حين تركتها لم تكن كذلك! أو أنني لم أكن واعية لما يحدث فيها! أو أنني أنشغلت بنفسي حينذاك ولم أعر أنتباه أن تكون صنعاء "مدينة حزينة " كما رأيتها اليوم! غادرتها أحمل فجيعة في صدري! وخنجراً أنغرس في العمق فأعجزني عن التثبت من حقيقة أن " صنعاء " طعنتني أو أني طُعنت فيها! لكن كل المؤشرات أدت الى نتيجة واحدة! وها أنذا قد عدت اليها! وكأنه مكتوب علي "أن اعيش الفجيعة" في هذه المدينة ما دامت أقدامي تطأها! جئتها، أو جائتني هي! لا يهم المهم أننا تشاركنا الذكرى "الحزينة" ، طعنتني أو أني أغمدت "سكينة" في صدري، فطعنتها، أيضاً المؤشرات كلها أدت الى نتيجة واحدة! (وطن يغادره وطن !) هكذا خطر ببالي، وأنا أغادر الطيارة بإتجاه المطار! رغم أنشغالي بالتي أخذت كل حيز في تفكيري إلا أني صُدمت بواقع " صنعاء "الحبيبة الحزينة" لست من صنعاء! ولكنها جزء مني! تماماً ك طفلي الذي "شعر بولعه بها" رغم أنها ليست جزء منه! فلي فيها وطن ! ولها بي "كيان" ما زال يغدو! كنت أتوقع للوهلة الأولى أن كل شيء أصبح أفضل! ولكني فؤجئت في طريق "رحلتي" من المطار الى المنزل بوحشة بيوتها المنكسرة والتى تئن من الخراب! وطرقاتها التى ضاقت أكثر مما كانت عليه! وبوجوه آناسها التى أمتلئت فيهم الحسرة، الضياع، الإنكسار، الهزيمة التى ولدت داخلي "ايضاً" هزيمة! أغمضت عيني، وأعدت فتحها! رد فعلي لما "رأيت" قائلة لنفسي، لعله "كابوس" سأصحو منه الآن! ولم يتغير الكابوس! بل تفاقم حينما رأيت نساء، أو فتيات! لا تبدو عليهن الحاجة "وذلك من حكمي على مظهرهن الخارجي، بل أكاد أقول أن ما كنت البسه مشابها تمامأً لما يلبسنه! تحلقن حول السيارة، تمد كل واحدة يديها التى لا يظهر عليها "خشونة الفقر، ولا تداعي السنوات! بل أن أكثرهن يبدون أصغر سناً مني! نظرت بإتجاه الذي أنتبه لعيناي في مرآة السيارة، مردداً: لم ترَ شيء بعد! وأطلق ضحكته الحبيبة الى قلبي ملؤها حزن يشبه البكاء! لم أجد حتى الأن تفسيراً لما رأيت! ولم أعد راغبة بالبحث عن الذي يجبر فتيات في مقتبل العمر الى التسول هكذا في الشوارع! ونمت تلك الليلة، أفكر!! ما بها "صنعاء"! لماذا أصبحت حزينة هكذا! وفسرت الأمر... بأن حزنها، كان مرتبطاً بما جاء بي إليها! ولكن الذي جعل الحزن يمتد كعنكبوت أكبر... حين وقفت أنتظر "رفيقتي" بجوار "ما أسموه " بالمول، ولعلي كنت أظن أن عيناي أصابهما شيء! أقتربت من بائع "الذرة" بحجة الشراء، لكني في نفسي كنت أدقق النظرفي وجهه، وكأني أرى زميل "مقاعد الدراسة"، وعندما سمعت حديثه! أقسمت أن ذاكرتي ليست "بالمريضة"! نعم هو! زميل الدراسة "يبيع الذرة" على إحدى العربات المتجولة! خنقتني العبرة! وواصل هو "عرض الذرة" ويبدو أنه انتبه لصمتي، فنظر بإتجاهي متسالاً.. "هل تراه عرفني !؟ ليته لم يفعل!" تركت عربته بإتجاه رفيقتي التي صاحت "جذلة" لقد وجدت موقف للسيارة أقرب للمول...! عندما جاء صوته مبحوح بغصة تبعتها "ضحكة مرارة" هذه نهاية كل جامعي"! فأدركت أنه إن لم يعرفني، أدرك أنني عرفته!! شعرت بالغربة أكثر، تفاقم حزني أكثر، فقررت المغادرة! ف صنعاء التى عرفت، رغم بؤسها، ورغم جفافها، كانت تحمل لنا "وهجاً " غير الإنطفاء الذي رأيته فيها هذه المرة!! وفي صالة المغادرة...! سألني مسؤول نافذة الجوازات- رغم أنني سلمته جوازي الذي يعلن "إنتمائي" لليمن- "الأخت مغربية!" إبتسمت لطرافة سؤاله.. وتابعت المضى نحو "صالة المغادرة، رغم محاولة إصراره على أني لست باليمنية، ومحاولتي النطق بأني واقعاً..... لم أعد أحمل للوطن سوى "هوية"!