لينا أبو بكر البدوي . . الإنسان الأول، رائد العمران البشري في مراحل التاريخ الطبيعي، سيد الرعي منذ بدء التاريخ، لم يزل يضبط إيقاع التطور البشري ليحقق توازن النمو التاريخي وهو يؤسس للتكنولوجيا العمرانية، بما أنه أول السلالات البشرية المستخلفة لإعمار الأرض . البدوي . ملهم الحضارة، والمبشر بالمدنية، لا بل إنه مشيدها وبانيها . جاء من اليمن ليغرس شجرة الحضارة في الجزيرة والعراق والشام وفلسطين والأردن ولبنان، هو صاحب النقش العمراني الأول في مدينة الأنباط الوردية إحدى عجائب الكون، وهو صاحب بذار التكوين للحضارات الكنعانية والفينيقية والآشورية والبابلية، التي ظلت عبر العصور تشهد للإنسان الأول ابتكاره لفلسفة البناء بحجر البداوة، ليخلد للمشهد العمراني عبر الزمن، ويعبر كرحالة عن استقرار الكوائن في أنحاء المعمورة . التأمل بفلسفة الترحال عند البدو، يثبت أن أساس الرحلة هو البحث عن مستقر لها، لأن الرحالة هنا يمارس البحث والتنقيب عن المكان للعثور على مقومات الحلول فيه، مستغلا توافر المناخ الملائم للبناء والإنشاء، كما تقضي غايات العمران في علم التاريخ، حيث يصبح المكان هاجساً والرحلة خريطة طريق . الرحلة جنة منشودة للحلم بجنة موعودة هي الأمكنة . والبدوي . . قناص بالفطرة، وللقنص أساليب ومهارات قوامها الإحساس، تجعل من ابن البادية إنساناً أقرب إلى الغرائز الطبيعية ذات السيلان الدفاق كما عرفه ابن خلدون، ولو تأملنا قليلاً لوجدنا أن الله اعتمد على فطرة الإنسان كمحرك للعقل والروح، بل كطريق إلى الله . فكل ما هو فطري مجبول بالتأمل والعمق، بالصدق والنقاء، مع نفحات من الاتزان والتمرد، الذي تشفع له تجليات صوفية متداعية من جنون مفطور على الحكمة، ولهذا كان سيد الرعي صورة مستوحاة من شخصية البدوي الفريدة بكل دواخلها الفلسفية . البدوي . . بَنّاء النفس، والروح، والفكرة، منظومته الأخلاقية هي اللبنة الأساسية لمنظومته الحجرية، وما قلاعه الصحراوية سوى مدارج لمعراج الخيول إلى ملكوت الفوارس . البدوي . . شاعر، صعلوك، نبوئي، منذ هوميروس اليوناني إلى جلجامش، وحتى امرئ القيس وطرفة وزهير وعنترة، وما المعلقات إلا ترحاليات موشومة باللغة قادت الحضارة العربية وشكّلت ملحميات شعرية عدّها النقاد من أهم مرتكزات الفكر والفلسفة، حسب اعتراف طه حسين ذاته . القصيدة ربابة البدوي، واللغة حداؤه الذي يهتدي به كل نجم ثاقب . القصيدة فروسية البدوي، سلوكه، ثقافته، عقيدته، وفطرته، بها حفظ الإرث الإنساني والحضاري للبادية، ولأنه ابن الطبيعة، فهو الجذر الذي يسند شجرة النسب لكل السلالات الحضارية عبر التاريخ . قوة بلاغة البدوي هي أثر لقوة شخصيته ومنطقه، وبراعته في صياغة علم الجمال وسبك النظم، وبناء الهيكل الشعري المحكم باتساق دقيق بين المعنى والمبنى، وهذا يؤكد على فلسفة التأمل والبحث في السياق الإبداعي من أجل البناء الجمالي على صعيد اللغة، ما يدل على أن البدوي خُلِق ليبني، وبناؤه ليس فوضوياً ولا عبثياً ولا اضطرارياً، ولا استعراضياً، ولا وثنياً، ولا تدميرياً، ولا إلغائياً، ولا فائضاً عن حاجة البناء، إنه استخلافي من السماء، و فكري وتأملي وجمالي إبداعي هندسي، جوهري،أخلاقي، يبني معماره الثقافي والعمراني بحجر الفلاسفة، لأنه إكسير الوجود وشعلة الصحراء التي أضاءت المعمورة، والبدوي الإماراتي المعاصر حمّال الأمانة ومتمم الرسالة . البدوي . . طرفة بن العبد، الذي تسكّع في مجالس اللهو والصعلكة، عاد إلى قبيلته يرعى الإبل، لأنه أدرك أن أسمى مراتب الحرية في أن يكون الشاعر البدوي راعي الحداء في حقل القمر . فيا لطرفة . . . أول بدوي يحط الرحال في مضارب القلب، وآخر الآلهة التي ترعى البروج في خوافق اللغة . البدوي . . امرؤ القيس، سلاب السويداء في لوعة المخادع، ملثم الإيحاء ببارق الرضاب، يتسلل إلى خيام التفاح ليقطف الكحل من عين القمر، ويتخفى بالقصيدة من عيون العسس . أي غزل يؤجج الوله، حين تحسد النساء حواء اللغة، وقد عشقها البدوي وحدها، فأغاظ تاء التأنيث التي لم تزل تقطع أناملها بماء اللجين من انشداه الفتون، فأي جنون لا يركع في حضرة الجنون ! يا أيها البدوي . . . عاشقا . . ذا صبابة . . أية قصيدة تحيي وأنت تقتل باللغة جميع النساء! أفاطم . . . مهلا . بعض هذا التدلل . . . . أغرَّك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب . . . يفعل . إن للبدوي مشرطاً من لغة، وعلى باب القلب تقف البراقع المتيمة بانتظار دورها في القصيدة، فهل من ملثم؟f