حينما يشتد نحيب النفس، و تستحكم الأقفال، و تغلق كل الأبواب، و تحتضر كل الاّذان السامعة، و تموت كل الرحمة في البشر، و لا تجد الروح مكاناً لتروي عطشها، تلجؤ برعب يملؤها إلى خلقها الذي خلق مخلوقات كثيرة جعلت الإنسان يتذكر وجوده سبحانه بها، و يؤمن بأن علم الله في كل مكان فيطلع علينا و يعلم ما تخفي أنفسنا.. حينما تنجلي الظلمات، و تتربع الشمس على عرشها المعتاد، و يبقى الدجى ماضياً قد مر و فات، و تملؤ الشمس الكون بأشعتها الذهبية، و تصبح الدماء دافئة في العروق الرفيعة، يدرك الإنسان حينها أن الله خلق الشمس و سخرها لخدمتنا، فتنطلق الضلوع لتقول: ((سبحانك يا رحمن)). حينما تسير الأقدام الواهنة، و يطلق اللب الحائر عنانه، و تتيه الأفئدة اللاهية، ترى العين القبور المغطاة بالثرى، و ترى اّثار أقدام من قد رحلوا تحته، فيخشع الإنسان، و يذكر قول رب الأنام: ((كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام)) ، حينها، تتدحرج الدموع الحارة التائبة، و يقذف القلب المشاعر التافهة، و تنفجر براكين من الحزن و الندم، فتقول القلوب و هي تدمي ندماً: ((سبحانك اليوم أعود إليك يا رحمن)). حينما تنسلخ الرحمة من البحر العميق، و يموج بين ثنايا أمواجه الساخطة الفلك العتيق، و لم يبق لأحد من أمل أو رفيق، تلهج الألسنة بالذكر و التسبيح، و ترتجف القلوب الخائفة من النحيب، و تتقاذف الدموع من الأعين المرتعبة، و في لحظة، يهدأ البحر الساخط، و تخف إرتطام أمواجه الغاضبة على الساحل، فتبتسم الشفاة المرتعشة، و ترتفع الأكف الجافة الخشنة لتقول بامتنان و فرح: ((سبحانك اليوم عرفتك يا لطيف يا رحمن)). حينما تقضي اّخر ساعات الليل ذات الظلام الدامس على بقايا النهار الساطع، و تحتضر الشمس الدائرية وسط كبد السماء، و يظهر القمر بنوره الفضي الذي تبرعت له الشمس به، و يصبح البحر ذا لون قاتم يتلألأ و يلمع مع نور القمر، فتعلق القلوب عند الحناجر، و ينعقد اللسان البليغ الشاعر، و تبتسم الأفواه ذات الثغر الأبيض الساحر، حينها يعلم الناس إتقان الخالق، و صغرهم أمام عظمته، و جحودهم أمام نعمه، فينطلق الوجدان ليقول ببسمة مضيئة: ((سبحانك يا رحمن ، يا من خلق الكون و أحسن خلق كل شيء)). حينما يتساقط المطر البارد، و تبتل الفراء الناعمة، و تموء القطة الضعيفة الواهنة، و تسبح و جسدها يرتعش من الرياح العاصفة، في لحظة تجد من يقدم لها اللبن الدافئ، و تجد من يعتني بها من الأيام الخائنة، فتشعر بفرح يلمع في عينيها ، و تقول بمواء لا يفهمه إلا خالقها: ((سبحانك يا من ترزق يا رحمن)). حينما تغرقنا الكروب و الهموم،ونسبح بين بحاره و كلنا ظنون،و ينقطع الأمل و يصبح ضائعاً، و ننظر إلى الماء فنجده سراباً، ونرنو إلى الصباح فنجده ليلاً، و نتطلع إلى النور فنجده ظلاماً، لا يبقى سوى بصيص يلمع في الافق، فنتجه إليه و قد أنهكنا اليأس و التعب، و ألهتنا الدنيا و مسئولياتها، لنجد البصيص يصبح نوراً.. حينها، نعلم أن مصدر القوة الكبرى هو الله، و أننا كلما تقربنا إليه، أصبحنا أقوى و أسعد.. فتقول الألباب التي وعت الدروس بسعادة: ((سبحانك ..يا مصدر قوتنا يا رحمن)), الله.. كلنا نقولها ..الله الكلمة التي تبقى حينما تحتضر كل الكلمات... الله الذي نلجؤ إليه عند الشدة رغم جحودنا و نسياننا .. الله الذي هومصدر قوة كل ولي له.. و عزة كل حبيب له.. جعلنا الله و إياكم من أحبائه..