ماركة حضرمية طارت شهرتها في الآفاق ( كعك مخيّر ) طعم مميز و مأكل شهيٌّ نال رضا الحضارم في الأوطان والمهجر دأب الحضارمة دوماً على الاستفراد بكل إبداع وتألق في كل ساحة من ساحات الحياة، فنراهم على طول مسيرة التاريخ وخط الزمن يبدعون ويُعمِلون تفكيرهم في كل جزئية من جزئياتها. ولم يتقوقعوا على ذواتهم بل استفادوا من تجارب الآخرين وأفادوا، وتلاقحت أفكارهم النيّرة مع أفكار غيرهم لينتجوا في نهاية المطاف كل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. وحتى لا تضيع الحقيقة وتموت، أو تتبعثر أجزاؤها الثمينة، فقد كان الحرص على إبراز كل تجربة تركت أثراً في المجتمع، من خلال التعريف بها عرفاناً لما أشاعته في الناس من فرحة وأمل، وما بذرته من سعادة وحبور.
من تلكم التجارب الرائدة؛ تجربة جميلة نمت وتجذّرت في غيل باوزير مدينة العلم والماء والإبداع، وامتدت بفروعها لتصل إلى آفاق المعمورة وتحوز على شرف القبول بين الناس في الداخل والخارج، تلكم التجربة هي ( أكلة ) الكعك ( كعك مخير ) الذي تميز بطعمه اللذيذ، وذوقه الرائع الذي كان يصنعه الوالد سعيد سالم مخير رحمه الله تعالى، الذي انتقل إلى جوار ربه ظهر يوم السبت الموافق الأول من مارس 2014م، ليودع المجتمع الغيلي ملكاً مبجلاً في مجاله ( صناعة الكعك )، ثم يخلفه من بعده أحد أبنائه لتستمر الحكاية وليستمر الذوق والإبداع ولا تنقطع أسبابه من على ظهر هذه البسيطة .. فماذا كانت حكاية ذالكم الكعك .. ؟
بداية البداية : تشير المعلومات إلى أن الوالد سعيد سالم مخير رحمه الله بدأ بصناعة الكعك وبيعه خلال أربعينيات القرن الماضي، وكان ذلك بمعية شقيقه عبد الله سالم مخير أطال الله في عمره، إلا أن الأول كان يتمتع بالخبرة والدراية التي مكنته بتوفيق الله من شق طريقه في هذه المهنة الشريفة الناجحة، إذ لم يواصل شقيقه عبد الله مخير الطريق معه وانقطع عنه بسبب التحاقه بمهنة التدريس معلماً، وكان يُباع إلى جانب الكعك بعض المكسرات كاللوز والفل والحنظل.
بين جنبات المدرسة الوسطى : بدأ المرحوم سعيد سالم مخير ببيع الكعك ومشروب الشاي لطلاب الوسطى الدارسين فيها حينذاك، والناظر إلى تلك الفترة يجد أن أبرز الدارسين بها كانوا مجموعة من الطلبة الذي تركوا أثراً على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية مثل الدكتور فرج سعيد بن غانم، ورائد التغيير فيصل عثمان بن شملان، و المهندس حيدر أبو بكر العطاس وعبد الرحمن بافضل، وغيرهم من الشخصيات السياسية والاجتماعية والأدبية. ومن محطات كعك مخير أنه كان يُباع أيضاً في حافة من حافات مدينة غيل باوزير وتُدعى حافة ( برجب )، إذ كان الزبائن يأتون إلى هذه الحافة بأعداد كبيرة طالبين الكعك ليضمّنوه مائدتهم البسيطة مع مأكولات أخرى والتي تسمى ب ( القيال ) وهي وجبة خفيفة بين الغداء والعشاء يتم تناولها بعد صلاة المغرب مباشرة للتقوي بها ومتابعة نشاط المعيشة، إذ كان الناس في ذلك الوقت يبذلون الجهد، ومستوياتهم المعيشية متوسطة الحال، لذا يعمدون لما يسد جوعتهم ويسكت عصافير بطونهم بتناول الكعك في ( القيال ) وباستمرار هذه العادة ترسخت حتى أمست من الأساسيات التي يمارسها بعض الناس في غيل باوزير وغيرها من مناطق حضرموت إلى وقتنا الحاضر.
مسيرة مستمرة: واصل سعيد سالم مخير رحمه الله مسيرته المظفرة، ثم واصل من بعده ابنه ( أنور ) نفس الدرب وامتهن المهنة نفسها، وبالرغم من مرور ما يقرب من الستين عاماً وإلى اليوم ولا يزال ( كعك مخير ) يتربع على عرش التميز، ذلك أن المؤسس لم يقف مكتوف اليدين فلم يطور طرائقه، بل سعى إلى مواكبة المستجدات ومراعاة الزبائن واستيعاب متغيرات السوق ومطالب المستهلك، حتى نال قصب السبق، وفُضّل الكعك من قبل الناس على مثله مما يصنعه الغير، وأضحى مطلوباً في مديرية غيل باوزير بل وفي كل بقعة من أرض الوطن، ومما ينقل في هذا الموضوع أن الكعك يُشحَن إلى الخارج كدول الخليج العربي، وبعض الدول الأخرى وبالتجربة التي أدركها عاشقوه أنه يبقى مدة طويلة دون أن يتغير أو يطرأ عليه طارئ، ويبقى يحمل اللذة والطعم مدة زمنية، ولا يعلم أحد من الناس ما السر في ذلك، ويحرص أصحاب كعك مخير على ألا يبوحوا لأحد عنه، ولهم كل الحق في ذلك، فما عرفناه مثلاً عن وصفة دجاج ( كنتاكي ) الشهيرة التي خوّلت لصاحبها الذي واجه المصاعب والإعراض ملايين الدولارات بعد بيع وصفته للمطاعم على أن له نسبة معينة من الأرباح، وهكذا يظل المبدع هو الأحق ببراءة اختراعه، وله الحق في كتمان الخلطة السرية.
وفاء رغم تغير الأسعار: ظل الناس يطلبون ( كعك مخير ) رغم تغير الظروف والأزمان، وبقي الوفاء ثابتاً ومتبادلاً من الجميع وبالرغم من أن سعر حبة الكعك كان فيما مضى يبلغ ( بيستين ) وهي عملة بسيطة بمقياس ذلك الزمن، ثم أصبح ( نصف عانة ) ثم ازداد السعر الى ( عانة واحدة)، ثم ( نصف شلن) ثم ترقى إلى أن وصل في يومنا هذا إلى عشرين ريالاً، إلا أن الإقبال مستمر عليه ويتوقع له بإذن الله مزيداً من التقدم ليكون إضافة حضرمية ترتفع لها الرؤوس افتخاراً، ويسيل لها اللعاب كلما شم الأنف رائحتها الزكية تسري في دروب مدينة العم والماء.
ماذا قال محبو ( كعك مخير ) : يقول عنه أحدهم سجعاً بأسلوب جميل : " الكعك ذو الطعم المتميز، والنكهة الخاصة، ذوق رفيع، ويحبه الجميع، وحق له أن يكون كذلك، فقد لفت إليه الأنظار، وجذب اليه الزوار، من كل الأقطار، وأصبح من أطايب الطعام لدى الصغار والكبار، معلوم مشهور كالصبح في رابعة النهار". وعلّق آخر: " الكعك منتشر، لكن ماركة مخيّر بالفعل ماركة مميزة للكعك الحضرمي،و علامة جودة لا تضاهى، ولطالما اعتمرت به ( داخليّات ) ومساكن الطلاب في معاهدهم و جامعاتهم، و لطاما ازيّنت به الموائد و اشرأبت نحوه الأعناق" .
وختامها كعك : تمضي السنون وتتتابع الأعوام ويأتي جيل يعقبه آخر، ويحل الأبناء بدلاً عن الآباء، لكن يبقى الود بين الجميع، فإذا رحلوا لا ننساهم بالدعاء الصالح بالرحمة والمغفرة، فهم قد أدخلوا البسمة إلى الشفاه، وعاشوا ببساطتهم يكافحون آلام الحياة وضنك المعيشة، وكم مرت عليهم إشراقات صباحات تلقوها بصدور رحبة وبأرواح ملؤها التحدي والكفاح، فرحمة الله تغشاهم جميعاً وألحقنا بهم ونحن في أحسن حال.