حين لبيت الدعوة لحضور المهرجان العربي للقصة القصيرة , بمدينة الناظور المغربية في شهر مارس 2013م, لم أكن أتوقع بأني سأكتشف كوكباً تسكنه الأقاصيد القصيرة الرائعة. أو ما يطلق عليها بالومضة أو الق ق ج . كائناتها تمتشق اليراع, عارضة نصوصها نحو ضوء السماء,مبشرة بغد توسده الق ق ج. ويالجمال اللحظات حين عدت إلى اليمن محملا بإصدارات سردية لمجموعة من الكاتبات والكتاب, لجميل حمداوي , جمال الدين الخضيري, عبدالله المتقي.. عز الدين الماعزي , حميد ركاطة.. مصطفى لغتيري.. ميمون حرش.. حسن برطال. أنيس الرافعي, وفاء الحمري,زهرة رميج ..توفيق أبو شري..المصطفي كليتي..نعيمة القضيوي الإدريسي..نور الدين كرماط.. ابراهيم أبويه.. عبد الحميد الغرباوي.. سمية البو غافرية, عبد الغفور خوي, , عبدالله ساورة. وفوزية القادري.إسماعيل غزالي. ليتخاطفها زميلات وزملاء نادي القصة في صنعاء فور عودتي من المغرب, ولم تتبق لدي إلى قلة منها: وما شدني في ما قرأت هو ذلك المستوى الفني الذي وصل فيه ذلك الفن لكتاب مغاربة..كثر. ومن تلك الكتابات من حاول تقديم نصوصا مختلفة محاولا مزاوجة ومزج أكثر من فن إبداعي .. لينتج لدينا نصوصا تفتح أفاقاً جديدة.. وتتماس دون إيغال بالقصة و الأحجية أو اللغز.. وبكذلك بروح الشعر.. ومفارقة النكتة.. وعمق الحكمة.. وعذوبة الطرفة. إلخ تلك الفنون. إذن نحن أمام تفاعل إبداعي يتخلق يوما بعد يوم ومن كاتب إلى آخر. وأرى لهاث التنظير خلف ذلك النهر المتدفق والمتنوع . من نصوص تجنح للتلغيز.. وأخرى لبرعمة الأسئلة..وغيرها للنهل من التراث..أو الفلسفة.... إلخ وتلك النصوص توزعت بين القضايا الاجتماعية والسياسية والفلسفية. بل وما هو أبعد من ذلك..حين يعرج بنا برطال بنصوص تحلق بالقارئ إلى أفاق ذهنية في تحليل واستنتاج ما يبطنه النص.. وكذلك استخدامه لمفردات تستجيب لأكثر من معنى.. ما يفتح النص على أبواب التأويل. أما الخضيري وما قدمته نصوصه وقد تماست مع أدب المقامات, بمفرداتها المعجمية. وكذلك نصوص الكاتب ميمون حرش .. حين اختار التجريب بكتابة نصوص أقرب إلى الأحاجي في قوالب سردية قصيرة. في مقاربتي هذه أناقش النص السردي القصير جدا في المغرب من خلال محاورة ثلاثة من الكتاب.. تتباين تجاربهم ومحاولاتهم الخروج من عنق التقليدية. - الخضيري في مجموعته "حدثني الأخرس بن صمام" الصادرة عن المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا 2013يقدم لنا تجربة مختلفة .. حين يطلق على نصوص تلك المجموعة تصنيف"مقامات قصيرة جدا" وهي المرة الأولى التي يطلق هذا المصطلح (مقامات) على نصوص سردية قصيرة. - حسن برطال في مجموعته "صورة على نسقjpg " الصادرة عن وزارة الثقافة المغربية2010 والتي صنفها بالقصص القصيرة جدا , يقدم لنا نصوصا تعتمد على استفزاز عقل القارئ ودفعه إلى التأمل.. أي أن برطال يتميز بكتابة النص الذي يحاور ذهن القارئ, إضافة إلى قدرته على توظيف تعدد معاني المفردة حسب موقعها من سياق الجملة. - ميمون حرش في مجموعته "نجي ليلتي" منشورات المهرجان العربي الثاني للقصة القصيرة جدا 2013 وقد صنفها بالقصص القصيرة جدا.حيث تميزت نصوص ميمون بالنص السؤال أو الفزورة. الباحث عن إجابات ما تثيره نصوصه من أسئلة. ثلاث مجموعات تتباين أساليب كتابها , وكل منهم يحاول تقديم الجديد.. وأن يضع بصمته الخاصة في هذا الفن من خلال نتاجه الإبداعي . وبدايةً بنماذج من نصوص الخضيري, تلك المصاغة على شكل يحاكي المقامات, وهي تجربة مغايرة لما عرفنا في نصوصه السابقة واللاحقة.. بل ومغايرة لما يكتبه الكتاب في المغرب والوطن العربي. فالخضيري ينقل القارئ إلى نص قصصي يتكئ على الموروث في الشكل واللغة.. إلى زمن المقامات .. بعد أن حررها من قيود السجع..وأطلق في روحها مرونة القص ليستضيف القارئ في عصور قديمة بلغتها وأسمائها وكذلك ببيئتها. والبداية نص بعنوان زارع الفول " مررت على الأخرس بن صمام فرأيته منكبا على محراثه تجرجره الدواب,حييته: عم صباحا. أجاب وهو يلوح بيده : إنني أزرع الفول. أعدت عليه التحية,مخمنا أنه لم يسمعني,فرد علي باسما:أجل أنني أزرع الفول! كلما مررت عليه,وحييته يسمعني العبارة نفسها حتى خلته أخرس حقا.أزهر الفول,ذبل الفول,السنوات في أفول, أزرع التحايا, ويزرع الفول." ونص آخر بعنوان قوس بالمجان " إنا لوقوف في بطحاء, عبارة عن ملعب لكرة القدم,إذ أقبل علينا الأخرس بن صمام متقوسا على عصاه, متعثرا في شيخوخته. ما أن رمقه ميت بن نعسان حتى ناداه: كم ثمن القوس يا أخرس؟ أجابه وهو مأسور بانحناءاته: لا تقلق ياميت سيصلك مجانا." جميع نصوص " حدثني الأخرس بن صمام" تسيطر عليها شخصية الأخرس والميت بن نعسان,وشخصية السارد.. هذه أولى الملاحظات .. ثم أنالكاتب ينتقي مفردات عصور مضت لصياغة جمله وتقدم نصوصه.. ولذلك سيجد القارئ أن الكاتب قد بذل جهدا كبير في بناء نصوصه بتلك العتاقة.. ليشعر القارئ بأنه يسير في أزقة أزمنة غابرة , وبين مجتمع ينبعث من بعيد, وتلك المواضيع التي يمكن تقبل بعضها وإن أوحت بأنها قد نبتت وسط تربه دون ضجيج ما نعيش. ولا يعني ذلك أن الكاتب قد ركز على الماضي , وأدار ظهر نصوصه لزماننا,بل أن الخضيري قدم لنا التجريب في بنية النص القصصي القصير جدا بشكل يدعو جميع كتاب هذا الفن إلى ارتياد فضاءات جديدة, فالقارئ يكتشف أن تلك القضايا التي تعالجها نصوص المجموعة أيضا تعني ما تعيشه مجتمعاتنا في هذا العصر. وكأن الكاتب يقول لنا أن الإنسان هو الإنسان في تسلطه وجشعه ومؤامراته وكذلك في سموه وجمال عطائه. وأن ذلك الشيطان الرجيم غير موجود في هذا الوجود بقدر ما يكمن في أعماقنا, وتلك الملائكة إلا بقدر ما تتجلى في تعاملاتنا وإيماننا بالخير والعمل به. ومجمل نصوص مجموعة الخضيري تتجاور في حميمة نسق لغوي واحد, وقد مهد لها الكاتب طريق جديدة غير مطروقة , قدمها لنا بقدرات المبدع المتمكن بوعي يستمده من تجارب كتابية ناجحة. ولذلك سيقرأ القارئ أكثر من سبعين نصاً مُزجت بفنين فن المقامة والقصة متناهية القصر . هي تجربة رائدة, وفتح يدفع بالكتاب إلى الإبحار بالقصة القصيرة جدا في عوالم وآفاق جديدة . ولن أطيل بين تلك النصوص الممتعة التي وسمها ب مقامات قصيرة جدا, فحقيقة الأمر أن القارئ سيجد متعة وإدهاشاً.. فالمسميات واللغة وكذلك بيئة معظم النصوص تنقله إلى مناخات مشوقة.وقد حرر تلك النصوص من السجع المتبع في كتابة المقامات. وأكثر ما يميز نصوص الخضيري أنها فتحت طريقا جديدة نحو المزاوجة بين التراث والحداثة.. وهذا ما يجعلنا نقف بتقدير خاص لهذا الكاتب . والخضيري رغم اختياره في هذه المجموعة للغة عصر غير عصرنا وإتيانه بتلك الأسماء بمدلولاتها إلا أن ذلك لم يقيده في تقديم نصه القصير جدا.. وبذلك نستطيع أن نقول بأنه قد وضع النص القصصي على أفق الإبداع أسلوبا ليس جديدا فحسب بل ومبتكرا يحسب له. وإذ نرى الخضيري واضعا بصمته من خلال هذه المجموعة من النصوص, فأن ثاني من اخترنا التحاور مع نصوصه هو المبدع المتجدد حسن برطال, الذي ينطبق على نصوصه صفه النصوص الذهنية.. إذ أن برطال تجاوز تلك الأشكال المعتادة إلى نص يجمع بين القصيدة والقصة من ناحية التكثيف والاختزال اللغوي, إضافة إلى اللعب بمعاني الكلمات بوضعها في موضع المعنى الملتبس أو المزدوج للمفردة بحيث تؤدي إلى أكثر من معنى. بل أن نصوصا عدة تدفع بالقارئ إلى دهشة البناء وروعة المعنى, فمثلا في نص بعنوان ألبوم "كان يجوب شوارع بيروت..وكلما طرق بابا, يخرج البيت يقدم صورة صاحبه ويحتفظ بالنسخة الأصلية تحت الركام خوفا عليها من الضياع" هذا النص بمعانيه الباطنة والظاهرة يقود القارئ إلى استحضار ركام حروب الإنسان, وقدرته على القتل والتدمير, وتلك المشاهد التي تتكرر يوما بعد يوم على شاشات التلفزيون أو الأنتر نت وكذا صفحات الصحف. ناقلا ويلات تلك الأحاسيس الفاقدة لمشاعر الأمان. مقدما أنقاض ما هدم بقلوب خافقة بالرجاء والأمل. نص العشرين كلمة, لكنه يحلق بذهن القارئ في عصف خيالي قبيح بروائح الموت والدمار , مؤنسنا ركام وأطلال المنازل وبقايا جدرانها حين تقدم نسخ من صور الضحايا بينما تحتفظ بالأصول تحت ركامها. نصوص البرطال حادة ومؤلمة. ونص آخر يسير على خطى النص السابق "تبخرت الأرواح لشدة الحرب.. صعدت إلى السماء, تكونت سحابة, وحينما زمجر الرعد ولمع البرق في سماء بيروت ونزل الغيث, زغردت النساء وخرج موكب الاستسقاء يستقبل العائدين" نفس سياق النص الأول حين يشرك الكاتب مشاعر القارئ في أحداث تهز كوكبنا بآلات الدمار والهلاك .. لصورة الجلاد المتخفي خلف حرارة الحروب والصفقات المشبوهة , وإشراك رحمة السماء , حين تخرج القلوب المكلومة تنتظر السماء الماطرة إن تهطل أرواح من غادروا في حومة الحرب, لم يكن النص محايداً وهو يشير إلى السماء وكأن النص يشير بالاتهام إلى الأعلى في كل ما يدور من سفك للدماء . تلك هي نماذج من نصوص برطال التي تتجاوز المائة والسبعين نصا . يبرهن الكاتب من خلالها امتلاكه لقدرات فذة لإخراج نص متقدم فنيا وموضوعيا, وهو يصوغ مفرده إثر أخرى بدقة الصائغ الخبير , ليصوغ جملة القصيرة التي تفضي بنا إلى خاتمة النص بمفارقات غاية في الإدهاش. وفي كثير من نصوصه يوظف برطال يوظف المفردة كوحدة بنا للنص , ما يذهب بمعانيها, حسب موقعها من سياق إلى آخر, كما ذكرنا سابقا, ففي نص بعنوان وشاية "تم التبليغ عن (البندقية) التي يحملها أحد المهاجرين, وبعد التحقيق وجدوا في جيبه أوراق إقامة, وصورة لمدينة (البندقية) " نص آخر "القلب لا يدق,ومع ذلك القبر يفتح بابه" ونص ثالث "تمنت المبيت في خمسة نجوم, فأسكنوها غرفة دون سقف لترى السماء" ونص رابع" نحت تمثالا لزوجته,لكن فقره دفعه لبيع ذلك التمثال, ليشتري احد الأغنياء النسخة الأصلية في نفس اليوم" هي نماذج من عشرات النصوص, تقدم لنا تجربة لكاتب يمتلك أدواته عن وعي . أترك للقارئ استبطانه والغوص في مدلولات, نصوص هذا الكاتب الذي تتجلى تجربته الفذة من خلالها , مقدما تجربة إبداعية ناضجة لجنس إبداعي تتسع مساحته يوما بعد يوم. وختام هذه المقاربة بنصوص من مجموعة القاص ميمون حرش أنفة الذكر. حيث ضمت أكثر من ثمانين نصا, تناولت عدة قضايا منها, الهم السياسي في أكثر من نص ومنها: رؤوس تماسيح.. تنديد. القرار. وكذلك تناول في بعضها , مواضيع عاطفية مثل: لو يعود , الوسادة الخالية. ونصوص أخرى تغوص في قاع المجتمع وتعالج انكسارات الروح..والتغيرات المجتمعية وما تعكسه على بنية الوعي الفردي . وقد جمعت مجموعة حرش, بين النص الكلاسيكي والمتمرد, كما قدمت النص المختلف, الأقرب إلى فن الأحجية. وهذا ما يدفع بالقارئ إلى اكتشاف النص السؤال. حين يدور حول شخصية دون ملامح , وبصيغة من ينسخ سؤالاً تلو آخر. لتأتي الخاتمة في شكل متضادات مشوقة لمزيد من البحث عما يرمي إليه النص . وكاتبنا بذلك يحاول أن يضع بصمته من خلال تلك النصوص المختلفة.. والتي تتنفس روح الأحجية المأطرة بفن القصة القصيرة جدا ومن تلك النصوص : لعنات, الميت, الدرس الأول, العدو, لا يستويان, فوق السرير, الصغير في عالم الكبار, كبش. إذ أن علامة الإستفهام تلاحق القارئ من أول كلمة.. ليجد نفسه باحثا عن أجوبة لما تطرحه النصوص , باحثا عمن يكون محور تلك النصوص؟. ليختتم الكاتب نصا بعد آخر بما يشبه السؤال المستتر. هنا يذهب الخيال بالقارئ في عدة طرق, باحثا عما يواسيه من أجوبة.. معيدا قراءة تلك النصوص ليكتشف عوالم جديدة بعد كل قراءة. مقدمة مدلولاتها وتغيرت معاني تراكيبها الإيحائية ما يجعل النص بعدة أوجه, كمكعب لا يدرك له وجه بعينه.. لكنها الأسئلة تظل في تناسخ ما يزيد القارئ دهشة. لم أجد بين نصوص كتابنا الثلاثة من قارب بنصوصه إلى تصنيف الأقصودة. غير برطال الذي قدم نصوصاً كوميض البرق السريع, وتلك الانتقائية لمفرداته والاقتصاد بأقل ما يمكن, ما ترك للقارئ مساحات من التخيل ومشاركة الكاتب ما يكتب. مازجا في جل نصوصه بين الشعر والسرد. ويهمنى هنا التركيز على هذه التجارب التي أزالت تلك الحدود بين القصة والقصيدة .. بين السرد والشعر. وبين الأجناس الإبداعية المتعددة. حين يبتعد الكاتب عن الحكي المباشر.. وكذلك عن الغموض المصطنع . ينتهي كل نص بمفارقة تجعل القارئ يبتسم لمباغتتها ومفاجأتها.. أو يصمت باحثا عن مغزاها.. أو يتأمل ما ترمي إليه من عمق الفكرة. يكون بنصه قد أقترب من الكمال. وإذا كان برطال قد كتب الأقصودة, فان جمال الدين قد كتب نصوصا تجريبية غاية في الإدهاش وهو يبعث لنا روح المقامة من جديد ليقدم القصة القصيرة جدا في ثوبٍ لم يقدم أحد من قبل. داعيا جميع الكتاب لينهلوا من تراثنا الحكائي الثري, مازجا بين فنون سادت أزمنة طويلة وفناً لا يزال يتشكل يوما بعد يوم. وكما هو برطال وجمال الدين فإن ميمون يحاول تجاوز التقليدية بتقديم نصوص تثير الأسئلة, وتدفع بالقارئ إلى اكتشاف أوجه المكعب المتعددة, وسأختتم بنص لكاتبنا ميمون حرش كمثال على تلك النصوص التي تبعث على التساؤل "أنوح فيسخر من أدمعي, اهنأ أحيانا.. يسلط علي رياح الحداد. إذ أذكيت أخمد, وكلما أنضجت رمد, هدني معه اليأس فكان لابد من الفرار بقرب أكيس. ولما قررت الرحيل, لبني,وصرخ في وجهي: بل ستبقى فليس لي عدو عزيز غيرك" تجارب مغربية متباينة في النضج ومقدار التجريب وتجاوز القوالب والأساليب والأشكال المستهلكة.. وتلك كلماتي تحية مع الشوق لقراءة جديدة نتاج كتابنا الأفاضل.