نهاية الانقلاب الحوثي تقترب.. حدثان مفصليان من مارب وعدن وترتيبات حاسمة لقلب الطاولة على المليشيات    الأحزاب والمكونات السياسية بتعز تطالب بتسريع عملية التحرير واستعادة مؤسسات الدولة    لحظة إصابة سفينة "سيكلاديز" اليونانية في البحر الأحمر بطائرة مسيرة حوثية (فيديو)    شركة شحن حاويات تتحدى الحوثيين: توقع انتهاء أزمة البحر الأحمر رغم هجماتهم"    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    الوزير الزعوري يهنئ العمال بعيدهم العالمي الأول من مايو    توجيهات واحصائية".. اكثر من 40 ألف إصابة بالسرطان في اليمن و7 محافظات الاكثر تضررا    بالفيديو.. عالم آثار مصري: لم نعثر على أي دليل علمي يشير إلى تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر    يوم تاريخي.. مصور يمني يفوز بالمركز الأول عالميا بجوائز الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية في برشلونة (شاهد اللقطة)    تشافي لا يريد جواو فيليكس    مركز الملك سلمان يمكن اقتصاديا 50 أسرة نازحة فقدت معيلها في الجوف    تفجير ات في مأرب لا تقتل ولا تجرح كما يحصل في الجنوب العربي يوميا    للزنداني 8 أبناء لم يستشهد أو يجرح أحد منهم في جبهات الجهاد التي أشعلها    عودة الكهرباء تدريجياً إلى مارب عقب ساعات من التوقف بسبب عمل تخريبي    برشلونة يستعيد التوازن ويتقدم للمركز الثاني بفوزه على فالنسيا برباعية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولار للأوقية    اختتام برنامج إعداد الخطة التشغيلية للقيادات الادارية في «كاك بنك»    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    هجوم جديد على سفينة قبالة جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي    رئيس جامعة إب يطالب الأكاديميين الدفع بأبنائهم إلى دورات طائفية ويهدد الرافضين    نابولي يصدّ محاولات برشلونة لضم كفاراتسخيليا    البكري يجتمع ب "اللجنة الوزارية" المكلفة بحل مشكلة أندية عدن واتحاد القدم    عقب العثور على الجثة .. شرطة حضرموت تكشف تفاصيل جريمة قتل بشعة بعد ضبط متهمين جدد .. وتحدد هوية الضحية (الاسم)    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    اتحاد كرة القدم يعلن عن إقامة معسكر داخلي للمنتخب الأول في سيئون    شاهد.. مقتل وإصابة أكثر من 20 شخصًا في حادث بشع بعمران .. الجثث ملقاة على الأرض والضحايا يصرخون (فيديو)    وزارة الداخلية تعلن ضبط متهم بمقاومة السلطات شرقي البلاد    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



((اليوم الأخير!!)).. قصة: ياسر الإرياني.. أدباء في مواجهة الفساد
نشر في نبأ نيوز يوم 24 - 10 - 2008


- قصة: د. ياسر محمد حسن الإرياني -
* إهداء إلى: الدكتور صالح سُميع، مثقفاً وطنياً
في آخر النفق المظلم ألفيتني أهرع وراء السارق، لكنني لم أظفر به، حتى بعد أن استعنت بشرطة النجدة، الذين أخذوا «حق القات» وتركوني بلا رجاء.
قلت وأنا أتحسر على آخر ريال كان بجيبي:
- ليتني لم استعن بهم.
في آخر ذلك النفق المظلم المسدود، تساءلت: من أين هرب؟لقد ظهر فجأةً مثل صاعقة قاتلة، واختفى كشبحٍ مفزع..لكنني وجدت مواطناً عرفني بنفسه:
- «فلان الفلاني هيئة مكافحة الفساد».
شعرت بارتياح لحظي، قبل أن يبادر:
- لا تتوقع بأننا سنجد السارق، فهذا يحتاج وقتاً وإمكانات ومستندات وقرارات ونيات.أنا فقط هنا لمواساتك، ولأقول لك: ضع نفسك مكان السارق لا المسروق، وستشعر بقليل من التحسن.
بصراحة، أحسست بقليل من الراحة وأنا أقلب، كالسارق، أشياءً ليست لي، و أموالاً لم أتعب في جنيها، بل مجرد أن أمد يدي إليها وآخذها، ياللسهولة!!.. سرعان ما عدت لشخصي المسروق الطفران، لأسأل مكافح الفساد:
- حللنا موضوع السرقة، وماذا عن مالي الذي أخذه الأشاوس أجرةً لهم، بغير حق.
أجاب، وقد تأفف مني وهو يغادر النفق بسيارته ال(مونيكا) الحكومية الفارهة:
- أخي المواطن لقد أتعبتني، قلت لك: ضع نفسك مكانهم تشعر بارتياح، و (سكهنا الشغلة)(1)، لدي الآن جولة طويلة للمرور على أفراد الشعب وتطييب خاطرهم.
ألفيتني داخل النفق المظلم، من جديد؛ وجدت رصيفاً ترابياً مفلساً مثلي:-لا بلاط لا شجر لا مشاة.فمشيت فيه.و بدأتُ حسرةً من المناجاة:
« لولا السارق، الذي باغتني وأنا ذاهب لشراء بعض المقاضي والسلع، أحملها لأهلي في القرية، لولاه لكان اليوم أسعد يوم في حياتي..كم انتظرت هذا اليوم منذ ثلاثة أشهر، حين أتيت إلى العاصمة وكلي طموح وأحلام بالتطور والنجاح.. ثم كيف تغير كل ذلك إلى إحباط ظننت معه أن هذا اليوم لن يأتي، كان يبعد عني بمقدار كل ساعةٍ يخيب فيه سعيي للبحث عن عمل، بمقدار كل ريال ينقص من المال الذي أعطاني إياه أبي وبالكاد يكفي لعشرة أيام، كنت أخاف أن يأتي اليوم الذي لا يبقى معي فيه شيء، فأموت هنا جائعاً، غريباً.. وها هو، يومي الذي كنت أخافه، قد أتى حين كنت أحسبني في أمان منه.»
واصلت مسيري بلا هدى على رصيف النفق المظلم، حتى وجدت منفذاً للأعلى، أخرجني إلى جولة المدينة، المكان الذي صرخت فيه طلباً للعون والمساعدة ضد السارق. وهناك وجدت على الأرض دفتر مخالفات المرور، ولم أجد العسكري المسؤول عن تنظيم المرور في الجولة، ربما ذهب لتناول الغداء.
لطالما شاهدت عسكري المرور في الجولة بإعجاب، فهو رغم بدانته وبطء حركته إلا أنه كان يسيطر على الجولة سيطرةً تامةً، فلا يستطيع أحد أن يخالف قواعد المرور أو يكسر الإشارة دون أن يعمل له حساباً، ويكفي أن يلوح بدفتر المخالفات حتى يتوقف السائق، فإما أن يأخذ ورقة المخالفة، أو يبادر العسكري بورقة نقدية واعتذار ثم يغادر... قررت أن أضع نفسي مكانه. أخذت الدفتر من الأرض، وبالرغم من ملابسي المدنية فقد كان المواطنون مطيعين للغاية، فما أن ألوح لهم بالدفتر حتى يتوقفوا.. بصراحة أعجبني الإحساس بالسلطة، وأكثر من ذلك أن البعض كان يدفع بمجرد أن أقترب منه، والبعض الآخر كان يعجبني أن أعفيهم، وأضع نفسي مكانهم، وأحس بمشاعر السعادة والفرح في أعينهم. حينئذٍ قررت بأنني وجدت عملاً شاغراً، أن أعمل مكان الموظفين الغائبين، وآخذ أجرتي من المواطنين، التي لو أخذها الموظف لكانت رشوةً تستدعي حبسه.. وقبل أن أقرر المغادرة، بعد أن حصلت على مال يعادل ما سرق مني، كانت يد العسكري الجلفة، التي تفوح منها رائحة (السلتة)(2)، تنزل على كتفي كالزلزال، هربت سريعاً لكن يده الأخرى كانت أسرع في إفراغ جيبي كان يصيح وهو يعصر النقود في يده:
- «تريد أن تسرقني حقي؟
أوضحت له:
- أنت لديك مرتب من الحكومة، أما أنا فهذه النقود أجرتي، لقاء عمل إضافي، واستلمتها مباشرةً من الجمهور.
- هذا عملي مش عملك، وهذا حقي مش حقك، أما لو أركن على معاش الدولة فلن أعيش يوماً واحداً أنا وجهالي. كود المعاش للإيجار، وعاد في أكل ومدارس، وملابس... كان صوته يختفي فيما مكافح الفساد كان يهز رأسه موافقاً على كلام العسكري، ومحذراً لي من تكرار الموقف».
عبرت إلى ميدان التحرير، وأنا أتأوه ندماً، على مال المرور الذي كان كفيلاً بسفري. لكن عيني وقعت على إعلان قماشي، على جدار مبنى الهيئة العليا لمكافحة الفساد، كان عنوانه: «جلسة حوار حول التداول السلمي للسلطة، والتدوير الوظيفي».. قررت الدخول فربما أجد دوري في الحصول على وظيفة، أو ربما أجد أحداً من محافظتي يُقلني معه عند انتهاء الحوار.
كان الحوار مشتعلاً عند دخولي القاعة.. المنصة مكتظةٌ بالسلطة والمعارضة والمطبلين الجاهلين مع هذا أو ذاك.
كان أحد الجماهير القليلين يصيح باتجاه المنصة:
- لماذا لا تسمون الأشياء بأسمائها وتسكهونا الشغلة، لماذا لا تسمونها جلسة حوار (التداول السلمي للسرقة) بلا تدوير وظيفي بلا كذب. إن ما يتم الآن هو سارق يتداول الوظيفة مع سارق، وإلا كيف تنضح تقارير أجهزة الرقابة بتقارير الفساد ذاتها، حتى لو تغير المسؤول عن الجهة الفاسدة. وإلا ما رأي المسؤولين والوزراء السابقين الموجودين في القاعة؟
بدأ بعض المسؤولين السابقين واللاحقين، يتبادلون نظرات، الاستغراب، ثم الاتهام، ثم تطور الأمر إلى حركات السخرية، ثم بدأ التداول السلمي للسباب:
- يا سارق!أنت حملتني ملفات فسادك.
- أنت السارق، لقد أكلت الجمل وما حمل وما لم يحمل!
- اعرف مع من تتكلم! أنا غني من بيت أبي، يا عديم الأصل!
- قليل الأصل أنت، يا سارق يا بن السارق!
- سرقت الميزانية!
- أكلت المساعدات الدولية!
- لعبت بالمناقصات والمشاريع!
- خربت التعليم، جعلته تجهيلاً.
- حولت الصحة إلى مرض.
- وضعت الرجل غير المناسب في مكانة لا يستحقها.
- أخذت ما لا تملك وأعطيت من لا يستحق.
- سلبت مرتبات الموظفين، استقطاعات وأقساط!
- هضمت حقوق العسكر!
- حولت الموظفين والعاملين، إلى قطاع طرق و لصوص صغار يتقاتلون على الفتات، وتركت لنفسك الكعكة الكبيرة.
فجأةً تحول السباب السلمي، إلى العراك اللاسلمي، فيما مكافح الفساد مثل القرود الثلاثة لا أرى لا أسمع لا أتكلم.
ذهبت خلف محافظ محافظتنا المنتخب، حين هرب من أرض المعركة، لأطلب منه أن يأخذني معه للبلاد. لكنه ردني قائلاً:
- وأين ستركب بجواري أم وسط العسكر، لا يوجد لك مكان. تحضر وأذهب لفرزة الأجرة واحترم محافظك.
- لا يوجد لدي مال.
- إذاً لا تسافر وتحمل المحافظة همك، تسول هنا أحسن لك.
وقبل أن يتم جملته كان مرافقوه قد أطاحوا بي بعيداً.
عدت وحيداً إلى الرصيف المظلم في رابعة النهار، أخذ الجوع ينهشني، وضعت نفسي مكانه فازداد جوعي، وجاء أذان العصر، فقلت: أصلي، ويدبرها كريم.
بعد نهاية الصلاة قام أحد المصلين يبكي ويشتكي:
- «إخواني يا أصحاب الوجوه الطيبة صاحب البيت سيطردني، وأنا جائع منذ الأمس، ارحموني يرحمكم الله».
كانت النقود ترمى إليه.بعد لحظةٍ من تفكير جائع، كنت أضع نفسي مكانه، ضربت بطني و قمت من مكاني وتقمصت حركاته وكلماته:
- «إخواني يا أصحاب الوجوه الطيبة...».
وأنا أجمع المال الذي بالكاد يكفي لوجبة بسيطة، كان المصلي الذي وضعت نفسي مكانه، يمسك بيدي ويسألني من أي الجماعات أنت ومن عينك.وحين رأى علامات الاستغراب في وجهي لكزني في بطني وهو يقول:
- «أخونا متطفل على المهنة. لقد عرفت ذلك فجدول اليوم لا يشمل أحد غيري للنزول في هذا الجامع. أسمع! رعى الله أيام زمان حين كان التسول مهنة من لا مهنة له، الآن التسول وظيفة مثل بقية الوظايف، وله درجات وترقيات، لكنها غير معلنة لخصوصيتها وسريتها، ولأن أصحابها لا يعرفون إلا بالنكتة السوداء على جبينهم التي تميزهم يوم القيامة... هل تعلم أن حيثيات التعيين فيها صعبة للغاية، فأنا مثلاً لم أتعين إلا بعد أن ثبت أن ثلاثة من أقربائي الشبان قد ماتوا بجلطات قلبية بسبب هم المعيشة، وأن الرابع مات منتحراً، ثم قمت بخلع رداء الكرامة والحياء.. وهل تعلم أنها أكبر مهنة في التاريخ لأنها تضم دول وحكومات ورؤساء ومشايخ وأمراء...
وقبل أن يأخذ الريالات من يدي كنت أجري هو يصيح خلفي، ومكافح الفساد يرمقني بازدراء:
- أين ستهرب منا، إن كررتها فاقرأ على روحك الفاتحة.
بعد أن سددت جوعي ببعض الطعام:خبز (روتي) بحجم أصابع يدي وعلبة تونة مستوردة ذات طعم فاسد، ذهبت في سبيلي للتحرك إلى الغرفة التي أعيش فيها مع خمسة آخرين..في الطريق، وتحت تأثير التونة، دخلت حمام جامع آخر صادفته، فالغرفة التي أسكنها لا تتمتع بميزة الحمام.. قبل أن أصل الغرفة وجدت حمادي زميلي في الغرفة وابن قريتي، يصيح في وجهي بمختلف الانفعالات، وحين وضعت نفسي مكانه اكتشفت أنه على حق، فقد اتفقنا على السفر إلى القرية بعد الظهر وها هو المغرب قد أزف وهو ينتظر عودتي.
شرحت له بأن مالي الذي جمعته استعداداً للسفر قد سرق، يبدو أنه وضع نفسه مكاني، وتذكر كم كنت أنتظر وقت السفر، وكم كنت أمتلئ بالشوق إلى أهلي وإلى زوجتي بالذات، والتي لم يمر على زواجنا أربعة أشهر، وقد غادرتها من ثلاثة أشهر إلى العاصمة، قاصداً الله على بطني.
عندما قرر زميلي أن يتكفل بمصاريف سفري وأن يسلفني بعض المال، حتى يكون لي حيثية عند وصولي إلى القرية، رُفِعَ أذان المغرب فخطرت لي فكرة جشعة.اعتذرت عن الصلاة معه. واستأذنته للصلاة في الجامع والعودة سريعاً. وهناك في الجامع عزمت على عمل جولة أخرى، فما إن سلم الإمام وسلمنا معه حتى كنت أقف صارخاً:
- إخواني يا أصحاب الوجوه الطيبة، أنا مسافر ولا يوجد في جيبي ريال واحد.. وقبل أن أكمل كان المتسول السابق يصيح في المصلين:
- «لا تصدقوا هذا الكاذب إنه يتنقل من جامع إلى جامع للتسول، أقسم لكم بالله».
إذا ًعدت خالي الوفاض، وأخذت المال الذي قرر حمادي أن يقرضني إياه، وانطلقنا في آخر سيارة كانت متجهة إلى محافظتنا. ركبنا في سيارة النقل تلك في الجزء الخلفي المكشوف، وتكومنا على أنفسنا للوقاية من الرياح والبرد؛ وبعد أربع ساعات من السفر وسط الظلام، وصلنا مركز المحافظة، وهناك قررنا المبيت حتى الصباح.. وجدنا فندقاً شعبياً - لوكندةً، من ذلك النوع الذي تتراص السراير فيه بجوار بعضها البعض، لم ننم بسبب رائحة الدخان والتبغ المتصاعد من الشيش والمدايع، وكذا انسجام البعض وانفعالهم مع الرقصات في قنوات الأغاني، وأزيد سبباً آخر الشوق الذي بدأ يشتعل في داخلي، فأخيراً هإنني أعود إلى زوجتي بعد هذا الفراق الطويل. (سامح الله والدي فقد صمم على تزويجي بعد تخرجي من الجامعة، ولم يضع نفسه مكاني، حين اقترحت أن أعمل أولاً وأرتب حياتي ثم أتزوج. لكنني وضعت نفسي مكانه حين قال: «ماذا سيقول عني الناس إذا لم أزوجك وأنت الجامعي، وقد زوجوا أبناءهم وهم لا يحملون شهادات مثلك». وإن كان اكتشف فيما بعد أن دراستي الجامعية، لا تساوي بغير واسطة، إلا الورق الذي كتبت عليه، لذا فقد طلب مني بعد الزواج بشهر أن أسافر إلى العاصمة وأقصد الله على بطني.. عملت في كل شيء، مثلي مثل أقراني الذين لم يدرسوا: حارس، مباشر في مطعم، عامل اتصالات، وأي عمل بحسب تساهيل السوق).
في صباح اليوم التالي كنا في جولة مفترق الطرق المؤدية إلى قريتنا التي تقبع في أعلى جبل في المحافظة.انتظرنا فإما أن تمر سيارة تحملنا معها أو نجد دراجة نارية أجرة تأخذنا إلى قريتنا.
فيما نحن ننتظر، قال حمادي وهو ينظر إلى الطريق المؤدية لقريتنا:
- الحمد لله لقد شقت الطريق إلى قريتنا وعبدت وإلا لكنا الآن نمشي لساعات وساعات صعوداً على هذا الجبل.
في تلك اللحظة مر رجل عجوز وقال:«مسيرة آمان ولو مسافة ثمان»
فرد عليه حمادي: فال الله ولا فالك، تتمنى أن نمشي ثمانية أيام، وتخوفنا من هذه المنجزات العظيمة. أصبحنا نصل إلى القرية في نصف ساعة فقط على متن الدراجة النارية.
واصل العجوز مسيره مبتسماً، وهو يردد: «مسيرة آمان ولو مسافة ثمان».
وقبل أن أضع نفسي مكان ذلك العجوز، ظهرت دراجة نارية فركبها حمادي وغادر، ولم تمر سوى دقائق أخرى حتى ظهرت دراجة ثانية، أعطاني صاحبها (دبة ماء، ودبة بترول) لم تمر بعدها سوى دقائق أخرى على تحركنا حتى ارتفعت حرارة الدراجة النارية فتوقفنا وبدأ يملأها بالماء، ثم واصلنا صعودنا وحدث الشيء نفسه، فاعتذر لي السائق عن عدم المواصلة وأخذ نصف الأجرة وغادر.
عادت الدراجة التي أقلت حمادي ولكن لسوء الحظ لم يكن فيها وقودٌ كافٍ، وعرفت لماذا يحمل السائقون معهم دبتي الماء والبترول. بدأت في المسير حتى يدبرها الله، وسرعان ما مرت عربة نقل شاص، ركبت في مؤخرتها مع البضائع والدجاج والخراف، وامتلأت بالسعادة و أنا أتخيل الفرح في عيني زوجتي حين تشاهدني، ولكنني سرعان ما داخلني وسواسٌ، كان يزعجني موشوشاً، في أذني: «وماذا بعد ذلك؟ ستمكث أسبوعاً بالكثير ثم تغادر حاملاً شوقك معك، تاركاً لقادم الأيام وحظك في الحصول على عمل، وأن يقررا موعد زيارتك القادمة، وأنت لا حول ولا طول، تحصي أيامك كذي قبل: يوم تنتظر فيه أن تحصل على قوت يومك، و يوم تتمنى لو تحصل فيه على فائض تدخره، ويوم تتمنى أن ترفه فيه عن نفسك ليس بمأكل أو ملبس أو نزهة، بل أن تحشر نفسك في غرفة السردين التي تسكنها وسط (المخزنين) وتستمتع بمضغ بعض وريقات القات الرخيص، وفي آخر كل ليلة لا يغمض جفنك إلا بعد أن يهدك هم الغد هدا.. فتصحو في اليوم التالي وتقبل عملاً أشد مشقةً وأرخص أجرةً من سابقه.وكما تخليت عن شهادتك الجامعية بسهولة، لن تلبث أن تتخلى عن إنسانيتك وتقبل أعمالاً لا يقبلها إلا الحيوان. ثم، إن جمعت المال، فستجمع مالاً بالكاد يكفي أن تحمل بعض المؤنة إلى بيت أهلك وربما ثوباً رخيصاً لزوجتك، لتقضي أسبوعاً آخراً هناك، وربما تخسر كل هذا، إذا ظهر لك السارق الطليق من داخل النفق.. ووسط كل هذا فلا يمكنك أن تسمع صوت العقل الحق، أو تلتفت إليه حين يناديك من هنا أو هناك».
طردت ذلك الوسواس الذي يريد أن يفسد علي حلاوة اللقاء بأهلي، ومع ذلك عاد الوسواس يدس لي السم في العسل:- وليكن!! "اليوم خمرُ وغداً أمر"!! ولتكن الحياة عزة وسرور من الآن فصاعدا.. أحسست باهتزاز جسدي، وازدياد ضربات قلبي، ظننت أنني عدت إلى حلاوة الوجد والشوق واللقاء القريب، حتى رفعت رأسي.. كان أعلى الجبل يرتج ارتجاجاً، وكأن بركان على وشك الصحوان.. حينذاك لمحت صخرة كبيرة كانت تتهادى من علٍ باتجاهنا، جثمت على مقطورة السائق، هرسته وأجهزت عليه..قفزت من السيارة بأسرع ما أستطيع، ولكن لسوء حظي فقد تعثرت ووقعت على ظهري، في اللحظة التي تحركت فيها الصخرة وانتهت بالرقود على صدري. ظهر مكافح الفساد بعربته الفارهة.. وكأنه أحس بما أحمله من لوم على غياب إجراءات السلامة عند شق الطرق قال:
- يا ابني لا تتعب نفسك لا يوجد شيء أسمه اجراءت الأمن والسلامة في ثقافة المقاولين.. ببساطة ضع نفسك مكانهم وستعذرهم.. دعني الآن أذهب لكتابة تقرير القضاء والقدر الذي أصابكم.. وإن كنت تتحمل مسؤولية فساد تفكيرك وتدبيرك واختيارك.. لكن لا تنسى أن تضع نفسك مكان الصخرة إن كنت تريد بعض الراحة.
جالت بخاطري آيات الله في بني إسرائيل: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافلٍ عما تعملون".(3).
بدأت أتدحرج كالصخرة، وأهوي من جبلٍ إلى جبل، وأرى آلاف الصخور تشبهني وتسقط مثلي في نفق البحر المظلم الذي بدأ يخنقني بمائه المالح...صياح مكافح الفساد يغرقني:
- ضع نفسك مكان البحر.. ازدرد البحر، مثلي تماماً!! لكنني لم أضع نفسي مكان مكافح الفساد، ولم أزدرد البحر.. بل طفوت فوق الماء، ونظرت في آمال السماء، فامتلأت نفسي ثقةً بآلاء الحرية صارخةً:
لن تكون ذاك اليوم بعد اليوم، لن تكون ذاك اليوم بعد اليوم!!
انتهت.
(1) سكهنا الشغله: أرحنا من الانشغال به.
(2) السلته: أكله شعبية في اليمن.
(3) آية 74 سورة البقرة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.