التحرير. انه تجميع هائل للقوة العسكرية المسؤولة عن قتل وتشويه الآلاف والآلاف من الأشخاص الأبرياء.
لقد جلبنا التعذيب والقنابل العنقودية واليورانيوم المنضب، وأعمال القتل العشوائية التي لا حصر لها، والبؤس والإهانة والموت إلى الشعب العراقي، بينما نسمي ذلك كله جلباً للحرية والديمقراطية إلى الشرق الأوسط.
كم ينبغي لك ان تقتل من البشر قبل ان تتأهل لصفة القاتل الجماعي ومجرم الحرب؟ مائة ألف ؟ اكثر من كاف على ما أظن، ولذلك فانه يجب تقديم بوش وبلير لمحكمة الجزاء على الجرائم الدولية، ولكن بوش كان ذكياً ولم يصادق على اتفاقية إنشاء المحكمة، ولذلك فانه إذا ادخل أي جندي أمريكي أو سياسي أمريكي إلى قفص الاتهام فان بوش سيرسل المارينز كما قال، ولكن طوني بلير قد صادق على الاتفاقية ولذلك فانه متاح للمحكمة، نستطيع ان نعطي المحكمة عنوانه إذا كانت مهتمة بذلك، انه 10 داونينج ستريت لندن.
إن الموت في هذا السياق لا صلة له، ان بوش وبلير يبعدان الموت في المحرقة إلى الخلفية. لقد قتل مائة الف عراقي على الأقل بقنابل الأمريكيين وصواريخهم قبل ان يبدأ التمرد العراقي . لا اهمية لهؤلاء الناس. موتهم لا وجود له. انهم مجرد فراغ . انهم حتى لم يسجلوا باعتبارهم موتى. “ نحن لا نعد الجثث “ قال الجنرال تومي فرانكس.
في بداية الغزو نشرت صورة على الصفحات الاولى للصحف البريطانية يظهر فيها طوني بلير وهو يقبل خد طفل عراقي صغير، “ طفل ممتن “ قال التعليق اسفل الصورة، وبعد أيام قلائل كانت هناك قصة وصورة، ولكن في الصفحات الداخلية هذه المرة ، وهي لطفل في الرابعة بلا ذراعين، وكانت أسرته قد أبيدت بصاروخ. لقد كان الناجي الوحيد، وقد سأل قائلا “ متى سأستعيد ذراعي “. حسنا إن طوني بلير لم يكن ممسكا به في مكان ذراعيه، ولا بجسد طفل عراقي مشوه ولا بجسد أي جثة ملطخة بالدم. الدم قذر انه يلطخ قميصك وربطة عنقك في الوقت الذي تظهر فيه على الشاشة لتلقي إحدى خطبك المخلصة .
القتلى الأمريكيون الألفان هم مصدر للحرج، لقد نقلوا إلى قبورهم تحت جنح الظلام، مراسيم الجنائز تخفى بعيدا عن الأنظار المتلصصة المؤذية، أما الجرحى فهم يتعفنون في أسرتهم، و بعضهم لما تبقى من حياتهم اذن فان القتلى والجرحى المشوهين يتعفنون على السواء، ولكن في قبور غير متشابهة .
هذه مقتطفات من قصيدة لبابلو نيرودا بعنوان” أشياء أشرحها “
وذات صباح كل ما كان... كان يحترق
ذات صباح، نيران الجحيم
تنبعث من الأرض لتلتهم البشر
ومنذ ذلك الحين كانت النار
والبارود منذ ذلك الحين
ومنذ ذلك الحين كانت الدماء
لصو ص بالطائرات والمدافع
لصوص بالخواتم والهوانم
لصوص بالمسوح يبصقون الصلوات
جاؤوا طائرين ليقتلوا الأطفال
ترقرق الدم في الشوارع
في هدوء ووداعة دماء الأطفال
* * *
بنات آوى التي تبرأت منها بنات آوى
الحجارة التي مجها الشوك
الثعابين التي كرهتها الثعابين
واجهت دم أسبانيا وجهاً لوجه
كالمد العملاق
يغرقك في موجة واحدة
من الإباء والسكاكين.
خيانة
أيها الجنرالات
انظروا إلى بيتي وقد مات
وهذه أسبانيا محطمة
بدلاً من الورود
الحديد المصهور ينساب من كل بيت يحترق
من كل مفصل
تخرج أسبانيا
من جسد الولد المسجى، بندقية بعينين
ومن كل جريمة، يولد رصاص
سيعثر يوماً
على عيون الثور في قلوبكم
وستتساءلون
لماذا أشعاره...؟
لا تصف الأحلام وأوراق الشجر
وطنه يتلظى بالبراكين
تعال وشاهد الدم في الشوارع
تعال وشاهد الدم في الشوارع
تعال وشاهد الدم في الشوارع
وليكن واضحاً هنا ، بأني حين استشهد بقصيدة نيرودا لا اقصد أبدا مقارنة أسبانيا الجمهورية بعراق صدام حسين، ولكن استشهد بنيرودا لأني لم أقرأ أبداً وصفاً أدبياً في الشعر المعاصر لقصف المدنيين أقوى من وصفه.
لقد قلت آنفا إن الولايات المتحدة أصبحت في غاية الصراحة، وألقت أوراقها على الطاولة. تلك هي القضية . ان سياستها المعلنة محددة بكونها “السيطرة الشاملة “والعبارة ليست لي ولكنها لهم..إن السيطرة الشاملة تعني السيطرة على الأرض والبحر والجو والفضاء وجميع المصادر المتوفرة .
وان الولايات المتحدة تحتل الآن (702) قاعدة عسكرية حول العالم في132 دولة، باستثناء السويد بطبيعة الحال. ولا ندري كيف وصلوا الى تلك الأماكن كلها، ولكنهم هناك على كل حال.
وتمتلك الولايات المتحدة اليوم 8000 رأس نووي نشط وعملياتي، 2000 منها تطلق بإنذار أرهف من الشعرة وعلى أهبة الاستعداد لإطلاقها خلال 15 دقيقة. وهي تطور نظاماً جديداً من الأسلحة النووية يعرف باسم مدمر الملاجئ. والبريطانيون المتعاونون دوماً يعملون على استبدال صواريخهم النووية من طراز ترايدنت. وإني لأعجب، إلى من يوجهون صواريخهم ؟ الى أسامة بن لادن؟ إليك ؟ إلي ؟إلى الصين أم إلى باريس ؟ من يعرف؟
ما نعرفه هو أن هذا الجنون المطبق والتهديد القائم باستعمال الأسلحة النووية هو في قلب الفلسفة السياسية الحالية للولايات المتحدة، والتي هي في حالة استنفار عسكري دائم لا تبدو علامة على أنها تود التخفيف منه.
ان هناك الآلاف ان لم يكن الملايين من سكان الولايات المتحدة نفسها الذين يظهرون قرفهم وخجلهم وغضبهم من تصرفات حكومتهم ، ولكنهم كما يظهر ليسو قوة سياسية موحدة بعد، ولكن القلق والخوف وعدم اليقين الذي نراه ينمو يوما بعد يوم في الولايات المتحدة لن يتلاشى على الأرجح.
إنني اعلم ان الرئيس بوش لديه عدد كبير من كتبة الخطابات الأكفاء ، ولكني أود التطوع للوظيفة، واقترح عليه هذا الخطاب القصير الذي يمكنه إلقاؤه على الأمة من التلفزيون، أراه متجهماً مسرح الشعر بعناية وجاد المظهر تبدو عليه علائم النجاح والإخلاص ويستخدم ابتسامة ودودة ذات جاذبية انه يبدو رجل الرجال.
“الله طيب، الله عظيم، الله طيب، إلهي طيب، إله ابن لادن شرير. لقد كان بربرياً، نحن لسنا برابرة، لانقطع رؤوس الناس، نحن نؤمن بالحرية وكذلك الله، أنا لست بربرياً، انا قائد منتخب ديمقراطيا من قبل دولة ديمقراطية تحب الحرية. نحن مجتمع محب وعاطفي نعطي كراسي كهربائية عاطفية وحقناً قاتلة محبة، نحن أمة عظيمة. أنا لست دكتاتورا مثله ولست بربرياً مثله. انه كذلك، كلهم كذلك. إنني امتلك سلطة أخلاقية، أترون هذه القبضة؟ إنها سلطتي الأخلاقية، فإياكم ان تنسوا ذلك” .
ان حياة الكاتب هشة، انه نشاط عار تقريباً، ولا يمكننا ان نبكي من جراء ذلك، إن الكاتب يتخذ خياره ويعلق فيه. ولكنه من الصحيح القول إنك عرضة لكل الرياح وبعضها ثلجية بالتأكيد، تقف وحدك في العراء. ليس لك من واق ولا سقف يحميك- إلا إذا كذبت- وهي حالة تكون قد جهزت لها حججا لحمايتك، حجج يمكنك الجدال بشأنها، أي أن تصبح سياسياً.
لقد أشرت إلى الموت مراراً خلال هذه الأمسية . وسأنشد الآن قصيدة لي اسمها” الموت”.
أين وجدت الجثة ؟
من وجدها؟
هل كانت ميتة حين وجدت؟
وكيف وجدت؟
لمن الجثة؟
من أبو أو ابنة أو اخو أو عم
أو أخت أو أم أو ابن الجسد الميت المهجور؟
هل كانت الجثة الميتة كاسية ام عارية؟
هل كانت مهجورة؟
هل كان الجسد ميتاً حين هجر؟
هل كان الجسد مهجورا؟
ومن الذي هجره؟
هل كان الجسد الميت عريانا أم كاسيا كمن سيذهب في رحلة؟
ما الذي جعلك تعلن ان الجثة ميتة؟
هل أعلنت موتها ؟.
إلى أي حد تعرف الجسد الميت ؟
كيف عرفت ان الجسد الميت ميت؟
هل غسلت الجسد الميت؟
هل أغلقت كلتا العينين؟
هل قبرت الجثة ؟
هل تركتها مهجورة ؟
هل قبلت الجسد الميت؟
عندما ننظر في المرآة نظن أن الصورة التي تواجهنا مضبوطة. ولكن تحرك ملليمترا واحدا وستتغير الصورة، والواقع أننا ننظر إلى انعكاسات دائمة التغير. ولكن على الكاتب ان يكسر المرآة أحيانا ذلك ان الحقيقة تحدق بنا من الوجه الآخر للمرآة .إني أؤمن بأنه مهما تكن المفارقات الحاصلة راسخة فإنها تتطلب إرادة واعية عارمة، وكمواطنين فإن تحديد حقيقة الصدق في حياتنا ومجتمعاتنا واجب أساسي يقع على عاتقنا جميعا وهو في الحقيقة إجباري.
وإذا لم يكن مثل هذا التحديد متضمنا في رؤانا السياسية فلا أمل لنا في استعادة ما يكاد ان يكون قد فقد منا وهو كرامة الإنسان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.