أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    احتجاجات للمطالبة بصرف الراتب في عدن    "تسمين الخنازير" و"ذبحها": فخ جديد لسرقة ملايين الدولارات من اليمنيين    الكشف عن آخر التطورات الصحية لفنان العرب "محمد عبده" بعد إعلان إصابته بالسرطان - فيديو    دورتموند يقصي سان جرمان ويتأهل لنهائي دوري أبطال أوروبا    ذمار: أهالي المدينة يعانون من طفح المجاري وتكدس القمامة وانتشار الأوبئة    ردة فعل مفاجئة من أهل فتاة بعدما علموا أنها خرجت مع عريسها بعد الملكة دون استئذانهم    اعلامي مقرب من الانتقالي :الرئيس العليمي جنب الجنوب الفتنة والاقتتال الداخلي    نيمار يساهم في اغاثة المتضررين من الفيضانات في البرازيل    دوري ابطال اوروبا: دورتموند يجدد فوزه امامPSG    قصة غريبة وعجيبة...باع محله الذي يساوي الملايين ب15 الف ريال لشراء سيارة للقيام بهذا الامر بقلب صنعاء    إهانة وإذلال قيادات الدولة ورجالات حزب المؤتمر بصنعاء تثير غضب الشرعية وهكذا علقت! (شاهد)    زنجبار أبين تُودّع أربعة مجرمين... درس قاسٍ لمن تسول له نفسه المساس بأمن المجتمع    اتفاق قبلي يخمد نيران الفتنة في الحد بيافع(وثيقة)    شبكة تزوير "مائة دولار" تُثير الذعر بين التجار والصرافين... الأجهزة الأمنية تُنقذ الموقف في المهرة    الأمم المتحدة: لا نستطيع إدخال المساعدات إلى غزة    صنعاء.. إصابة امين عام نقابة الصحفيين ومقربين منه برصاص مسلحين    وداعاً صديقي المناضل محسن بن فريد    البنك المركزي اليمني يكشف ممارسات حوثية تدميرية للقطاع المصرفي مميز    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34789 شهيدا و78204 جرحى    قيادات حوثية تتصدر قائمة التجار الوحيدين لاستيرات مبيدات ممنوعة    فرقاطة إيطالية تصد هجوماً للحوثيين وتسقط طائرة مسيرة في خليج عدن مميز    الاتحاد الأوروبي يخصص 125 مليون يورو لمواجهة الاحتياجات الإنسانية في اليمن مميز    أبو زرعه المحرّمي يلتقي قيادة وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في مديرية بيحان بمحافظة شبوة    ارتفاع اسعار النفط لليوم الثاني على التوالي    العين يوفر طائرتين لمشجعيه لدعمه امام يوكوهاما    ريال مدريد الإسباني يستضيف بايرن ميونيخ الألماني غدا في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    تنديد حكومي بجرائم المليشيا بحق أهالي "الدقاونة" بالحديدة وتقاعس بعثة الأمم المتحدة    الأمم المتحدة: أكثر من 4.5 مليون طفل في اليمن خارج المدرسة مميز    مجلس النواب ينظر في استبدال محافظ الحديدة بدلا عن وزير المالية في رئاسة مجلس إدارة صندوق دعم الحديدة    باصالح والحسني.. والتفوق الدولي!!    هل السلام ضرورة سعودية أم إسرائيلية؟    وصول باخرة وقود لكهرباء عدن مساء الغد الأربعاء    طلاب تعز.. والامتحان الصعب    كوريا الجنوبية المحطة الجديدة لسلسلة بطولات أرامكو للفرق المقدمة من صندوق الاستثمارات العامة    مليشيا الحوثي توقف مستحقات 80 عاملا بصندوق النظافة بإب بهدف السطو عليها    الهلال يهزم الأهلي ويقترب من التتويج بطلا للدوري السعودي    تهامة.. والطائفيون القتلة!    الرئيس الزُبيدي يبحث مع مسئول هندي التعاون العسكري والأمني    دار الأوبرا القطرية تستضيف حفلة ''نغم يمني في الدوحة'' (فيديو)    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    وتستمر الفضايح.. 4 قيادات حوثية تجني شهريا 19 مليون دولار من مؤسسة الاتصالات!    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    ضجة بعد نشر فيديو لفنانة عربية شهيرة مع جنرال بارز في الجيش .. شاهد    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    حقيقة وفاة محافظ لحج التركي    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقيقة عبادة الموتى والجن وتقديسهم في اليمن
نشر في المساء يوم 14 - 09 - 2013


الدكتور حسن علي مجلي

لا زلنا في اليمن ضحايا الموتى والجن الذين يحكمون زماننا في اليمن ويسيرون حياتنا ويقيدون تفكيرنا ويكبلون عقولنا بمختلف القيود الخرافية، الأمر الذي دفعنا لكتابة هذا البحث الموجز في عبادة وتقديس الموتى والجن وشعائرها.

فذلكة تاريخية :
اعتبر القدماء ومنهم اليمنيون منذ عصور ما قبل التاريخ أن الموتى من البشر يمتلكون قوى ما فوق الطبيعة الخارقة فعبدوهم وقدسوهم.
كان الإنسان ولا زال يرى في منامه أحياناً أمواتاً وكأنهم قد عادوا إلى الحياة، وقد يتراءى له من بينهم إنسان ربما يكون النائم قد أزهق روحه، فيعود إليه في حلمه ليعاتبه أو يطارده، أو يهجم عليه محاولاً قتله، وعندئذ قد يستيقظ النائم من نومه مذعوراً أو ربما فاضت روحه أثناء نومه من شدة وقع الكابوس عليه. ومن المؤكد أن الإنسان البدائي كان يقص الكوابيس التي تقض مضجعه على أترابه، ويبدأ الخيال في نسج أساطير تشرح تلك الظاهرة الغريبة فيعتقد أن أرواح الميتين لا تترك دنياها، بل تجيء بين الحين والحين لتزور الأحياء وهم نيام، إلى آخر هذه التفسيرات التي تتناسب عكسياً مع تطور العقل والإدراك([1])!.
والثابت، تاريخياً، أن العبادة المتعلقة بعالم الأموات قد أمست أكثر تعقيداً وتنوعاً في عصر البرونز مما كانت عليه في العصور التي قبله. وقد انعكست فيها الفوارق الطبقية والتمايزات السياسية في المجتمع. وعلى سبيل المثال كانت طقوس دفن الزعماء والأمراء والملوك مهيبة بشكل خاص، وكانت توضع في قبورهم كثير من الأشياء الثمينة وحتى الخيول المصروعة، وأحياناً كان يوضع مع الميتين من كبار القوم، أناس سبق قتلهم من خدم حي الميت وذلك بغرض مرافقة المتوفى إلى العالم الآخر، ووضعت تماثيل وأنصاب فوق القبور والأضرحة، كما كانت إجراءات دفن جثث الزعماء البارزين كثيرة المهابة والجلال.
ويؤكد المؤرخون أن الزعماء والملوك الموتى كانوا مادة لعبادة القبائل البدائية ولعامة الشعب في كل مكان. بل إن هذه العبادة كانت تكاد تكون الأهم بين العبادات، لأنها ارتبطت بشكل وثيق بعبادة الأسلاف العشائرية والعائلية (والفارق بينهما، هو أن العبادة الأولى شعبية عامة، أما الثانية فعائلية منزلية)، ولم تكن (عبادة الموتى) لتنفصل، في الوقت ذاته، عن عبادة الأحياء من زعماء العشائر والقبائل والدويلات والدول القديمة.
ويؤكد كثير من الباحثين أنه في المعتقدات القديمة، لا تبعد أرواح الموتى كثيراً عن الأماكن السكنية، كما أنها لا تحبذ التواجد في الأماكن المنخفضة وإنما تقطن المرتفعات لتوجه من هناك أمور الأحياء، وتأخذ منهم، وتعطيهم. وهكذا فإن الجبال كانت تقدس لكونها قريبة من السماء، وبالتالي لأنها تسهل الاتصال بالله، ويقطن (النبي) جبلاً كي يشرف على الناس ويزف إليهم النبوءة ويكتسب قداسة، كذلك كان يدفن اليمني أو القديس في جبل كي تستمر له تلك الخصائص وتزداد إثباتاً. ويرى البعض أن عدداً من المجتمعات العربية ما تزال وثنية تجاه الأشخاص الذين يتمتعون بالقداسة، كما أنه يكمن في هذه المعتقدات الوثنية التعليل الوحيد لبعض الطقوس المرتبطة بالموتى والتي لا زالت منتشرة في ثنايا حياتنا.
ومن العادات المرتبطة بالموتى والتي لا زالت آثارها حتى الآن في اليمن توزيع النقود على الصغار ترحماً على روح الميت. ولذلك غالباً ما يتقدم الجنائز الأطفال أملاً في المكافأة فيتبارون في رفع أصواتهم أثناء ترديد التراتيل الجنائزية، ويعتاد البعض في اليمن زيارة القبور أيام الخميس والجمعة. ومن المعتقدات أن روح الميت قد تزور بيته على شكل خنفساء أو ذبابة كبيرة، لا سيما عند الغروب، وفي بعض المناطق الريفية قد تتحول روح الميت إلى نحلة أو دبور يحوم حول أقاربه عند القيلولة تذكيراً لهم به، ويسود الاعتقاد أن أية حركة غريبة داخل منزل المتوفى بعد فترة وجيزة من موته مصدرها سكون روحه، على أن ما يحدث من حركات بعد ذلك بسبب الريح والظواهر الطبيعية الأخرى تتم نسبتها إلى مزعوم الجن والعفاريت.

جذور عبادة الأسلاف :
ترجع عبادة الأسلاف من الزعماء إلى التنظيمات القبلية والعشائرية والعائلية البدائية، حيث تكونت تلك العبادة من صلوات وابتهالات عادية مصحوبة بتقديم القرابين، غير أن عبادة الأسلاف الموتى من الزعماء في معظم القبائل اتخذ طابعاً خاصاً في المهابة، إضافة إلى الأشكال العنيفة في القبائل والعشائر ذات السلطة الاستبدادية، ولم يكن من الندرة تقديم ضحايا كقرابين بشرية إبان دفن الزعيم، أو خلال مآدب التأبين الموسمية أو غيرها. وكان تقديم القربان البشري في الوقت ذاته قد يكون تنفيذاً لحكم الإعدام على العبيد والمجرمين المحكومين بالإعدام فيجري إدخالهم في عداد القرابين، وكانت هناك عبادة في بعض القبائل لدى دفن الملك تقضي بمواراة أجساد الخدم والعبيد الذين قاموا بالدفن كقرابين بشرية، سوية مع الزعيم الميت في مدفنه، وكان الطقس يشمل أحياناً المقربين من الأشراف من هم دون الزعيم في المرتبة، وكان يؤتى بضحايا بشرية وافرة لتقدم قرابين في مآدب التأبين، يبلغ عددها حسب معلومات سابقة (400 - 500) شخص في المأدبة الواحدة. وحين لم يكن عدد المحكومين بالموت، الذين احتفظ بهم في السجون خصيصاً لمناسبات كهذه، يكفي، كان يتم القبض على أشخاص أبرياء، لا لذنب ارتكبوه، بل لمجرد إكمال العدد ((قد اسمه وصل)) حسب التعبير اليمني الشهير([2]).
وكانت القرابين المقدمة في مآدب تأبين الملك الراحل تعتبر في أفريقيا الغربية بمثابة (مراسلة) يبعث بها إلى العالم الآخر، كي ترفع للحاكم المتوفى الأخبار عن حسن سير الأمور في مملكته، ويفسر البعض ذلك بأن الفكرة الموضوعية في هذا السلوك الإرهابي تكمن في أن العادات والمعتقدات الدينية المماثلة كانت تدعم توطيد سلطة الزعماء، الذين انفصلوا عن الجماعة ووقفوا فوقها باعتبارهم قوة قهر وإرغام.
والراجح، أن الاعتقاد السائد في اليمن والمتمثل في أن الروح تنطلق على شكل ذبابة كبيرة لها طنين، مصدره الأساطير الفرعونية التي صورت الحياة الأخرى في مملكة الموت بشكل مفصل حيث اعتقد أهل مصر القديمة بأن الروح البشرية تكون على هيئة (خنفساء)([3])، ولدى اليمنيين القدامى كان يوجد ما يشبه هذا المعتقد، حيث كانوا يعتقدون بأن الإنسان، بعد الموت، يصبح ظلاً أي روحاً، يتجلى بشكل حيوانات أو حشرات أو ما شابه، والطنين، حسب المعتقد الشعبي، هو أصوات الروح التي لا يفهمها الأحياء، كما أن دوران الذبابة الكبيرة في البيت أو داخل غرفة، دليل تَفَقُّد روح الميت لأهله، وليرى من كان حزيناً منهم عليه حتى يباركه، أو يظهر غضبه على من بدا عليه السرور بعد الموت.
ويسود الاعتقاد، لدى بعض الأقوام بأنه، من أجل عدم إفساح المجال أمام الميت السيئ الذكر والشرير لينهض من قبره ويلحق الضرر بالأحياء، فإنه يجب تثبيت الجثة بوتد من الخشب ويدق مثبت من خلف الأذن وغير ذلك، مما يؤكد أن مصدر الخوف ليس هو الروح وإنما الجثة ذاتها حيث يسود الإيمان بخصائصها الخارقة التي تجعلها تتحرك بعد الموت، كذلك فقد نسبت للأنجاس من الموتى بعض الظواهر الضارة في الطبيعة، كالجفاف أي انقطاع المطر، ولدرئه، كان يؤخذ من قبر منتحر أو غيره من الأموات شيء من التربة وتلقى في مستنقع أو يجري ري القبر نفسه بالماء.
ولعل فكرة تثبيت جثة الميت لكي لا تنطلق منها روحه فتقض مضاجع الأحياء على نحو ما هو وراء وضع ألواح الحجارة على لحد الميت فوق الجثة بارتفاع بسيط في اليمن.
وفي المعتقد الشعبي أنه يمكن أن تتحول أرواح الموتى، حسب سلوك صاحبها أثناء الحياة، إلى أرواح طيبة أو شريرة. ولقد كان الإنسان اليمني وما يزال يعتقد كثيرون في اليمن أن الأرواح تكون، حتى بعد الموت، مرتبطة بالجسم أو بعض أجزائه، لذلك فإن أضرحة الأولياء يحافظ عليها بإجلال، وفي نفس السياق فإن الكثير من الناس في اليمن تتجنب كذلك المقابر، وتلك الأماكن التي سال فيها دم إنسان بسبب قتل عمد أو خطأ.
ويتضح من خلال دراسات التاريخ القديم، أن أجدادنا الجاهليين كانوا يعبدون الحيوانات المقدسة (الوعل والثور والبقرة والكلب والديك). كما وجدت لديهم عبادة النار وتبجيل الشراب المقدس، بل إن بعض القدامى أصبحت الشياطين مادة للعبادة لديهم في بعض الفترات التاريخية، وكان أهل (فارس) يحسبون الحساب لأرواح البشر، ومن أسماء الآلهة لديهم: إله الشمس (ميترا)، وروح الشر (أندرا)، والبطل الثقافي (بيما) وهو الراعي الأول وواضع القانون للبشر.


معبد الصمت :
في (فارس) تكونت العبادة (المزدكية) من تقديم القرابين وطقوس الطهارة وإشعال النار المقدسة.
ولديهم كل جثة نجسة، لا يجوز بأية حال أن تلاصق العناصر الطاهرة المقدسة وهي الأرض والماء وخاصة النار، ولكي تبعد الجثة عن ملاصقة الأرض والماء والنار، كان (المزدكيون) يدعونها فريسة للطيور الكواسر كما هو الحال في (معبد الصمت) الواقع أعلى جبل (شمسان) في (عدن)، وتقام لغرض التخلص من جثث الموتى لدى هؤلاء، أبراج دائرية خاصة سمي واحدها (داكما) في أعلى (الداكمات) تبدو فتحة متدرجة مع بئر في وسطها، تليها تجاويف متوضعة ذات ثلاث دوائر متحدة المركز من أجل أجساد الموتى: القسم الخارجي للرجال من الراحلين والوسط للنساء والقسم الداخلي للأطفال. وكان هناك مستخدمون خاصون، مهمتهم جلب الجثث وإلقاءها في هذه التجاويف وهي شبه عارية، حيث تقوم الكواسر بالتهامها بسرعة خاطفة، ثم تسقط العظام في قعر البئر، ويعتبر (الداكما) في التعاليم (الزرادشتية) مكاناً تتجمع فيه الشياطين لتمارس دعاباتها الصفيقة. والمؤمنون ملزمون في كل الأحوال بالابتعاد عن هذا المكان الملعون. إن (أبراج الصمت) هذه كما تدعى، ما زالت قائمة حتى اليوم لدى ورثة المزدكية المعاصرين (الفرس)، حيثما وجدوا([4]).
ويتضح من ذلك أن أتباع هذه الطائفة لم يكونوا ليقيموا كبير وزن لجدث الميت، فروح الراحل، حسب تعاليم المزدكية، عركت مختلف أوجه نصيبها في الحياة وهي ما زالت على الأرض. لهذا فإن عبدة (آهورا - مازدا) الطاهرين، الذين وفوا بكل ما تتطلبه الديانة، يؤولون بعد الموت إلى مكان منير هو الجنة، أما غير الأطهار، الكفرة، غير المؤمنين ب (آهورا - مازدا)، الذين ارتكبوا المحظورات أو ما لا غفران له من الآثام، فمصيرهم إلى جهنم، وهي مملكة (آنفرا - ماينيو). وستدمر يوم الدينونة أرواح المذنبين كافة.

سبب التقديس :
مما لا ريب فيه أن احتفالات الموت تربط الأحياء بجسم الميت والمقبرة، وذلك لكي تزيد من اعتقادهم في وجود الروح من خلال توقع مؤثراتها المفيدة أو الشريرة، ويرتبط بذلك إجراء سلسلة من احتفالات إحياء الذكرى، مع تقديم بعض الأطعمة التي ينبغي أن تشمل - في الغالب - ذبيحة. ويرتبط غالباً بطقوس إحياء ذكرى الموتى في اليمن عدد كبير من العناصر الاحتفالية التي تأخذ المحتفلين بعيداً عن الخوف واليأس والهلع ويقربهم كثيراً من التكافل والتضامن الاجتماعي، ومن ذلك المقيل الذي يقام بعد دفن الميت وما يتلى فيه من أناشيد وتدور فيه من مذاكرات وأحياناً تلقى فيه الدعابات والنكت للترويح على المصابين برزء الموت من أقرباء وأحباء وأصدقاء حي الميت و (ذكرى الأربعين مثلاً).

وما زال معظم الناس في اليمن يوزعون المأكولات والأطعمة للفقراء والمساجين بعد وفاة شخص ما، وذلك عن روحه، ولعل مرجع ذلك هو الاعتقاد بأن الطعام الذي يحصل عليه الفقراء يذهب، بدوره، عن طريق التناسخ، إلى روح الميت، والراجح أنه ليس الطعام ذاته هو الذي يذهب إلى أرواح الموتى وإنما الأثر المترتب على التصدق به إذ يصير كفارة لهم في الآخرة([5]).

ويرجع بعض الباحثين، المراثي والبكائيات الجنائزية، إلى عصور موغلة في القدم - فيما قبل القبائلية، كاشفاً النقاب عن ازدواجية الموقف من المتوفى من خلال ممارسة طقوس الدفن والجنازة، بما يشير إلى الخوف من الميت وحاجة الأحياء لحماية أنفسهم منه عن طريق المبالغة في دفنه في أعماق الأرض وداخل تابوت، كذلك الإغراق في الأكل الجماعي، عقب الدفن، والإشادة بفضائل الميت ومناشدته التشفع لهم في الآخرة وطلب العون لهم من الإله.

ويرى بعض الباحثين أن ما في معظم الطقوس الجنائزية من تكرار، بل وعبارات هزلية في بعض البلدان ومنها اليمن، لا تتفق ومراسم الجنازات.

على أن علماء الاجتماع المعاصرين يؤكدون أن التاريخ لم يقل لنا إن أُمّة من الأمم وصلت في احترامها للموتى والأسلاف إلى حد عبادتهم جميعاً، وإنما كان موضعاً للتقديس من هؤلاء، من كان قد عرف في حياته بقوة بدنية خارقة وسخرها لخدمة قومه، فترك أثراً طيباً في نفوسهم، أو ذلك الذي عرف بإنفاقه لثروته الطائلة في وجوه الخير ... الخ.

ويتضح من ذلك أن الموت، بذاته، ليس هو سبب التقديس، وإنما تسخير قوة حي الميت لخدمة الأهل أو إنفاق الثروة في وجوه الخير ومدى صدق حي الميت وصراحته وورعه.

ولدى الآريين في أوروبا كان الأسلاف موضوعاً للعبادة، أيضاً جنباً إلى جنب مع الآلهة الوثنية.

وفي إحدى الأناشيد الدينية المغرقة في القِدَم يرتل العابدون:
((بلى سترفع بيتريس ثلاث درجات ... نعم ستحفظنا في كافة دعواتنا. وعباداتنا موجهة الآن إلى القدماء، إلى الآباء الجدد، إلى أولئك الذين يستقرون فوق الشعلة الأرضية إلى أولئك الذين يتواجدون في كنف العرق الأصيل ... أوه أيها الآباء، آباء بارهيشادا (المفترش الشعب)، ندعوكم جميعاً لمعونتنا. تمتعوا بقربان كامل الاحتراق، مما نقدمه لكم. هبونا غطاء السعادة أبعدوا عنا الشر والإثم))([6]).

التناسخ :
ترتبط عبادة الأسلاف وتقديس الحكام والموتى بمسألة (التناسخ).

وقد كان المسخ والتناسخ عند العرب الجاهلية يعتبران نوعاً من أنواع الثواب والعقاب بعد الموت، حيث اعتقدوا بأن الشخص الذي تكثر سيئاته وذنوبه تنتقل روحه، عند وفاته، إلى جسد حيوان يسخر للقيام بالأعمال الشاقة والقذِرَة، أما الشخص الذي تكثر حسناته فإن روحه تنتقل بعد وفاته إلى جسد إنسان آخر يعيش عيشة سعيدة ويحيا حياة نظيفة.

ولذلك نجد في عالم تحضير الأرواح الخرافي في اليمن وغيرها، أنه في حالة فقدان شيء مثلاً، فإن روح أحد الموتى ممن كانوا صادقين وصرحاء قبل موتهم إذا ما تم استدعاؤها فإنه يجري الاعتقاد لدى البعض بأنها تحدد المحل الذي خبئ فيه الشيء المفقود. ولكن إذا كانت المستدعاة روح شخص كاذب، فإن المعلومات التي تقدمها حول الشيء المفقود تكون زائفة يجانبها الصدق وتبعد عن الحقيقة تماماً.

وكان الأيرلنديون مؤمنين بتجسد الأرواح بعد الموت، ولكنهم كانوا يحلمون بوجود جزيرة سماوية وراء البحر:

((ليس فيها عويل وخشونة أو عنف، بل فيها موسيقى حلوة تشنف الأسماع، وفيها أرض جميلة عجيبة ذات منظر لا يدانيه شيء آخر في روعته وبهائه)).

وتقول إحدى القصص إن الأمير (كونال Conall) تأثر بهذا الوصف فأبحر في قارب من اللؤلؤ ليكتشف هذه الجزيرة السعيدة([7]).

على أننا إذا ما نظرنا للمسألة من زاوية علم النفس، سنجد أن بعض الشعائر الدينية المتصلة بالموت في اليمن والقوى الانفعالية التي يوجدها الاتصال به وبجثث الموتى أثناء غسلها لتنظيفها وإزالة كل ما علق بها من آثار الدنيا، تنشأ عن ممارستها، وعن الانفعالات المتولدة عنها معتقدات عميقة حول الروح ودورها والحياة التي رحل إليها الميت وغير ذلك مما يرتبط به من تصورات خرافية وأراء خيالية([8]).


الأطهار والأنجاس :
في بعض البلدان يجري تقسيم الأموات بدقة شديدة إلى قسمين. القسم الأول: الراحلون (الأطهار)، الذين قضوا بموت طبيعي بسبب المرض أو الشيخوخة، وأطلق عليهم عادة، بغض النظر عن العمر أو الجنس، اسم (الأهل). والقسم الثاني: (الأنجاس)، من الأموات (المدفوس، المكوّم)، وهم من هلك بشكل غير طبيعي، عن طريق العنف أو قبل أوانه من القتلى، والمنتحرين، والهالكين غرقاً وسكراً (الموتى بسبب السكر الشديد)، ويعتبر الأولاد المتوفون بدون تعميد في الكنيسة من هذه الفئة، يضاف إلى ذلك مزعوم السحرة، وكان الموقف من هذه القسمين من الموتى مختلفاً جذرياً، إذ حظي الموتى الذين يطلق عليهم (الأهل) بالعبادة، واعتبروا بمثابة حماة للعائلة، أما (المدفوسون) فيخشى جانبهم ويلزم إرضاؤهم لتجنب أذاهم.

العقل الوثني :
الراجح هو أن تعاملنا مع الموتى ينم عن اتجاهات الذهنية الخرافية، فالعويل والندب، مثلاً، طريقتان بدائيتان في التعبير عن موقف احتجاجي إزاء القضاء والقدَر، وقد نهى صحيح الدين الإسلامي الحنيف عن الندب والعويل، ومع ذلك فهما مستمران، ومثلهما أيضاً عادة تطويل الشعر في الحداد. ثم أن طقوساً كثيرة في اليمن تقام على روح الميت تذكر بالتقاليد (البابلية). ومن ذلك الصدقة مثلاً، فقد كان في اعتقاد البابليين، أن الروح تتعذب، فتنقذها الصدقة التي قد يقدمها أقرباء الميت. وإذا لم يتصدق أحد عن روح أحد الميتين من ذويه فإنها تتوه أو تفقد الراحة ... الخ. وفي المعتقدات الشعبية السائدة في البلدان العربية ومنها الكثير مما يقرب من ذلك؛ إذ منا من يقدم الأكل والحلوى، أو قد ينشئ سبيل ماء، عن روح أبيه، كما أن قراءة التلاوات المقدسة وإقامة الحفلات الدينية عن روح الميت، منتشرة بكثرة تدعو للظن باستمرار وجود أفكار وعادات تقديسية وثنية تجاه الموتى وخاصة الأسلاف منهم.

ومن شواهد ذلك ما ورد في إحدى الصحف اليمنية:
((بدت مدينة (الحجاج الصامتة)، وهو الوصف الذي أطلقه الهولندي (فان دار مولين) في ثلاثينيات القرن الماضي على منطقة شعب (هود) حيث قبر نبي الله هود عليه السلام شرقي وادي حضرموت، 120 كيلو شرق سيئون، بدت هذا العام مكتظة بالزائرين من مختلف المناطق اليمنية والدول العربية وعدد من مسلمي أمريكا وأوروبا.

ويؤكد القائمون على خدمة الضريح والمدينة، التي كانت في الزمان الغابر من مناطق (عاد)، أن الزوار هذا العام (2004م) بلغوا (100 ألف زائر)، ناهيك عن الزائر الذي يصل فقط للسلام على قبر النبي، فيما البعض الآخر يظل حتى انتهاء الزيارة لحضور الأذكار والصلاة على الأنبياء وقراءة الموالد، والاستماع للمحاضرات والمذاكرات.

والملاحظ هو تزايد الأعداد القادمة من المغرب العربي ومصر والأردن ودول الخليج لزيارة القبر، مما يؤكد روايات وتأكيدات المؤرخين بوجود قبر نبي الله (هود) في هذه المنطقة، وقُدر عدد الوافدين للزيارة من غير اليمنيين لهذا العام بنحو (20 ألف) زائر، وتأكيد مكان قبر نبي الله (هود) عليه السلام أيضاً بالتواتر، ويقال إن التبابعة من ملوك حمير ومن دانى عصورهم كانوا يزورونه، ونقل ذلك المؤرخ (الحامد عن ابن هشام) المتوفى سنة 218ه، كما أن المكان. ويورد حيث يقع القبر كان سوقاً من أسواق العرب المعروفة في الجاهلية.

ويورد الدكتور (جواد علي): أن نفراً من المستشرقين يرون أن هذا المكان الذي فيه قبر (هود) هو الموضع الذي سماه الكتاب اليونان، والذي زعم الرومان أن قبيلتين من قبائل جزيرة أقريطس - كريت - تركتا موطنهما الأصلي وارتحلتا إلى هذا المكان.

وتفيد المعلومات بأن ضوابط الزيارة الحالية تعود إلى القرن السابع الهجري، وفي القرن التاسع الهجري بنى الشيخ الفقيه (حكم بن عبدالله باقشير) قبة على شاهد القبر، ومهد طريق الوصول إليه، وعام 1097ه شيد السيد (أبو بكر محمد بلفقيه) قبة عظيمة على جانب الصخرة المتصدعة، كما بنى بعده (علوي بن عبدالله الكاف) موقعاً واسعاً حول الصخرة المعروفة ب (الناقة) في القرن الرابع عشر الهجري([9]).

عبادة الجن وتقديسهم :
لم تقتصر العبادة (التقديس) على البشر، بل يفهم من القرآن الكريم أن من الأعراب من كان يعبد الجن، قال تعالى: ((قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون))([10]). وذكر (ابن الكلبي) في كتابه (الأصنام)، أن (بني مليح) من (خزاعة) رهط طلحة الطلحات، كانوا ممن تعبد للجن من الجاهليين([11]). ويزعمون أن الجن تتراءى لهم([12]). وفيهم نزلت الآية: ((إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم))([13]). وذكر أن قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن، ويقولون هم بنات الله([14])، فأنزل الله تعالى: ((أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً))([15]).

وكلمة الجن آتية من جن أي ما خفي ولهذا تطلق كلمة الجنين على ما يخفى في بطن الأم، وجن الليل تعني أنه أظلم ظلاماً أخفى ما بداخله، فالجن هم مخلوقات لها القدرة على الاختفاء والظهور ومنهم مؤمنون ومنهم غير مؤمنين ومنهم الشياطين والمردة وأبالسة وهم أمم أمثالنا، منهم الصالحون والكافرون والمتمردون والمردون أي المبعدون عن الخير وإنهم يشططون عن الخير([16]).

ويرجع البعض هذا الكم الهائل من المعتقدات الخرافية في علاقة الخالق سبحانه وتعالى بالجن وبمصاهرتها للآلهة الوثنية أو غيرها إلى بعض الأساطير المغرقة في القدم والتي ماتت قبل الإسلام، أو أن المسلمين تركوا روايتها لمعارضتها للإسلام ولأنها كانت، في نظرهم، خرافة تتعلق بأصنام، فانصرف عدد كبير منهم عن الاهتمام بها، وتركوها، ولولا ورود ذكرها في القرآن، فلربما اعترانا الجهل لبعض العبادات الوثنية وعلاقتها بالجن والشياطين.

ويرى بعض العلماء الغربيين أن الجاهليين لم يعبدوا الجن، ولم يتخذوها آلهة على نحو ما تفهم من معنى الإلوهية، وأن تسمية (عبد الجن)، وإن دل على العبودية للجن، إلا أن هذه التسمية لا تدل حتماً على عبادة الجن([17]).


أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء
فيس بوك: http://www.facebook.com/drhasan.megalliبريد إلكتروني: [email protected]الموقع الإلكتروني:http://hasanmegalli.com//ar/index.php
عن الأولى
([1]) والمراد من وراء هذا البحث هو تمكين الإنسان اليمني من فهم الظواهر الاجتماعية والإنسانية فهماً علمياً مرتكزاً على إجراءات منهجية مضبوطة، ويسهم في توسيع مساحة الفهم والاستنارة لدى الإنسان وينمي وعيه بواقعه الاجتماعي، بحيث يتمكن من مقاومة جميع أشكال التجهيل وصور الفكر الخرافي الضارة ومختلف أنواع القيم السلبية المعوِّقة لتقدمه.
([2]) وهذا التعبير مرتبط بواقعة إعدام شخص جرى إحضاره إلى ساحة الإعدام خطأ بدلاً عن أحد المعتقلين الذين تقرر إعدامهم من القضاة والعلماء والفقهاء وكبار الإداريين خلال الحكم الملكي في اليمن فور انقلاب 26 سبتمبر 1962م.
([3]) ومن أهم التحف التي تباع أيامنا هذه، كأحد المعالم السياحية في (مصر)، منحوتات (الخنفساء) الفرعونية التي يميل لونها للون الأخضر.
[4]- وهذه المقبرة الخاصة بالفرس تابعة لمعبدهم الكائن بمنطقة (الطويلة - كريتر - عدن)، والمقبرة تتكون من ساحة وبئر، وصفاتها كانت كما سلف في المتن.
[5]- وفي مضمار عبادة الموتى في بعض البلدان يتم تحضير نماذج في هيئة بشرية على شرف الأسلاف المقدسين، وتركب على النماذج أحياناً جماجم ذات الأسلاف الذين تمثلهم. وتحفظ الجماجم في معابد خاصة وفي البيوت الخاصة بالرجال.
([6]) Bibliotheque orientale. Chefs - D'oeuvre litterarise de I'Inde, de la perse.. “T. I”, Rig - veda, ou livre des hymnes, Paris, 1872, p. 519.
([7]) قصة الحضارة، الجزء الثالث من المجلد الثالث، قيصر والمسيح أو الحضارة الرومانية، تأليف: ديورانت، ترجمة: محمد بدران، ص (168 - 179).
([8]) ومهما يكن من أمر عناية اليمنية القدماء بالمدافن، فإنه ينبغي ألا تفوتنا ملاحظة احتواء بعض مدافنهم وخاصة الكهفية منها على أوان ومواد حياتية أخرى تدل دلالة قاطعة على إيمان القوم بحياة أخرى بعد الموت.
([9]) صحيفة (الأيام) "يمنية"، (عدن)، بتاريخ 25/9/2004م.
([10]) سورة سبأ، آية (41).
([11]) الأصنام، (34)، الاشتقاق (376).
([12]) تفسير القرطبي، ج14 ، ص (309).
([13]) سورة الأعراف، آية (193).
([14]) تفسير الطبري، ج15 ، ص (72).
([15]) سورة الإسراء، آية (57).
د. جواد علي، م. س.
([16]) د. صديق عبدالعظيم، كلية الشريعة، جامعة الكويت، صحيفة (مجلة الوطن) "كويتية"، 14/2/1994م .
([17]) Ency. Religi., I. p. (670) . (الموسوعة الدينية)، المجلد الأول، ص (670). كذلك: د. جواد علي، (تاريخ العرب قبل الإسلام)، القسم الثاني من الجزء السادس، ص (708)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.