طور تنظيم القاعدة إستراتيجية جديدة في المواجهات الدامية الدائرة بينه وبين النظام اليمني، حيث انتقل من العمليات العشوائية والمتفرقة التي كان ينفذها في أنحاء اليمن، إلى السيطرة الكلية والتمركز في بعض المدن اليمنية, وأصبح قادرا على التخطيط الدقيق والتكتيك المسبق لعمليات نوعية حاضرة ومستقبلية. وتحمل هذه التطورات في قدرة التنظيم على فرض خطط تكتيكية جديدة ومؤثرة ومختلفة نوعا ما، مدلولات عدة، لعل من أهمها ما يلي: 1- أن التنظيم أصبح أكثر قوة وفاعلية وشعبية من ذي قبل. 2- أن التنظيم أصبح ذو عقلية أكثر قدرة على التخطيط والتنسيق المسبق والمحكم، ويعي جيدا ماذا يريد وكيف يصيب الأهداف وبإحكام شديد. 3- أن التنظيم لدية ثقة كبيرة لفعل ما يريد, وتنفيذ الوعود والتهديدات التي يطلقها بحذافيرها دون تردد. 4- أن التنظيم أصبح قوة لا يستهان بها على أرض الواقع، وأصبحت لديه القدرة على إملاء الشروط وتنفذ البرامج بخطط مدروسة. وعليه فإن التعامل مع تنظيم القاعدة مستقبلا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ما يلي: 1- الخصوصية الثقافية والاجتماعية القبلية للمجتمع اليمني, فالعنصر «القاعدي» مكون تم دمجه من روح القبيلة بأفكار دينية متطرفة, وبذا لاقى قبولا شبه واسع في بعض المناطق لخروجه من عباءة القبيلة, واكتسب حمايته غالبا في المناطق القبلية الرافضة للتدخل الأجنبي وللمساس بهويتها الدينية والوطنية. 2- التعامل مع هذا المكون، يجب أن يتم في إطار المواجهة الفكرية والإقناع بالمنطق والحوار الديني والثقافي وإعادة التأهيل والتأطير النوعي والدعم التقني, وليس من منظور خيار الحسم العسكري الخالص والمواجهة المسلحة فقط. 3- لا بد من إيجاد الخطط السريعة والناجحة لتفويت الفرصة على "النهر المتدفق" من الجريان في عمق الجسد اليمني, وتهديد وضرب الأمن والسلم الاجتماعي. 4- الحوار مع "أنصار" التنظيم وتوضيح الأضرار البالغة للاستمرار في انتهاج مبدأ العنف والتطرف الديني والإرهاب الدولي. 5- التوعية الإعلامية المستمرة بأخطار القاعدة ومخاطر التسليم له في المناطق المأسورة في عموم المحافظات اليمنية بشكل عام, وما حدث في مدينة رداع يعتبر مثالا حيا، عندما سقطت المدينة في أيدي القاعدة, حيث جيش التنظيم وجمع أنصاره بحجة الفساد وفشل الدولة في حل القضايا العالقة والفساد القضائي والمالي والإداري, ما حدا بالكثيرين للتوجه إلى رحى القاعدة كنظام بديل ومنقذ. إن انتشار تنظيم القاعدة وتجذره في بعض المناطق أصبح مقلقا، فطول استمرار وبقاء تواجده في أبين لأشهر عديدة دون حلول سريعة وطارئة, وسع من رقعة انتشاره شمالا وجنوبا, وأعطاه الوقت والقدرة الكافية لترتيب أوضاعة وتدريب جماعاته وفئاته ونشر أفكاره ومناهجه في عموم اليمن، في ظل الاضطرابات السياسية التي شهدتها اليمن إبان الانتفاضة الجماهيرية, وانشغال مكونات أطياف العمل السياسي اليمنية بالاختلاف والصراع والتناحر السياسي والحزبي, وفي ظل ضعف وهشاشة الدولة المركزية, وتذبذب الولاءات في الجيش بين مؤيدة ومعارضة للنظام على مدى عام كامل, جميع هذه العوامل وفرت مناخات ملائمة وأجواء مناسبة لانتشار التنظيم وإيجاد بؤر وأرضيات خصبة لتوسعه وتكاثره, خاصة في المناطق المعزولة والأشد فقرا. وأصبحت عمليات القاعدة حاليا قائمة على أساس الصراع لأجل الحياة والبقاء, خاصة مع إرهاصات بدء تهيئة الظروف السياسية المناسبة لإيجاد حلول وطنية شاملة, وعقب التصريحات الإعلامية القوية ضد التنظيم في خطاب الرئيس هادي، وتدخل السفارة الأمريكية بصورة مباشرة في الحرب الإعلامية والعسكرية ضد التنظيم, خاصة بعد عملية "قطع الذنب" التي راح ضحيتها أكثر من 350 بين قتيل وجريح وأسير, وما نشر خلالها، وتضارب الأنباء حول استعانة القوات اليمنية بخبراء أمريكيين بتدخل مباشر، وإشراك قوات المارينز الأمريكي في عمليات التطهير الحربي, على خلفية التهديدات التي جاءت على لسان ما يوصف بأمير ولاية أبين "جلال المرقش" بالشروع في تنفيذ سلسلة عمليات "النهر المتدفق" الانتحارية، عقب انتهاء مهلة الأيام العشرة لانسحاب قوات الجيش التي وصلت إلى مشارف مدينة زنجبار. ويضع إعلان هادي والسفير الأمريكي، جيرالد فايرستاين، بألا حوار مع هذه الجماعات الجهادية، مستقبلا نظرية دخول قوات أجنبيه ودولية إلى اليمن، كخيار وارد ومحتمل، بحيث تصبح اليمن بعدها مسرحا حيا للتدخلات الأجنبية ودولة فاشلة أمميا, وسيترتب على هذه الرؤية عواقب وخيمة في حصد أرواح الأبرياء والمساس المباشر بالسيادة الوطنية. إن العمليات النوعية والعسكرية للقاعدة في هذا التوقيت الزمني بالذات تطرح عدة تفسيرات ورؤى حول الأسباب الفعلية للشروع في ازدياد حدة المواجهات وقرع طبول الحرب من قبل القاعدة في تلك المناطق وفي هذه الفترة الزمنية بالذات: 1- إما أن تكون بدوافع ذاتية وعفوية بحتة خاصة في ظل التهديدات الرئاسية والدولية بمكافحة الإرهاب وتطهير البؤر والمناطق الملتهبة من خطر القاعدة، فاتجهت القاعدة تباعا إلى توجيه ضربات استباقية قوية لإيقاف الزحف والخطر المحدق الذي يهدد وجودها. 2- وإما أن تكون بسبب انتهاء العلاقة الحميمة مع النظام السابق, وكشف غطاء الحماية عن العمليات الانتحارية والهجومية, وتوقف الدعم اللوجستي المقدم من دار الرئاسة في ظل التكهنات القائمة عن العلاقة مع التنظيم ومدى استخدام النظام السابق هذه الورقة كقوة ضغط دولية يجني معها مكاسب سياسية ذاتية, ولذا سارعت القاعدة إلى توجيه ضربات استباقية متوخاة في ظل انكشاف وجودها وانعدام الأمان والرعاية السابقة من الرئاسة، وأصبحت مسألة بقائها وقتية لا أكثر. 3- وقد تكون فعلا وليدة التدخل المباشر والتغطية العملياتية والنوعية بدعم من فلول النظام السابق, ومن العناصر القيادية المقربة من الأسرة الحاكمة لبث نوع من الفوضى والتخريب والاختلالات الأمنية لتوفير فرص البقاء وإيجاد البيئة المناسبة لاستمرارها في مراكز القيادة ومواقعها في قمة الهرم العسكري والأمني خاصة فيما يمس مكافحة الإرهاب، وما تمثله العلاقة القوية في هذا الشأن بين النظام الرئاسي السابق مع الولاياتالمتحدة وتعاونهما الوثيق, بما يعيد اليمن إلى المربع السياسي الأول بذريعة تفشي خطر القاعدة الدولية وتهديدها للأمن القومي والوطني, الأمر الذي يجعل معه أي تغييرات سياسية مرجوة ضمن الإرادة الوطنية للتغيير مستحيلة. 4- وربما تكون خططا سياسية مسبقة الغرض منها امتصاص الغضب الجماهيري والشعبي ولفت الأنظار عن أي تسويات سياسية مرتقبة, وعن المطالبة الشعبية بتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية, وإضفاء شرعية مكتسبة للنظام الجديد, حيث ستتصدر الأولوية اجتثاث التنظيم ومحاربته في حرب قد تكون طويلة الأمد تستنزف الميزانية العامة وتسكت جميع الأصوات المعارضة وتفقد معها أي أمل بالتغيير. وفي ظل المواجهات الدامية خلال الأسبوع المنصرم وما نتج عنها من سقوط عدد كبير من الضحايا خاصة من جانب الجنود وأفراد القوات المسلحة, وعن ملابسات سقوط الألوية والمعسكرات في أيدي التنظيمات الجهادية بسهولة شديدة, والغموض الشديد في إدارة العمليات الدفاعية وحماية الألوية والوحدات المتمركزة في مناطق التماس, تبرز عدة تساؤلات منطقية عن مدى قدرة وجاهزية وكفاءة أفراد القوات المسلحة والأمن واستعدادها لخوض غمار حروب دفاعية عن الوطن, وعن مدى جدية التدريبات العملية والميدانية في مواجهة ومحاربة قوى التطرف والإرهاب, وعن التكلفة الباهظة والميزانية المهولة لدعم تحركات تلك القوات وتجهيزها, ويضع علامة استفهام كبيرة أيضا عن تسليم أو سقوط بعض الألوية كاللواء 39 ميكا بمنطقة الكود, وربما التخطيط المسبق من القيادات الموالية للرئيس السابق إثر شن أوسع هجمات القاعدة فيما أطلق عليها «سلسلة النهر المتدفق»، حيث بدأت بسلسلة سيارات انتحارية بالتزامن مع التفاف من جهة البحر صوب اللواء 119 مشاة بمنطقة الكود، ومواقع كتيبة المدفعية من اللواء 39 ميكا بمنطقة دوفس وهي الخطوط الأمامية في مواجهات مع مسلحي التنظيم، قبل أن تصل إلى معارك ضارية مع أفراد اللواء، بجانب اللواء 115 مشاه على مدخل دوفس , والسيطرة على المعسكرات والألوية والعتاد الحربي الثقيل والمتوسط للقاعدة, وعن سر تأخر وحدات التدخل السريع القادمة من عدن في تقديم العون والمساعدة والإمدادات العسكرية اللازمة. كل هذا يضع نظرية العلاقة بين القصر والقاعد كنظرية قائمة وواردة خاصة بعد أن تبنت القاعدة عملية تفجير طائرة "أنتونوف" في عقر دار قاعدة الديلمي الجوية بدعوى أنها كانت تمد الألوية العسكرية في عدن والجنوب بالسلاح والعتاد فيما يستخدم لاحقا لضرب القاعدة في أبين. هل نحن نقف إمام تكوين قاعدي جديد خرج عن المألوف والأطر المتعارف عليها في عمليات التنظيم المختلفة, وشب عن الطوق وتحرر من أصول القاعدة التقليدية، وأصبح قادرا على التخطيط والتدبير وإتقان الخطط الدفاعية بل والهجومية بدقة عالية, ووضع الشروط والملاءات حسب الرغبة والحاجة للبقاء, وفرض قوة الأمر الواقع على الأرض والسيطرة الميدانية, واستباق الضربات الانتقامية من وحي العمليات المضادة, كما حدث في تفجير القصر الجمهوري في محافظة حضرموت بعد دقائق معدودة فقط من تهديدات خطاب الرئيس الجديد للقاعدة, وتفجير معسكر الحرس الجمهوري في محافظة البيضاء, بعد فتره وجيزة من مقتل القيادي في التنظيم طارق الذهب في رداع، والآن يتجه التنظيم إلى حشد أنصاره وطاقاته ومكوناته وقدراته لتوجيه ضربات ثأرية انتقامية وعملياتية متتالية ضد أهداف ومؤسسات وطنية عامة, ويفرض سيطرته على الأرض في بعض المحافظات, كي يترك خيارات المواجهة العسكرية أمرا واقعا. جميع هذه التطورات توجب إعادة النظر في حسابات وخطط المواجهة مع التنظيم, ووضع إستراتيجية جديدة وآليات تنفيذية متطورة وفعالة لمواجهة إستراتيجية القاعدة, وتبني عملية "قطع الرأس" وإيقاف تدفق نهر التطرف والإرهاب!!