واحد وعشرون عاماً مضت على أحداث 13 يناير 1986 الدامية خليقة بأن نقف حيالها وقفة استقراء وتحليل ونقد واعتبار, نستعرض فصولها ونستنبط اسبابها ونبرز الأخطاء ونستجلي الدروس المستفادة لا لمجرد العرض والمعرفة بل لتحسس مواطن الخلل التي تفضي دوماً إلى صراعات دامية. خاصة وأن هناك شرذمة ما زالت تهوى اللعب بالنار وتحاول إذكاء روح الفتنة من غربتها عن بعد في وطن ما زال يئن ويتألم من جروح الماضي دون أي إعتبار لدروس التاريخ وبذا يصدق فينا القول بأننا لا نقرأ التاريخ وإذا قرأناه لا نفهمه, فلا غرابة أن تتكرر الأخطاء ونعيش نتائجها المفجعة مرات ومرات. ولا بد لنا في هذا المضمار من العودة على ما وراء الحدث لنعرض جذور القضيّة وظروفها واسبابها ولو بإيجاز لنرى كيف وقعت أحداث يناير وما تلاها من عواقب وخيمة. لا شك في أن النضال من أجل الإستقلال الذي نالته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (سابقاً) في فبراير 1967 هو الحدث الأبرز الذي ألقى بظلاله على أحداث يناير 1986. فخلال سنوات الكفاح المسلّح ضد المحتل ظلت القوى المناضلة في صراع دامي فيما بينها, لدرجة أنّ الخسائر البشرية التي تكبدتها هذه القوى نتيجة هذا الصراع فيما بينها يفوق بكثير تلك التي نتجت عن المعارك مع الإنجليز. وما إن آلت الأمور إلى الجبهة القومية بعد إقصاء جميع القوى الأخرى وعلى رأسها جبهة تحرير جنوباليمن، حتى ظهرت بين زعامات الجبهة القومية نفسها خلافات إيديولوجيّة فيما يتعلق بالرؤى في تسيير أمور الدولة الفتيّة. وفي مؤتمر الحزب أواخر 1968 تم التصديق على برنامج راديكالي للتأميم والملكيّة الجماعيّة والشمولية في إدارة شئون البلاد الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة. ونتج عن هذا المؤتمر إقصاء الجناح المعتدل وذلك بإجبار قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف على الإستقالة من سدة الحكم وظهور الجناح الراديكالي كقوة مهيمنة في الحزب, وتربعت عرش السلطة مجموعة من المنظرين اليساريين الراديكاليين وعلى رأسهم عبد الفتاح اسماعيل ذي الإتجاه الإيديولوجي الماركسي-اللينيني والذي كان يؤمن بفكرة الحزب الطليعي و "الماركسيّة العلمية" كخيار لا حياد عنه, وسالم ربيّع علي ذي الإتجاه الماوي والذي كان يرى بأن الحزب الطليعي سوف يؤدي إلىعزل القيادة السياسية عن الشعب وكان يعتقد بضرورة وأهمية إقامة النظام السياسي ومؤسساته على أساس جماعي ذي قاعدة ريفيّة ومنظمة سياسيّة على غرار النموذج الصيني. وخلال فترة حكمهما المشترك عملت الحكومة على تنفيذ برنامجها الراديكالي دون هوادة وضربت بيد من حديد كل من سوّلت له نفسه معارضتها في تنفيذ سياساتها الراديكالية فهجّرت وسجنت وسحلت وأعدمت, وأنتهى مسلسل التصفيات بالخلاص من سالم ربيّع علي نفسه. وفي ظل سيطرة عبد الفتاح إسماعيل الفردية ولّى البلد وجهه شطر الإتحاد السوفيتي في كلتا سياستيه الداخلية والخارجية وتعرّض النظام برمته إلى تغيير كبير في توجهاته وأولوياته.إستمر هذا الوضع لمدة سنتين ترسخت خلالها مخاوف القوى المنافسة من استحواذ عبد الفتاح على كافة السلطات المؤثرة وإجبارها على لعب دور المتفرج, وغذّت هذه المخاوف مطامع شخصيّة ومنافسات قبليّة ومناطقيّة ومصادمات إيديولوجيّة. وفي أبريل من عام 1980 أجبر رئيس الوزراء على ناصر محمّد وبمؤازرة بعض الفئات الأخرى وبعض الشخصيّات المرموقة في الحزب أمثال علي عنتر وصالح مصلح، عبد الفتاح إسماعيل على التنحي من منصبه كرئيس ونُفيَ إلى الإتحاد السوفيتي. بعد استفراده في الحكم لمدة خمس سنوات نجح علي ناصر محمّد في إستعداء بعض الفئات والأفراد الذين لهم تحفظات ضد السياسات والشخصيات في فترة سنوات حكمه. ويبدو أنه في منتصف عام 1984 وفي سبيل تهدئة الوضع داخل الحزب الإشتراكي اليمني وغيره من المؤسسات الهامة وافق علي ناصر على عودة عبد الفتاح من منفاه في فبراير 1985. وبانعقاد المؤتمر الثالث للحزب الإشتراكي اليمني في أكتوبر 1985 تمكن عبد الفتاح إسماعيل ومؤيدوه من إجبار على ناصر محمّد على القبول بخيار تقاسم السلطة وقبل كارهاً التنازل عن المكتب السياسي لمعارضيه وأحتفظ بمسئوليات اللجنة المركزيّة. ومما لا ريب فيه فإن هذا التقاسم قد عمّق الخلاف الذي إستمر في التعاظم حتى أفضى إلى حرب مكشوفة في 13 يناير 1986 كانت عنيفة ودمويّة للغاية. ولا يهمنا هنا معرفة ما إذا كان علي ناصر قد بدأها في محاولة للتخلص من طرف مزعج وقوي سياسيّاً، أو أن مؤيدي عبد الفتاح إسماعيل قد بدأ وها في محاولة للإنفراد في السيطرة على زمام الأمور في الحزب والحكومة، فأمام هول الفاجعة وحجم الخسائر البشرية والمادية وعواقبها الوخيمة يظل هذا الأمر في تقديري ثانويّاً خاصة إذا ما سلّمنا بأن من يبذر الشقاق الإيديولوج والمناطقي والقبلي والشخصي لا يجني سوى الصدامات الدامية.