تطورت مهنة الخدمة الاجتماعية خلال مراحلها التاريخية وتمكنت من الدخول في مجالات المجتمع جميعها مثل المدارس والمؤسسات الإصلاحية والمستشفيات ودور الدولة والمصانع .. الخ وقد اكتسبت هذه المهنة بالنسبة للمجالات التي ارتادتها عدة حقائق منها إن مهنة الخدمة الاجتماعية لم تقتصر على تقديم خدماتها في مؤسساتها الاجتماعية المتخصصة بل امتدت جهودها الى المؤسسات الأخرى كافة، كما إنها لم تعد تقتصر خدماتها على الخدمات الفردية والنواحي العلاجية فحسب بل امتدت الى النواحي الوقائية والإنمائية للإفراد والجماعات والمجتمعات الحضرية والريفية، المتقدمة والنامية. ويعد مجال الإصلاح الاجتماعي من أهم المجالات التي دخلتها الخدمة الاجتماعية ونظرا لخطورة وأهمية مؤسسات الإصلاح في حياة المجتمع الإنساني فقد عمل الخبراء والمهتمون بشؤون إصلاح المجرمين الى وضع نظريات متعددة تفسر عملية الإصلاح هذه، فمنها "النظريات الكلاسيكية" التي ترجع الإجرام الى عوامل وراثية، و"النظريات الحديثة" التي ترى أن العوامل الاجتماعية والبيئية سبب رئيسي في وقوع الجريمة، وقد تعددت الآراء بشأن هذه المسألة طوال قرنين من الزمان. وفي هذا السياق تقع على الأخصائي الاجتماعي واجبات وادوار مهنية وإنسانية لإنقاذ شريحة من المجتمع وقعت في الجريمة تحت ظروف متنوعة لتكون مهمة هذا الأخصائي التعامل معها وفق المبادئ المهنية والعلمية للخدمة الاجتماعية من اجل إرجاعها الى المجتمع أصحاء. ومن هذا يأتي موضوع مقالتنا كيف يتعامل الباحث الاجتماعي مع العائدين الى الجريمة؟. أولا- أسباب العودة الى لجريمة: يمكن تقسيم هذه العوامل الى قسمين رئيسيين هما: آ . العوامل الذاتية( الفردية) ويمكن تقسيم هذه العوامل على عوامل بيولوجية وأخرى نفسية، ومن العوامل البيولوجية المؤدية للعودة الى الجريمة الاضطرابات العضوية في الجسم، وبما إن احد عوامل العصاب ترجع لمثل تلك الاضطرابات لذا كان بعض المجرمين العائدين من ذوي الشخصيات العصابية والعائدين الشواذ أيضا ويرجع سبب عودتهم لمثل تلك الاضطرابات، وتعد العاهات من العوامل البايلوجية المؤدية الى الجريمة حيث أن العائدين من ذي العاهات قد ينتابهم اعتقاد بعدم الأهمية وشعور جارف بالقلق وان وجودهم أصبح لا قيمة له في هذه الحياة، وقد يمارس هذا الاعتقاد ضغطا أو ثقلا عليهم يدفعهم الى ارتكاب سلوك إجرامي انتقاما لهذا الإهمال. ووجود هذه المسببات العضوية يجب أن لايدفع الى الاستنتاج بان العائدين يتميزون من غيرهم بسمات خاصة فهم يمثلون فئة انتروبولوجية لأننا لا نستطيع أن نوشم أحدا بوشم الحتمية الجرمية من خلال بعض المثالب الجسدية، فضلا عن السلوك سواء السوي منه أو المنحرف لايمكن أن يكون ناتجا لعوامل منفردة، أما العوامل النفسية المؤدية للعودة الى الجريمة كما يذكر(نورثرب) فترجع لخواص مرضية لشخصية العائد، لعدم الاستعداد العاطفي، والصراع النفسي، والأنانية. ب. العوامل الاجتماعية: لايمكن لأية ظاهرة اجتماعية أن تدرس بشكل موضوعي فيما إذا حاولنا أن نجردها من محتواها الاجتماعي، فالحياة كما يذهب( هربرت سبنسر) عملية تكيف مستمر تصل بين الكائن وبيئته وكلما اتسع ميدان تفاعل الفرد مع بيئته زادت معرفته وخبرته بها. ولكن قد يأخذ هذا التفاعل جانبه السلبي تحت وطأة عوامل اجتماعية معتلة ناتجا عنها سلوك إجرامي، ويذهب( سندر لاندوكديس) الى أن المواقف الاجتماعية التي ترتبط بأول مكان للإجرام ترتبط أيضا بالإصرار على الجريمة مع بعض الاستثناءات فالأشخاص الذين يقطنون في مناطق ذات نسبة منخفضة للجريمة والذين ترعرعوا في منازل غير منحرفة والذين لهم مستوى معيشي مريح هؤلاء لايكادون يعودون الى الجريمة بعد معاملتهم بوسيلة إصلاحية. فهم كالأشخاص الذين يعانون إمراضا جسمانية يسيره من المحتمل أن يعالجوا أنفسهم بأنفسهم وغالباً ما يشب العائدون في مناطق فاسدة في عزلة عن التربية الصحيحة وعن هيئات المجتمع التي تحترم القانون. ومن العوامل المهمة في تفسير العودة الى الجريمة وما يذهب إليه( ركلس) الى أن العائدين ذوي السلوك الإجرامي العادي غالبا مايكونون في حداثتهم جانحين فهم يبدون أحداثا جانحين ثم يستمرون في الإجرام سنوات وسنوات. ولانخفاض المستوى المعيشي لعائلة الحدث على رأي( شيلدون جلوك) و(شو) أو لنقص رقابة الوالدين بسبب انخفاض مستواهم التعليمي على رأي( سند رلاند) أو لسوء العلاقات بين الوالدين أو لتطرف الوالدين في معاملة أبنائهم مابين القسوة والدلال. فضلاً عن سوء العلاقات العائلية التي يعيشها العائدون في كبرهم واستمرار تأثير الحاجة عليهم وعدم تنظيم وقت فراغهم في أمور بناءة واختلاطهم بأشخاص مجرمين. ثانيا: دور الأخصائي الاجتماعي في التعامل مع العائدين للجريمة: يجب على الأخصائي الاجتماعي التعرف على الأسباب الأولى للجريمة لكل عائد بعد أن يتم توزيعهم وفق جرائمهم وكشف مثل تلك الأسباب يساعد الباحث الاجتماعي للإجابة عن تساؤل هل عودة المجرم ثانية للجريمة عشوائية أم هي امتداد لتلك الأسباب التي دفعته أول مرة الى ارتكاب سلوكه الإجرامي وهذا يساعد الباحث على وضع رؤية واضحة للحالة التي يعالجها ويصلحها. كما يستوجب على الباحث أن يوزع العائدين كل حسب جريمته وهذا يساعد على التعرف على الأسباب التي جعلتهم يعاودون هذا السلوك من اجل وضع العلاج الأعمق واللازم بما يتفق ومبادئ الخدمة الاجتماعية. وعلى الباحث الاجتماعي أن يوزع العائدين بين الورش الفنية وعليه أن يراعي بدقة قدرات ومواهب وميول ورغبات العائدين لان ذلك يسهل عملية إصلاحهم لاسيما وان ممارسة الفرد لمهنته التي يحبها يجعله يندمج معها وبالتالي يمكن ان تكون النتيجة ايجابية في عملية الإصلاح وتهيئة الظروف الملائمة لعودته للحياة الاجتماعية وكذلك لحياته الإنتاجية في محيطه بعد انقضاء فترته. وعلى الباحث ان لاينسى ان يتعامل مع العائد وفق التغيرات الحاصلة في المجتمع وهنا يجب ان يكون الباحث مستوعباً استيعابا كاملا لما يجري في الحياة العامة وهذا يمكنه من فهم طبيعة العلاج الذي يجب ان يقدمه للمبحوث لكي يؤهله في ان ينخرط في حياته المستقبلية بكل ثقة. كما يجب على الباحثين إقامة أو الدعوة للمحاضرات الثقافية وغرس القيم الدينية التي تهذب النفوس وتخلق المواطنة الصالحة لهذا الإنسان وجعله مرتبطا بمجتمعه الذي يحيا فيه. وعلى الباحث أيضا وهو يتعامل مع العائدين ان لاتغيب عن باله بعض الصعوبات ومنها دراية العائد وخبرته بالمؤسسة الإصلاحية التي كان قد خبرها في تواجده الأول وهو يعرف مداخلها ومخارجها وهنا على الباحث ان يتعامل بدقة مع هذه الحقيقة وان يقدم علاجا أعمق لحالة أصبحت مركبة كما يحب ان لاينسى الباحث ضعف البرامج الإصلاحية في التعامل مع العائدين وعليه ان يسعى لتقديم البدائل الملائمة من خلال خبرته الميدانية وفي سبيل وضع إستراتيجية للعلاج تجب الإفادة من النظريات الكلاسيكية والنظريات الحديثة ويجب ان تكون له دراية بها إذ تنطلق النظريات الكلاسيكية من منطلق ان إيقاع قدر كاف من الأذى بالمذنبين كفيل بإصلاحهم وهذا لايتفق مع النظريات الحديثة التي ترى في العوامل البيئية والاجتماعية دورا مهما في الانحراف أو الإجرام، وهذا الاستيعاب يساعد الباحث على تقديم أفضل الخدمات للعائدين ويمكنه من التعامل معهم بطريقة علمية ومهنية صحيحة. الطرق الآلية في الإصلاح : العقاب في حد ذاته نظام يستحيل الاستغناء عنه، فهو موجود في أي نظام جنائي، وهنا يجب ان يقرب هذا الإجراء في حذر وبما يؤدي وظيفته الاجتماعية والنظرية وان يخلق الضمانات التي من شأنها ان تمنع من أجرم مرة ودخل السجن من ان يصبح مجرما تسري الجريمة في دمه بعد إطلاق سراحه. فالنظريات الكلاسيكية أو التقليدية في العقاب تقوم على مبدأ المجرم يمكن إصلاحه وضمان عدم عودته الى الجريمة عن طريق إيقاع قدر كاف من العقاب أو الألم على المذنبين ولاشك في ان الألم له بعض المزايا لضبط السلوك، ولكن المزايا تتوازن تقريباً بسبب ما تنتجه من الكراهية والعزلة والولاء للجماعة فضلاً عن ذلك فانه لايغير الموقف الذي خلق الإجرام وكان التحول من نظريات العقاب الى نظرية إصلاح المجرمين والجانحين بعد سلسلة من التطورات والتغيرات في المجتمع الإنساني( إذ تحولت السجون الى مؤسسات اجتماعية تفرض علاج المجرم وإصلاحه وأصبحت للعقوبة وظيفة اجتماعية هي إعادة تأهيل الجاني وجعله مواطنا صالحا عن طريق تنمية الذات لديه ومشاركته على التكيف في المجتمع دون أي نشوز سلوكي) ولا يغيب عن بالنا ان المجتمعات البشرية تختلف من حيث الثقافة ونظام القيم ولان مجتمعنا العربي المسلم فيه منظومة قيم دفاعية وعادات وتقاليد تعزز الجانب الإنساني والروحي فقد كان الأمر هنا يختلف عما جرى في المجتمعات الأوروبية من حيث طبيعة التغيرات التي حصلت فيها، بفعل الثورة التكنولوجية وما أصاب الأسرة الأوروبية من تفكك سريع فضلا عن سيادة النظام الرأسمالي الذي يعزز الاتجاه الفردي، وهنا اختلفت وجهات النظر تجاه عملية الإصلاح بحكم تلك التغيرات وتفاقم المشكلات الاجتماعية حيث ذهب الأوروبيون الى وضع حلول إصلاحية أخذت تنمو بالتدريج حسب طبيعة المرحلة، أما في مجتمعاتنا الإسلامية فالأمر يختلف من حيث سرعة التغير والتطور فلا تزال هذه المجتمعات تمتلك عوامل التضامن الأسري والارتباط الديني والتحلي بالقيم الإنسانية، ومع هذا فان هذه المجتمعات شهدت تغيرات وتطورات أفرزت واقعا جديدا ونتج عن ذلك حالة من الأمراض السلوكية ومنها ظهور السلوك الإجرامي. وعليه فان عملية الإصلاح يجب أن تقوم على تنمية الروح الدينية لدى المنحرفين والعمل على الوقوف على مشكلاتهم الأسرية والشخصية. وعلى الأخصائي أن يكون مدركا لذلك تماما ويتعامل مع هذا الواقع برؤية واقعية أي ينطلق من الواقع الاجتماعي ويوظف النظريات في الإصلاح وفق الحالات الموجودة أمامه مستعينا بتراث مجتمعه وتعاليم الدين الإسلامي.