على هامش الحدث المصري الجلل، والانقسام العمودي للرأي العام، المذكّر بالصدوع اللبنانية العصية على العلاج... ورغم ما تمليه المبادئ الإنسانية والأخلاقية والديموقراطية (لا سيما الناشئة).. بل وما تحتّمه حتى البراغماتية السياسية، في مرحلة انتقالية وطنية دقيقة، من واجب لشجب ونقد موضوعي لما أقدم عليه الجيش المصري، الأربعاء، فأسفر عن قتلى وجرحى وخراب وهوّة أهلية وثقافية وسياسية سحيقة... ثمة صوت يجبرك على الالتفات نحو مصدره بعين الريبة، وربما الندم على حماسة حرّكتك يوماً لتصفّق لصاحبته كأول امرأة عربية تنال "نوبل للسلام"... هي الناشطة اليمنية توكل كرمان، التي ما زالت صفحاتها الإلكترونية، ومقالاتها وتصريحاتها الإعلامية، صاخبة بعبارات "نضالية" مخيفة لفرط تحيزها إلى طرف دون أفكار سياسية أو حتى قيمية. تقرأ أقوال كرمان وكتاباتها، وتسأل نفسك: من أين يأتي هذا الشعور بالخذلان؟ ألأنها المرأة التي صدّرت للعالم وجهاً أنثوياً وسياسياً عربياً مختلفاً، بعد طول قحط وتنميط (أو هكذا كنت اعتقدتَ)؟ أم لأنها رمز من رموز الربيع العربي المتخبط اليوم في تناقضات وتحديات وموروثات تكاد تقوّضه، وإن استمر الرهان على تغيير لا عودة بعده إلى الوراء رغم كل شيء... وها هو الرمز، الذي أفرحك كونه يمَنياً قبل أن يكون عربياً، يعود بالخطاب إلى كهوف الانتماءات العقائدية/الحزبية الضيقة والمكاسب الفئوية الآنية الصغرى؟ ربما تكون الإجابة في كل تلك الخيبات مجتمعة. لكن، قبل التيقن من ذلك، قد يفيد إصغاء تفكيكي لصوت توكل كرمان، المغرد نشازاً في فضاء التجربة المصرية منذ 25 يناير، أو لنقل منذ صعود محمد مرسي إلى سدة الرئاسة وصولاً إلى عزله وتفكيك اعتصام "رابعة".
في مقال لها، نشر في دورية "فورين بوليسي" الأميركية مؤخراً، دافعت كرمان عن مكتسبات ثورة يناير والتجمع السلمي، وروت تلقيها "تهديدات بالسحل والقتل والمحاكمة، واتهامات بالتدخل في شؤون مصر"، بعدما حاولت الانضمام إلى مؤيدي مرسي المعتصمين في رابعة العدوية. ولئن كان هذا "الرفض" و"الإلغاء" مستنكراً من حيث المبدأ، أياً كان متلقيه، فالقصة ليست هنا. كتبت كرمان أنه "لا يجب أن نخجل من الوقوف إلى جانب مظلومين ينشدون الديموقراطية والعدل، ويواجهون سلطة انقلاب ديكتاتورية". واستنكرت إطاحة أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، وتعليق دستور تم الاستفتاء عليه وحاز أكثر من 60 في المئة من الأصوات، شاجبة حلّ أول مجلس للشورى بعد الثورة وإقصاء حزب "الحرية والعدالة" عن الحياة السياسية. وتغافلت عن عناد "الحرية والعدالة" ومرسي، وتشبصهم بموقف الإنكار ورفض المشاركة، من قبل أن يتم إقصاؤهم، وإن كان إقصاؤهم والعودة لعبادة الدولة الأمنية جريمة ثورية. تغافلت كرمان عن أن الدستور هذا، هو الذي انسحبت الكنيسة من جمعيته التأسيسة، وكذلك ممثلو التيار المدني، فصار بين أيدٍ من لون واحد، وفشلت الجمعية حتى في الالتزام بمهلة صياغته، فمدّد مرسي عملها من تلقائه في محاولة لتلافي حلّها. ناهيك عن محاولته تحصين قراراته من أي طعن أو مساءلة، كما يليق بديكتاتور، فاستعدى القوى المدنية والقضاء والأقليات، قبل العسكر الذين حاول مراراً التحالف معهم ولم يكونوا آنذاك في نظره ونظر جماعته مهدِّدين لقيم الديموقراطية. وهناك المزيد، قبل القول بأن كرمان لم تستحِ من الدفاع عن هذه "الديموقراطية" كإخوانية منتمية إلى "حزب الإصلاح" الإخواني اليمني، إخوانية صرف، لا ناشطة يفترض أنها طامحة إلى تغيير وديموقراطية تُبنى لبنة بعد لبنة... فهذا الدستور الذي تنبري من أجله، هو الذي حاول "الإخوان" من خلاله تكريس "مرجعية كهنوتية"، فقهها مذاهب أهل السنة والجماعة حصراً، في ما يشبه محاكاة إخوانية ل"ولاية الفقيه" في إيران، مع الانتقاص من الحق التشريعي للبرلمان، والتطبيقي للقضاء. إضافة إلى تقليص عدد أعضاء المحكمة الدستورية واضطلاع الرئاسة بتعيينهم، للإجهاز على استقلالية أعلى مراتب السلطة القضائية. الدستور الذي تهدد صيغته الأولية، الحريات الشخصية والمواطنية، بمادة عن الدولة التي "ترعى الدولة الأخلاق والآداب النظام العام"، وأخرى عن "حرص الدولة على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية، وقوامها الدين والأخلاق والوطنية". الدستور منتهك حرية التعبير بحجة "حظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء"... وأخيراً، قنبلة الحفلة: الدستور الذي حفظ لرئيس الجمهورية كل سلطات الرئاسة من دستور 1971 وزاد عليها سلطة تعيين رؤساء الهيئات والأجهزة الرقابية المفترض أن تمارس الرقابة على.. الرئيس! المعادلة واضحة في ذهن كرمان، كما توضح كتاباتها: "إما الانحياز إلى القيم المدنية والديموقراطية، وإما إلى العسكر والاستبداد والقهر". فبرهنت عن ضيق أفق مذهل، يقزّم المتوقع منها بعد نشاطها المحتفى به في الثورة اليمنية، كامرأة وكمناضلة.. ولم نحكِ بعد عن تقزيم "نوبل للسلام" كتكريم أممي له ما له، وعليه ما عليه. كان يمكن لكرمان أن تنحاز إلى القيم المدنية والديموقراطية فعلاً، بالوقوف خارج "رابعة". كان يمكن أن تنتقد العسكر وانقلابهم وانفلاتهم المدان، لكن ليس من "رابعة" التي لم يحترم المعتصمون فيها، ومن يمثلون، مدنيةً أو ديموقراطية، بل اعتصموا بسلاح وخطاب قروسطي وأمعنوا في التعديات. وتتفوق كرمان على نفسها (المتخيلة بأثر من نوبل أم الواقعية بدلائل تصريحاتها؟). فتصف محمد مرسي ب"مانديلا العرب"! وهنا يعجز الكلام، ويصبح الرد بالبديهيات عبثاً وهباء. هي التي تقول إن مصر شهدت، خلال عهد مرسي "حريات مطلقة، خصوصاً حرية التعبير والتظاهر السلمي"، فيما الاعتداءات على متظاهرين ضد "الإخوان" عديدة وموثقة، إلى جانب الاعتداءات طائفية الطابع، وتلك المسلّحة، بغير سلاح الشرعية، وإن كان لا يجوز تصويب حتى سلاح الشرعية إلى صدور مدنيين... ولا ننسى الاعتداءات على صحافيين واستدعاء فنانين وإعلاميين للتحقيق والمحاكمة بدعاوى صنوها تخلّف وتسلّط. "لست عمياء عن الأخطاء والقصور التي ارتكبها مرسي وحكومته، وكنت مؤيدة لمطالب 30 يونيو"، تكتب كرمان، "لكن الهدف أمام عيني كان إنهاء الخلاف والانقسام لإدارة البلاد بالشراكة والتوافق". عال.. لكنها حينما تستشهد بكلام لأيمن الظواهري، الذي استنتج من عزل مرسي أن "الديموقراطية طريق فاشل وحكر على الغرب"، وعندما تحيل متابعيها إلى تصريحات لجماعات "القاعدة" في بلاد الشام والعراق يعيرون فيها "الإخوان المسلمين" بأن الحل في صناديق الذخيرة وليس في صناديق الاقتراع، لتستخلص بأن "الانقلابيين يعززون الإرهابيين ويقوون جماعات العنف".. فهي هنا تقول: إما نحن (الإخوان) وإما التطرف. ولا نعود نعرف أيهما أسوأ: كلامها كإخوانية؟ كرقم في تنظيم؟ تنظيم ديني العقيدة؟ بل تنظيم لا يفتقر تاريخه وحاضره إلى اللطخات؟ أم يكمن الأسوأ في نبرة الوعيد والترهيب التي لا فضل فيها لإخواني(ة) على "قاعدي"؟ وفي مقالتها في "الغارديان" البريطانية، تستنكر كرمان قتل متظاهرين وسجن واختطاف كثيرين وإغلاق قنوات فضائية.. ونسيت وزير الإعلام المتحرش علناً، وأخوَنة وزارتي الإعلام والثقافة ومؤسسات وطنية أخرى. نسيت تلفزيونات الشتم والكذب والتعصّب الإخوانية، المحرضة على القتل والعنف والكراهية. قد لا تكون القنوات الباقية اليوم أفضل حالاً، لكن خطأين لا ينتجان صواباً. لا تفهم كرمان كيف "يحمّل مرسي مسؤولية الفشل في تحقيق الرخاء الاقتصادي خلال عام من رئاسته التي ورثت تركة من الفشل والانهيار عن النظام السابق"، وترى إن القضاء والجيش وأجهزة الأمن ومعظم الحكومة "عملت بتناسق لاختلاق الأزمات وإعاقة الرئيس وإفشاله".. فيما المسألة ليست في الاقتصاد وحده، لا رخاءً ولا حتى "نهضة" أولية، بل في الهيمنة والتكالب على سلطة مطلقة طوال عام. وإذا كانت كل هذه الجهات تضافرت فعلاً لإفشال مرسي، ونجحت، فهذا يعني أن مرسي: إما ضعيف جداً، أو فاشل جداً، أو مستأثر جداً... بل ناجح جداً في استفزاز كل تلك المؤسسات واستعدائها، خلافاً لما يجدر برئيس أن يفعل.. إن لم يكن يعلي قوائم ديكتاتوريته الخاصة. حتى 30 يونيو الفائت، بدت كرمان مع التحرك ضد مرسي، بل كانت من أشد موبّخيه. يوم 29 يونيو كتبت: "فشل الإخوان الذريع تمثل في أنهم يواجهون الجميع عوضاً عن التوافق مع الجميع، فأضاعوا مصالح مصر وقوتها". وكتبت أيضاً: "يبدو لي أن المصطفّين ضد الرئيس مرسي عشية 30 يونيو 2013 أكثر بكثير من المصطفين ضد حسني مبارك في 25 يناير... هذه ليست دعوة إلى الثورة بل إلى التوافق، وفي حال عدم الاستجابة فمن حق المصطفين ضد مرسي أن يقوموا بثورة لفرض التوافق على قاعدة الشرعية الثورية"! ويوم 30 يونيو كتبت كرمان نفسها: "من ميدان التحرير إلى كل ميادين الثورة في مصر، مشاهد الثائرين اليوم تعيد إلى الذاكرة ليلة سقوط مبارك.. ليسوا فلولاً ولا ثور مضادة، بل امتداد لثورة يناير العظيمة.. على الرئيس مرسي وحكومته وجماعته أن يظهروا الاحترام لجموع الثائرين.. من الجنون الاستمرار في القول بأنهم فلول ومتآمرون.. ومن جهة أخرى، هذا يعطي دليلاً على أن الرئيس وجماعته مشروع استبدادي خالص إن خلا لهم الجو، وكلا الحالين يذكي الثورة ويعجّل بالرحيل". ثمة من يعتقد بأن توكل انقلبت بوضوح على نفسها يوم 4 يوليو 2013 بتغريدة: "خارطة الجيش استثنت الجميع عدا رئيس المحكمة الدستورية والجيش في مصر". والنظرية هنا إن المؤسسة العسكرية لم تستجب إلى ما أراده التنظيم الدولي للاخوان المسلمين، وهو تشكيل مجلس رئاسي يدير المرحلة الانتقالية. ويستدل أصحاب النظرية هذه بتغريدة كرمان في 30 يونيو: "لو كنت مكان وزير دفاع مصر لعلّقت الدستور وأصدرت بياناً دستورياً لتشكيل مجلس رئاسي انتقالي من الحائزين على أكثر من 10% في الجولة الرئاسية الأولى" (أي، من بعد محمد مرسي: أحمد شفيق، وحمدين صباحي، وعبدالمنعم أبو الفتوح، وعمرو موسى). وتكمل النظرية أنه، بتاريخ 4 يوليو نفسه، انقلب عبدالمنعم أبو الفتوح على مشاركته، وحزبه "مصر القوية"، في تظاهرات 30 يونيو. فيما لا يهضم متبنّو الرأي هذا، نفي الرجل المستمر لدعوى أنه "المرشد الحقيقي للإخوان"، ولا يصدقون تأكيده بأن انفصاله عن "الجماعة" العام 2009 كان نهائياً وأنه ما زال ناجزاً. وهو، بعد مشاركته في تظاهرات 30 يونيو، عاد فرأى إن ما قام به الجيش لاحقاً هو انقلاب، وأنه كان يجب إسقاط مرسي بالعصيان المدني، وإن سمّى سلوك مرسي "الأعند من مبارك" ب"الغباء والافتقار إلى الخيال السياسي". وكانت توكل شمتت بتغريدة في خيرت الشاطر: "من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه.. بركاتك يا شاطر". والتحليل إن غرض "الإخوان" دائماً الحفاظ على حاضر الحركة ومستقبلها في مصر، لا سيما في السلطة، ولو بالتضحية ببعض ناسها... ثم صار الجيش، في تغريدات كرمان وتعليقاتها، منفّذ انقلاب عسكري، وديكتاتورياً وقمعياً ومهدداً لمكتسبات يناير. بل صار "الإخوان" سلميين وديموقراطيين ووديعين وطيبين.. مهما أحرقت كنائس، ومهما قُتل من شيعة، ومهما ظهر من رشاشات. لا تكمن خطيئة كرمان في استنكار عسكرة الحراك المصري وإقصاء أي تيار سياسي، حتى ولو كان "الإخوان". فهذه وجهة نظر مشروعة ويناقشها مصريون أيضاً. لكنها بدل أن تكون الصوت النقدي المنحاز فعلاً إلى قيم يناير، إنحازت كرمان إلى طرف يدّعي أنه نتاج ثورة يناير التي التحق بركبها، بل بذيلها، متأخراً، وهشّم، هو نفسه، خلال عام من تولي السلطة، قيم ثورة 2011، بدءاً من انتهازية الزيت والسكّر، وصولاً إلى الاستقواء بمقاليد الحكم الذي ظن أنه خالد فيه. وذلك بدل أن تقلق توكل على بلدها اليمن، الذي قد ترخي عليه الأزمة المصرية بظلالها. إذ يتمطى النظام/الحزب الحاكم السابق لاستعادة السلطة. وسلفيو اليمن يعتبرون أقرب إلى "الإخوان" اليمنيين من قرب سلفيي مصر من "الإخوان" المصريين، لكنهم لا يؤخذون كتيار سياسي وازن، على عكس مصر. لذلك، بدأ السلفيون اليمنيون يحذرون (يتوعدون؟) مما يمكن أن يحدث حين تهمش قوى خلال ممارسة الحكم. أما "إخوان" اليمن فيريدون قيامة ل"إخوان" مصر لأنهم هم أيضاً ساعون إلى السلطة، وبدأوا يوظفون "مظلومية" رفاقهم المصريين. فيما يتخوف منهم يمنيون، للأسباب المصرية نفسها، إذا ما وصلوا إلى السلطة.. وبالطبع، فإن المرحلة الانتقالية اليمنية أخطر وأدق وأكثر هشاشة مما هي الحالة المصرية الراهنة، لدواعي التفشّي الأفدح للسلاح، والحالة القبلية، والفوضى الأمنية التاريخية، وحضور "القاعدة"، وبؤس الأوضاع الاجتماعية – الاقتصادية الأسوأ بكثير من مصر، رغم سوء الأوضاع المصرية.
رشا الأطرش - المدن إذاً، في اليمن توكل و"إصلاح"... وعلى "نوبل" السلام.