المشاهد السياسي - شكّلت النتائج التي أسفرت عنها انتخابات البرلمان الأوروبي، التي جرت في أواخر أيار (مايو) الماضي، زلزالاً سياسياً حقيقياً في أوروبا، نظراً الى الصعود الكبير لأحزاب اليمين المتطرّف، في بلدان أساسية في الاتّحاد، وفي مقدّمها فرنساوبريطانيا. وعلى رغم أن أحزاب اليمين المتطرّف، التي توصف بالأحزاب الشعبويّة، غير قادرة على تكتيل نفسها في تجمّع واحد داخل البرلمان، وأن الغلبة فيه لا تزال للأحزاب المحافظة والاشتراكية، فإن هذه هي أول مرة تفرز فيها الانتخابات برلماناً هو الأقلّ إيماناً بالمشروع الأوروبي. فالقاسم المشترك للأحزاب اليمينية المتطرّفة، هو عدم إيمانها بالاتّحاد الأوروبي ومؤسّساته، وتفضّل العودة الى الدولة الوطنية، فضلاً عن قاسم مشترك آخر يتمثّل في كره الأجانب. / مثّلت الانتخابات انتكاسة كبيرة للرئيس الفرنسي الاشتراكي فرنسوا هولاند، الذي يعاني أساساً تدهوراً قياسياً في شعبيّته، بسبب عدم نجاح سياساته في بعص الحياة في شرايين الاقتصاد الفرنسي، وبقاء معدّلات البطالة في البلاد عند مستويات قياسية، ومن دون بروز أي تعاف من آثار الأزمة المالية التي اجتاحت فرنسا والعالم في العام 2008. ولم تكن النتائج أقلّ قساوة على رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بعدما حلّ حزب استقلال المملكة المتحدة «يوكيب» بزعامة نايجل فاراج أولاً في بريطانيا، شأنه شأن حزب الجبهة الوطنية الفرنسية بزعامة مارين لوبين في فرنسا. ومن هنا استحقّت هذه الانتخابات الأوروبية وصفها بالزلزال السياسي أو بالهزّة الأرضية الشعبويّة، على ما جاء في وسائل الاعلام الأوروبية. ومهما بلغت درجات الانكار، لن يكون في مقدور هولاند وكاميرون على وجه الخصوص، سوى استخلاص العبر والنتائج من تقدّم أحزاب معادية للوحدة الأوروبية على حزبيهما في الانتخابات. وحتى الأحزاب التقليدية الموجودة في صفوف المعارضة تأثّرت في الزلزال الانتخابي. واهتزّت الساحة السياسية الفرنسية مرة أخرى، حينما تنحّت زعامة حزب الاتّحاد من أجل حركة شعبية المعارض المحافظ بصورة جماعيّة، وسط حالة من التشوّش بعد أقاويل شابت تمويل الحملة الانتخابية الفاشلة، التي قام بها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في العام 2012. فالمشهد الأوروبي آخذ بالتغيّر لأسباب كثيرة، يبقى أبرزها الوضع الاقتصادي الذي يلقي بثقله على مواطني الاتّحاد الأوروبي، ولا تظهر علامات على تجاوز الأزمة المالية. وهذا ما يفسّر الأداء القوي لأحزاب اليسار المتشدّد في اليونان وإسبانيا مثلاً. وأصبح الحزب القومي الديمقراطي «إن بي دي» للنازيين الجدد في ألمانيا، لأول مرة في تاريخه، ممثّلاً في البرلمان الأوروبي، بحصوله على مقعد من المقاعد ال96 المخصّصة لألمانيا في الاتّحاد. وتصدّر «الحزب الشعبي الدانماركي» المناهض للهجرة نتائج الانتخابات الأوروبية في الدانمارك، بحصوله على 23% من الأصوات. وشكّل حزب اليسار الراديكالي في إسبانيا «بوديموس» وزعيمه بابلو إيغلاسياس، مفاجأة بفوزه بخمسة مقاعد في الانتخابات الأوروبية، ليواجه لآن ما يطلق عليه «الزمر السياسية». وأظهرت النتائج في اليونان أن حزب سيريزا اليساري المتطرّف، استفاد من موجة غضب من إجراءات التقشّف، ليفوز في هذه الانتخابات، ولكنه أخفق في تسديد ضربة قاضية لحكومة رئيس الوزراء أنتونيس ساماراس. وفي أول اختبار انتخابي له منذ وصوله للسلطة قبل عامين، عاقب الناخبون ساماراس على الخفوضات الكبيرة في الرواتب والمعاشات التي طبّقها، في إطار برنامج الانقاذ المالي للاتّحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وكانت تلك أول مرة يفوز فيها حزب يساري متطرّف على مستوى عام في اليونان الحديثة، على الرغم من إخفاق حزب سيريزا في تحقيق الفوز بفارق خمس نقاط مئويّة، وهو الحدّ الذي ينظر إليه على أنه يمثّل خطراً لحكومة تتشبّث بأغلبية مقعدين فقط في البرلمان. وفي النمسا سجّل حزب اليمين المتطرّف «إف بي أو»، الذي يأمل في تشكيل كتلة مع الجبهة الوطنية، تقدّماً واضحاً وحلّ ثالثاً مع 19,9 في المئة من الأصوات، محقّقاً تقدّماً ب5 في المئة مقارنة مع انتخابات العام 2009، ويأتي خلف المسيحيين الديمقراطيين والاشتراكيين الديمقراطيين الموجودين في الحكم. وفي الاجمال فإن المتوقّع أن يحصل المشكّكون في الفكرة الأوروبية على نحو مئة مقعد. وهو عدد لا يتيح تعطيل البناء الأوروبي، لكنه كاف لإسماع الصوت وزعزعة الأحزاب التقليديّة. وخلال اجتماع للمجلس الأوروبي في بروكسل لتقويم نتائج الانتخابات الأوروبية، اعتبر كاميرون أن المشكلة لا تكمن في المواطن الأوروبي الذي لجأ الى القوى الرافضة لفكرة الاتّحاد، إنما في ركائز الاتّحاد ذاته «القائمة على استراتيجية الحلول محلّ فكرة الدولة الوطنية»، والتي تحاول السيطرة على خصوصيّات الدول، بينما أعطى هولاند تبريرات مختلفة، فالوحدة الأوروبية، من وجهة نظر الرئيس الفرنسي، يجب أن تتعزّز وتتقدّم وتتحمّل مسؤوليّات بقيت حتى الآن حكراً على الدولة الوطنية، كإيجاد حلول للبطالة والتقشّف وتعزيز فرص العمل من جهة، ومن الجهة الأخرى أن تذهب في وحدتها بعيداً في مجال السياسة الدفاعية والأمنيّة المشتركة، «إذا أرادت أن يكون لها وزن على الساحة الدولية في مجال التدخّل في الأزمات الدولية والبحث عن حلول ميدانيّة لها». وهو يعتبر أن اليمين المتطرّف يسطع نجمه عندما ترتكب القوى المعتدلة أخطاء، يمكن للتطرّف أن يستغلّها لينفد منها ويترجمها في صناديق الاقتراع، وفي الوقت عينه، يستعير وصفة مارين لوبن (رئيسة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرّفة) الانتخابية، وينتهج لغة شعبويّة لطالما استخدمتها لوبن، لدى مقاربتها مسألة اللجوء والهجرة، ومطالبته بإيجاد سياسة أوروبية مشتركة تطبّقها كلّ دول الاتّحاد في مجال الحد وتنظيم الهجرة الى أوروبا، ومن خلال رفع شعارات تحاول سدّ منافذ على وقود التطرّف، كالتركيز من الآن فصاعداً على تحقيق النموّ الاقتصادي والتخفيف من حدّة البطالة. ولا يخفي هولاند، أن لألمانيا دوراً مهمّاً في مواصلة العمل على توطيد ركائز الوحدة الأوروبية «فهي أكبر اقتصاد في أوروبا»، وسيعوّل عليها كثيراً، وهي في حاجة الى أوروبا كما أوروبا في حاجة إليها. أما على المستوى الفرنسي، فيرفض هولاند تفسير نتائج الانتخابات على أنها إرادة فرنسية «للخروج من الاتّحاد الأوروبي»، ويعتبر أن تقدّم الجبهة الوطنية لم يضعف دور فرنسا في الاتّحاد، ويجب أن لا يفسّر باتّباع سياسة مضادّة لأوروبا «بل على العكس، يجب اتّباع استراتيجية، أساسها أن يجد الشعب الفرنسي نفسه من خلال أوروبا». لكن، على أرض الواقع، يبدو الأمر مختلفاً عما يقوله هولاند أو يتمنّاه، فحزب «الجبهة الوطنية» وجدت نفسها لأول مرة في مقدّم عمليّة اقتراع في فرنسا بفوزه بحوالى 25 في المئة من الأصوات، متقدّماً على الاتّحاد من أجل حركة شعبيّة، أكبر أحزاب المعارضة اليمينية (20,8 في المئة) وملحقاً هزيمة نكراء بالحزب الاشتراكي الحاكم (14%). وبمضاعفة نتائجها بالنسبة الى الانتخابات الأوروبية في العام 2008 بأربع مرّات، ومضاعفة أفضل نتيجة حقّقها حتى الآن (11,7 في المئة عام 1989) بأكثر من مرّتين، فإن حزب «الجبهة الوطنية» يواصل صعوده. ولاحظ مدير قسم الرأي في «معهد إيفوب» جيروم فوركيه، «أننا أمام مسار خال من أي خطأ منذ وصول مارين لوبن الى رأس الحزب في كانون الثاني (يناير) من العام 2011. وأضاف: «بدأ الأمر مع الانتخابات المحلّيّة في العام 2011، ثم جاءت الانتخابات الرئاسية فالبلدية والآن الأوروبية. إنها في كلّ مرة عمليّة اقتراع مختلفة جدّاً، وفي كلّ مرة ينتقل حزب الجبهة الوطنية من رقم قياسي الى آخر». وقال: «هناك تضافر ظروف مثالية بين وضع اقتصادي واجتماعي هشّ للغاية، مع أزمة بالغة الخطورة والعمق، ووضع اقتصادي مؤات جدّاً مع يسار حاكم مفلس تماماً، واتّحاد من أجل حركة شعبيّة عاجز عن تجسيد خلف أو بديل». ومع حصوله على 24 نائباً أوروبيّاً وموظّفين سياسيين مع احتمال تشكيل كتلة نيابية في ستراسبورغ، فإن حزب الجبهة الوطنية سيتمكّن من مواصلة استراتيجيته الهادفة الى اكتساب الصدقيّة، وترسيخ وجوده في المناطق بعد فوزه في انتخابات آذار (مارس) البلدية، بأكثر من 1500 عضو في مجالس بلدية. ورأى المتخصّص بناخبي الجبهة الوطنية جويل غومبان، بأن هذا الحزب حقّق «أكثر بقليل من 11 في المئة من الناخبين المسجّلين»، غير أن هذا يمثّل «أكثر من ثلثي الأصوات في الانتخابات الرئاسية في العام 2012، ما يعتبر هائلاً في ظلّ هذه النسبة من المشاركة»، مشدّداً على أنه «تخطّينا ظاهرة التعبئة المسرفة، وأننا في ديناميكية ترسيخ قاعدته الناخبة». فهل تكون مارين لوبن في موقع مثالي لاستحقاق 2017 الرئاسي؟ هذا الأمر ما زال احتمالاً بعيداً. كلّ الانظار تتّجه الى أوروبا، والمحلّلون والسياسيون، على حدٍّ سواء، يحاولون قراءة نتائج الانتخابات، ومعرفة الاسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الصعود المخيف للأحزاب اليمينية المتطرّفة، وكيف سينعكس ذلك غداً على قرارات البرلمان الأوروبي من جهة، وعلى كامل المشهد السياسي في الدول ال28 الأعضاء في الاتّحاد. وهناك تخوّف من تنامي ظاهرة العنصرية وكره الأجانب وعودة الى التعصّب القومي، وابتعاد عن المشروع الأوروبي الذي حاولت الدول الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية، أن تسير به، ضماناً لتعاون سياسي اقتصادي، يبعد شبح الحروب مجدّداً عن القارّة، ويقيها الدخول في صراعات دفعت أوروبا تكلفتها باهظاً. إن أوروبا تطلّ اليوم على مشهد جديد تقع مسؤولية التصدّي له على عاتق الزعماء الموجودين في السلطة. ولا تعدو الانتخابات الأوروبية سوى جرس إنذار مما ينتظر القارّة القديمة بأكملها، إذا لم توضع سياسات تتصدّى للتحدّيّات الاقتصادية الكبيرة التي تلقي بثقلها على كاهل المواطن الأوروبي.