سهرة رباعية مع الثورة الجزائرية وشؤون حضرمية كان أصغر الرجال في حدود العشرين من العمر وأوسطهم في الثلاثين أما أكبرهم فقد تجاوز الأربعين . وظننت أن الضباط محمد قد أرسلهم إلي للتحقق من هويتي وهدفي من زيارة الجزائر والمغرب وفي هذا الوقت بالذات مع اشتداد الصراع في قضيه الصحراء الغربية بين الجزائر والمغرب . وربما كنت محقاً في ظني هذا بأنهم مرسلون من قبل الضابط محمد لأنه وضعني في حالة نفسية وذهنية دفعتني إلى مثل هذا الظن , رغم أنني لست ممن يأخذون بمبدأ الشك والظن من أول وهلة . وخلال الحديث معهم بدأت أميل إلى إنهم ليسوا مرسلين منه , وإنما أتوا طواعية للترحيب والمؤانسة وتبادل أطراف الحديث مع شخص عربي غير جزائري ومن بلاد قصية في المشرق العربي , وهي حالة نادرة في مثل تلك الأماكن المغمورة وغير المعروفة , ولعلني كنت أول وآخر حضرمي يصل إلى سوق أهراس وبهذه الكيفية ومع عدم استبعاد أن يكون غيري من الحضارمة قد سبقني أو لحقني في الوصول إلى هذه المدينةالجزائرية الحدودية . وكان الحديث مع هؤلاء ( الرفاق ) الثلاثة يدور بيننا بلغة عربية مبسطة وسهلة . ورغم أن اللهجة الجزائرية بوجه عام هي من اللهجات غير المفهومة عند عرب المشرق إلا أنني كنت مستمتعاً بالحديث مع هؤلاء الأخوة , وكنت أفهم الغالبية العظمي من حديثهم , خصوصاً وأني قد كسبت شيئاً من القدرة على فهم مفردات هذه اللهجة بعد أن أمضيت في تونس حينها أكثر من عام ووجدت أن لهجة أهالي شرق الجزائر قريبة إلى حد ما من اللهجة التونسية وأتضح لي إنهم جميعاً من الشرق الجزائري , حيث أن أصغرهم من مدينة سوق أهراس , أما أوسطهم وهو الذي كان حينها يقاربني في العمر فهو من مدينة عنابة الساحلية والتي تقع على بعد حوالي مائة كيلو متر شمال سوق أهراس , وأما أكبرهم فهو من مدينة باتنة عاصمة الاوراس والتي تقع على بعد حوالي 250 كيلو متر جنوب غرب سوق أهراس . وكنت أتحدث إليهم بلهجة عربية مشرقية حضرمية مفهومة . وكانت كلماتي تجد الفهم المباشر عندهم . وفي حالة استخدام أحدهم لمصطلح فرنسي في سياق حديثه لا أفهمه كنت استوقفه ليشرح لي ذلك المصطلح . ولعلي في تلك الليلة أدركت أن أبناء شرق الجزائر أكثر وضوحاً في لهجتهم العربية من أبناء المناطق الغربية في الجمهورية الجزائرية , وأن لم يعد ذلك مقياساً عاماً اليوم . المهم إنها كانت ليلة طيبة عوضت فيها خيراً مما عانيت من رحلة القطار تلك ,ومما واجهته من تشد وتصلب من الضابط محمد . ولاشك أنه كان يؤدي واجبه الوطني والمهني بكل اقتدار و إن كان ببعض الشدة , إلا أنه لم يستخدم العنف أو الألفاظ الجارحة أو العنت أو العناد . كما أنه لم يحاول طلب رشوة مالية ليسمح لي بالمرور بعد أن أدرك اللبس الذي كنت فيه . وهذا يدل على وطنية صادقة من هذا الرجل المسؤول عن حماية حدود بلاده حتى وأن عانيت منه تشدداً وتصلباً . وكنت اروي لرفقاء تلك الليلة كيف إننا في حضرموت والمشرق العربي عموماً نكن كل احترام وتقدير لثورة الجزائر والتي أعطت نموذجاً حياً للجهاد والكفاح والنضال من أجل الحرية والاستقلال واستعادة الهوية الوطنية بعد محاولة طمسها من قبل المستعمر الفرنسي لحوالي 132سنة , وكذلك من أجل تبثث قيم الدين الإسلامي . وكيف أن الجزائريين قد آلوا على أنفسهم جيلاً بعد جيل مقاومة الاستعمار الفرنسي الذي كان يصر على أن الجزائر قطعة من فرنسا منذ أن وطأت أقدامه أراضي الجزائر الطاهرة عام 1830م . وكيف أن ثوار الجزائر ومنذ البطل الأول لحركة التحرير الأمير عبد القادر الجزائري ثم من أتى بعده من ثوار شرق الجزائر في قسنطينة بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس ثم أخيراً وليس أخيراً ثوار الاوراس في باتنة وغيرها مع ثوره جبهة التحرير الوطني . ولاشك أن هؤلاء جميعاً من المجاهدين كان يمثل نبراساً لنا نحن العرب المشارقة في جدوى الصمود والكفاح والجهاد لتحقيق الاستقلال والحرية والكرامة واستعادة الهوية الوطنية . وما أحوج حضرموت اليوم أن تستلهم عبراً ودروساً من ذلك في سعيها لتأكيد هويتها التاريخية والحضارية والتي يحاول جيراننا الجنوبيون واليمنيون طمسها وإزالتها وجعلها تابعة لهم . وكنت أخبرهم وبكل أريحية وانفتاح بعد أن ارتحت إليهم والى حديثهم العفوي والمباشر أن بداية الوعي السياسي والوطني قد تكون لدي مع احتدام ثورة الجزائر ووصول أخبارها عبر المذياع إلى مدينتنا الساحلية الحضرمية والبعيدة ألاف الكيلومترات عن الجزائر والتي تسمى المكلا . وكنت حينها طفلاً في العاشرة من العمر . وأخرجت أطلس الجيب الصغير الذي بحوزتي وهو كما أسلفت باللغة الانجليزية لأوضح لهم أين تقع المكلا في جنوب الجزيرة العربية وكيف أنها بعيدة بالفعل عن الجزائر . وكنت أخبرهم أن جارلي في المكلا يقاربني في العمر كان ينقل ألينا ونحن أطفال أخبار ثورة الجزائر العظيمة وذلك نقلاً عن والده الذي كان كغيره من شباب ورجال حضرموت حينها يتابعون بانتظام تطورات ثورة الجزائر . وكنت أقصد بالجار العزيز الأستاذ فيصل ناصر بن ثعلب وكنا في غاية الحماسة والتعاطف مع شعب الجزائر وثورته المجيدة , ولذلك لم يكن غريباً على أن أتمنى بل واسعى إلى زيارة هذه الأرض التي قامت على ثراها هذه الثورة المباركة والتي انجبت هذه القوافل المتصلة من الأبطال والشهداء وقدمت مليون ونصف المليون شهيد من أجل الحرية والكرامة واستعادة الهوية الوطنية . وكنت منسجماً ومتناغماً مع نفسي وأفكاري وخواطري وأحاسيسي في حديثي مع هؤلاء الرجال الثلاثة عندما أخبرتهم أن بداية توجهي للدراسة العليا في تونس قد انطلقت بفكرة للتوجه للدراسة بجامعة الجزائر . وعندما وجدت صعوبة في تنفيذ ذلك اتجهت إلى تونس ووقفت في ذلك والحمد الله , غير إني لم أتخل مطلقاً عن فكرة زيارة الجزائر ولو لبضعة أيام كما هو الحال في هذه الزيارة . وكنت بدوري استمع إلى حديثهم بشي من الاهتمام والعناية . وكان أكثر المتحدثين منهم الأكبر سناً ذو الأربعين عاماً , فأخذ يروي لنا عن مشاركته وهو شاب في العقد الثاني من عمره في بعض معارك حرب التحرير في جبال الاوراس في مدينة باتنة بالذات وكيف أنه مع رفاقه المجاهدين ساهم في عمليات عسكرية دارت رحاها في أودية وسفوح ومرتفعات تلك الجبال . وهو لذلك شديد الاعتزاز والافتخار بأن ساهم فعلياً في تحقيق استقلال وطنه الجزائر والذي تم في 5 يوليو 1962م . أما الأوسط فقد كان طفلاً عند اندلاع ثورة الجزائر غير أنه يتذكر أشياء كثيرة مما يحدث في مدينته عنابة من بطش واستبداد القوات الفرنسية بالمجاهدين والمواطنين الجزائريين من بني قومه . وهو اليوم مهتم بالنشاط السياسي في وطنه . وقد وجدته كثير الأسئلة عما يدور في اليمن الديمقراطية من أوضاع وباعتبارها من منظومة ( الصمود والتصدي والرفض ) العربي للهيمنة الصهيونية والغربية على المنطقة العربية وكما تقول شعارات ومقولات هذه المنظومة . وقد أوضحت الاختلاف البين والكبير بين ما يسمع عنه وبين واقع الحال الذي يعيشه أبناء ( جمهورية اليمن الديمقراطية ) حينها من تعسف وظلم واستبداد من نظام هذه الجمهورية . وكيف أنهم حقيقة في سحن كبير أسواره من حديد يصعب اختراقها والخروج منها . ورغم ذلك فهناك مقاومة ضد هذا النظام وأن كانت مقاومة محدودة . أما أصغرهم فكان يكثر من الاستماع ويقل في الكلام , لأنه ربما وجد فائدة عظمى في الاستماع إلى جديد لم يعرف عنه من قبل . ومع الحادية عشرة مساءً انفض مجلسنا الطيب , وغادر الرفاق الثلاثة الفندق , وأويت إلى فراشي مستعرضاً كل ما مر بي منذ مغادرتي بالقطار لساحة برشلونة بتونس العاصمة وحتى وصولي إلى سوق أهراس . ودعوت الله عز وجل أن يوفقني في رحلتي هذه , وأن يجعلها تسير في خطتها وكما رسمتها , وأن أعود إلى مقر إقامتي في تونس معافياً سليماً .