كلنا يدرك بأن مهمة الأدب تمارس في إطار أداء مهمات متنوعة وتتنوع بتنوع أشكال الحياة التي يحياها الإنسان، وبالرغم من اختلاف المدارس الأدبية التي تناولت الوظيفة الأدبية قد أقروا بأن للأدب وظيفة ما سلبية أو إيجابية مباشرة أو غير مباشرة “تندرج في سياق ممارسة الأدب كنوع من الترف، أو في إطاره النهضوي الموجه، وأقصد به ذلك الأدب الذي تراعى فيه الرسالة الادبية التي من اجلها يجب أن يمارس الأديب فنه من خلاله، بعيداً عن ممارسته في إطار ترفي لا يغني ولا يسمن من جوع. والأديب المحنك في هذا السياق الذي تتشكل في بوتقته التجربة الإنسانية يبدع أيما إبداع ويرشح إبداعا أدبياً راقياً ليمتع نفسه، ويخفف عنها وخز شحنات المشاعر المختزنة في عقله ووجدانه، وليمتع غيره ممن يجدون في إبداعه تعبيراً حياً عن خلجات نفوسهم ونبضات مشاعرهم، وكأنهم حين يقرؤون ما يبدع يحسون أنهم كانوا سيقولون مثل ما قال، وأن رؤاهم وأفكارهم متقاربة إلى حد كبير وكأن من كتب هم وليس الأديب، وهنا تتجلى معاني التوحد بين التلقي والإبداع في قمة الإمتاع النفسي العقلي والوجداني. وجماع الأمر في كل ذلك أن يسعى الأديب لأن يحدث تغيير معالم واقعٍ معاش قد ألقى بظلاله المثقلة على جميع نواحي الحياة ، فهو يسعى إلى تحويره، وإعادة صياغته ، وترتيب أشكاله، فتكون تجربته إمتاعا ومنفعة، تختزل معادلة التواصل البشري على مر العصور، وما ذلك إلا لأن الأدب قد أسهم الأدب اسهاما فعالا في أجناسه المختلفة ، وخاصة الشعر منه في تشكيل الوعي البشري وتعديل الاتجاهات وتشكيل مسارات تدفع الناس نحو سلوك معين، يتجلى ذلك في الدراما على سبيل المثال، وما يتخللها من صراع يؤثر وتأزم يسهم في إيجاد حالة من التأثير الذي ينعكس على نفس الإنسان، ويؤثر فيه يوما بعد يوم، كذلك تسهم القصائد والأناشيد في تشكيل تيار مؤثر يدفع الناس لسلوك اتجاه معين واتخاذ موقف معين في ظروف وملابسات يمرون بها في واقعهم، وبذلك يكون للكلمة الأدبية دور فعال في توجيه السلوك البشري بالقصيدة والمسرحية و القصة والخطابة والرسالة والخاطرة . من الأدباء الذين يستحقون التوقف عند ادبهم الشعري شاعر تفجرت من سنابيعه عدة قصائد عكست حالة الوجع الذي يعيشه الشاعر تبعا لحالة الألم التي يتجرعه الوطن للظروف التي يمر بها ، إنها لشعر عبدالفتاح الاسودي ، الذي فاجأني بقصيدة من أجمل القصائد التي قيلت في الفترة الاخيرة وفيها دعوة صريحة لترك الاحترابات والانتقال إلى حالة من الهدوء النفسي ، والتأمل في جمال هذا الوطن الذي اصبح يهدم على أيدي ابناءه ، كل ذلك طبعا استطاع الشاعر أن يثبته في قصيدتة بطريقة موحية ومعبرة ، وتحمل من مقومات الجمال ما جعل الفن لأن ينصرف إليها ، فقد غنت هذه القصيدة واستحقت بأن تكون إهداءا خاصا من الشاعر إل الشعب اليمني بمناسبة الاننتهاء من جلسات مؤتمر الحوار الوطني الذي اجتمع اليمنيون حول طاولته . القصيدة غناها الفنان صلاح المهدي صاحب الإبداع الاول في تأديته لقصيدة سابقة لذات الشاعر مطلعها هذه الانسام من راس العوس *تستحث الخطو في قاع النفوس القصيدة التي نتحدث عنها اليوم أردت الحديث عنها في هذا المقال لروعتها ، وقوة سبكها ، وجمال معانيها ، وجللا موضوعها ، وحلاوة تصميميها ، ودقة رسمها ، فبدت للرائي وكأنها عقد منتظم حباتها ، من قوة إحكامها غدت عصية على النفراط ، بالفعل إنا قصيدة جاءت في وقتها ومانها ولحنت في أحسن أوقاتا ، وأديت في وقت الناس بأشد الحاجة إليها . ولعلي أثبت القصيدة للقاري ليدرك هذه التوصيفات التي اطلقناها على القصيدة ففيها يقول الشاعر أهْواِك ﯾاَمْعزوفة الﱠزماِن ﯾاُسْوَرةُ اﻹﯾمان واﻷماِن ﯾا ترجماناً باذَخ المعانِي للَكون ﯾُهدي رْوعة الﯿمانِي *** مجﱠرةُ اﻷْمجاِد واﻷَماجْد وكْوَكُب اﻹبداع والفََرائْد إﯾْمانها للُمؤمنِﯿن رافْد على مدى التأرﯾخ والﱠشواهِْ ﯾا مْوطناً من أطﯿَبِ مْن أَعذبِ الُمهْجاتِ والقلوبِ َكْمُحْزَت في اِﻹْكرام من نَصﯿبِ عند النﱠبّي الُمْصطفى الَحبﯿبِ ﯾاَمْوطناً أنقىِمَن النقاِء ﯾَهْنْﯿَك ما في الﱠشعبِ منَصفاِء فلْتْحتَفْل بالنﱠْور والبﱠهاِء مادمَت نبَْض اﻷْرض والﱠسماِء رقى اﻷغانِي في الهَوى بﻼدي ﯾُْروى بها وْجداُنُكﱢلَصاِد لما تََزْل فﯿﱠاَضة الفؤاِد َمبْذولة للُحﱢب والوداِد *** فﯿهاَمﻼٌذ للﱠذي تَمنﱠى َرﯾْحانَةٌ ﯾْحﯿا بها وﯾفنَى في ثْغرها الﱠدفاق ما تَسنّى من حْكَمةٍ، منها الُعقوُل تَغنَى *** آفاقها بالَمْكُرماتِ تْحفُْل والّروُح فﯿها بالبَﯿاض تَرفُْل في كل ﯾوٍم تَْزَدهِي وتْجُمْل والعﱠزةُ الﱠشماُء لﯿْس تأفُْل بَربﱢناَمْحُرْوَسةٌ بﻼدي من القُلوب الُسوِد واﻷعادي وْجَدانُها للطﱠﯿبﯿْنَحادي نحَو الُعﻼ والَمْجِد والﱠرشاِد لﯿعرج بعد ذلك مْن هاهُناَشْمُس الحﯿاةِ هَلﱠْت بَْل هاهُنا غاﯾاتُها تََجلﱠْت ما مْن نُفُوسٍ عﱠزها استَقلْت إﻻَدنْتِمْنُرْوحنَا، وَصلﱠْت *** مْن هاهُنا أطلﱠتِ البشاَرةْ بل هاهنا اﻹنساُن والَحَضارةْ ما مْن بﻼدي أورثْت نََضاَرةْ إﻻ بها مْن الﯿمن أمارة وطنِي، معُزوفةُ البُﱢن الًّرخﯿمةْ بصمةُ اﻹبداع فيَصنَْعا القدﯾْمةْ َمْوطنِي، منْظْوَمةُ الُحﱢب الَحِمﯿمةْ لﯿْس تْحوي غﯿَْر أذَواقَسلﯿْمةْ *** في شبَام الﱠروح مْرآتي اﻷصﯿْلةْ تقرأ اﻵتْي بأنفاس طوﯾْلةْ كﱡل نبْضٍ في زواﯾاها الَجلﯿْلةْ ﯾقتَدي عﯿْنﱠي آزال الجِمﯿْلةْ *** هاهُناُرْوُح الﱠسماِء مهَْرَجاٌن مْن ثناِء ﯾْحتَفِي باﻷبْرﯾَاِء أول ما ﯾنتبه الﯿه القا وطني مﯿْقاُت أشجانْي الَحﯿاَرى ُشْرفةٌ في الغﯿْم تَْستَْجلي الصحارى َمْوطنِي مْن وْجههِ المْجُد اْستَنارا ﯾُذهُل الﱠشْمَس اْرتفاعاً واقتِدارا *** أنَْت ﯾاَمْن بالهوى قلبي ﯾُظلﱢهْ كﱡل ﯾْوٍم، أنتُعْمٌر، أستهلﱠهْ لﯿَْس وْجدانْي، وﻻ قلبْي ﯾَملﱠهْ كﯿَف ﻻ أرْوى وأنَْت الُحﱡبُكلﱠهْ؟ مْوطني ذاتي وظلي منتَهى هَْجِسي وشْغلِي فﯿه ما ﯾُعنِي وﯾُْعلِي في القصيدة يدرك القاريء كم أن شاعرنا يمتلك من مقومات الفهم التي تجعله واعيا بأن الأدب للإنسان ينبثق من تجارب الإنسان والإنسان كائن حي يشتمل على الروح والمادة والعقل والوجدان، وهو يحتاج إلى ما يشبع احتياجاته المتعددة التي تتعلق بمكوناته المتضافرة المتشابكة تشابكا محكما، لا تنفصل إحداها عن الأخرى، بل هي متلاحمة تلاحما ديناميكيا في بوتقة تفاعلية تضمن السير المتوازن بقدر حجم التلقي في كل مجال من مجالات تلك المكونات المتنوعة، التي تشكل الإنسان، وإذا كان العلم يغذي الجوانب العقلية فإن الأدب يغذي الجوانب الوجدانية والأحاسيس ، وقد يغذي الأدب العقل والعاطفة معا، وقد يشبع العلم العقل والعاطفة معا، لأن شبكة العلاقات التي تكون الوعي الإنساني متداخلة ومتشابكة، والفصل الحقيقي بينهما أمر صعب معقد تعقيد شبكة العلاقات بينهما، فالعقل يؤثر في الوجدان ويتأثر به، والوجدان يتأثر بالمدركات الحسية والمجردة ، وبالخبرات المكتسبة، وبذلك يكون الأدب غذاءً للعقل والوجدان، به تنتقل التجارب الإنسانية عبر الأجيال المختلفة من شخص إلى شخص ومن جماعة إلى جماعة ومن جيل إلى جيل، إنه اختزال لمسلسل التجربة الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل، فالأديب إنسان يعيش في عالم حي زاخر بتجارب تنبجس من تفاعلات الحياة البشرية، في مسارها الطويل الممتد عبر الزمان والمكان، عبر مؤثرات كثيرة متنوعة ومختلفة، تلك التجارب تشكلت في دهاليز العقل والوجدان، وتوزعت بين الحب والبغض، والفرح والحزن، والعدل والظلم، والثورة والخنوع، والحرب والسلم، والتفاؤل والتشاؤم، والصبر والجزع، والرضا والتمرد، وكل ما يتبادر إلى الذهن البشري من معالم تلك التفاعلات الشعورية بين العقل والوجدان في خضم الحياة المتلاطم.