لم يكن الانهيار الأخير الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي والعالمي أمراً مفاجئاً لدى الكثير ممن كانوا يدركون حقيقة النظام الرأسمالي القائم على الجشع المفرط والمراباة والسعي للربح السريع والكبير على حساب الفقراء والمعدمين، ذلك النظام الذي سلك مختلف الوسائل اللا أخلاقية في تكوين ثروات طائلة واحتكارها لدى فئة قليلة، ولم يكن لهذا العالم المتوحش أن ينتقد أو يحتج على أن ثلاثة من أثرياء العالم أو أربعة – على سبيل المثال - يمتلكون أكبر من ميزانية 50 دولة نامية. في ظل هذا الوضع البائس توسع التفاوت الطبقي وازداد عدد الفقراء، وتضاعفت الديون على الشعوب والدول النامية ولازال الوضع كما هو، وانخرطت الدول العربية والإسلامية في اقتصاد العولمة ومنظمة التجارة العالمية والاقتصاد الأمريكي والغربي، وفي لحظة عدالة إلهية أو مؤامرة غربية (فليسميها كلٌ كما يريد) تبخرت كل تلك الأموال العربية في بورصة وول ستريت الأمريكية، وبلغت خسائر الدول الخليجية وحدها أكثر من أربعمائة مليار دولار طارت في الهواء، تخيلوا هذا المبلغ الضخم لو أن تلك الدول الخليجية قامت باستثماره في اليمن والسودان وموريتانيا وأمثالها من الدول العربية كم كان سيحقق من وفرة ونمو ودخول وثروات تعود بالخير والمال الحلال الوفير على تلك الدول وعلى المستثمرين الخليجيين. يتحدث الكثير من المنظرين والاقتصاديين في الدول العربية ومنها اليمن عن النظام الاقتصادي الإسلامي وأهمية تطبيقه ومميزاته و..و ..الخ، في الوقت الذي لم يضعوا حتى الآن أي تصور عملي كنموذج يمكن الاعتماد عليه في إنعاش الاقتصاد ودعم الفئات الفقيرة والأشد فقرا،على ضوء هذا النظام، والمتأمل في عمل ما تُسمى بالبنوك الإسلامية التي تمارس أنشطتها في اليمن وغيرها يُلاحظ أن كل تعاملاتها تقترب كثيراً من البنوك العادية التي يسمونها ربوية، والفرق أن ما تُسمى بالإسلامية تستغل الزبائن تحت مسميات شرعية وتحتال على الربا وتعيد إنتاجه بطريقة إسلامية وحاشى الإسلام منها. قبل عام تقريباً أرسلني والدي لأستطلع في البنوك حول إمكانية أخذ قرض بسيط لغرض غير تجاري، وحين ذهبت للبنوك العادية طلبوا ضمانات وحددوا نسبة فائدة 18 % ، وحين ذهبت لما تُسمى البنوك الإسلامية طلبوا أيضاً ضمانات أكثر من البنوك الأخرى وكانت المفاجأة أن نسبة الفائدة - الربح كما يسمونه - حددوها ب 22% ؟، والفرق فقط أن البنوك التي تسمي نفسها إسلامية تتحايل في طريقة الإقراض حيث تقوم بشراء المواد المراد إقراضها للمقترض من التاجر مباشرةً ويقوم المقترض بقضاء البنك قيمة المواد وزيادة ربح 22% مقابل الأجل المضروب! فكان أن تخلينا عن الفكرة لصعوبة توفير الضمانات أولاً وثانياً لأن الربا المجحف والمحرم قائم في كلا البنكين وإن كان فيما يُسمى بالإسلامي أكبر؟ والمفارقة المضحكة المبكية أن الحكومة الفيدرالية الأمريكية كانت قد خفضت نسبة الفائدة في أمريكا قبل الانهيار الأخير إلى ما يقارب 2% ومع ذلك كان ما كان من تخلف المدينين عقارياً في أمريكا وما تبعها إلى مرحلة الانهيار المريع، فكيف سيكون حالنا ومآلنا والفائدة عندنا بين 18% و22% إذاً فلنأذن بحرب من الله أشد مما جرى لأمريكا والغرب.. أليس كذلك يا مرشدينا وخطبائنا. من هنا تأكد لي أنه حتى الآن لا يوجد أي مصارف أو بنوك تمثل الاقتصاد الإسلامي بشموله وكماله ورقيه و ينطبق عليها بشكل صحيح وحقيقي مسمى إسلامية، وأن ما هو موجود الآن ليس سوى تطبيقات لجزئيات صورية من النظام الاقتصادي الإسلامي الشامل. (يونس بنجلاديش وبنك الأمل) لعل الكثير قد سمع خلال السنوات الماضية عن تجربة Grameen Bank (بنك جرامين) أو (بنك القرية) وهو المشروع المصرفي الناجح الذي تبناه البروفسور البنجلادشي المسلم محمد يونس والذي حاز على جائزة نوبل عام 2006م كأبرز شخصية تعمل على مساعدة الفقراء حيث بلغ عدد الفقراء الذين استفادوا من تجربته ومشروعه أكثر من 7 ملايين فقير. وتقوم تجربة يونس على تقديم قروض ميسرة للفئات الفقيرة بدون فوائد وبضمانات سهلة تحوطها رقابة اجتماعية وتكافلية، وقد استطاع هذا العبقري- الذي لم يزد على تطبيق أحد صور النظام الإسلامي الحقيقي– أن ينتشل من مستنقعات الفقر ملايين البنجلادشيين وصار بحق (قديس الفقراء)، هذا النموذج المصرفي الرائع لم يتم الاهتمام به كما ينبغي، رغم أنه أقرب ما يكون لصورة النظام الاقتصادي الإسلامي التكافلي، وتوجد أنظمة ومصارف إسلامية بحاجة لأن تطور أدائها وعملها بحيث تستهدف خدمة الفقراء والنهوض بهم وهذا مالا يمكن أن يقوم بدون جهود حكومية رسمية تتولى ذلك. أما هنا في اليمن فقد كانت عُلقت الآمال في فترة سابقة على بنك حكومي أنشأه الرئيس تحت اسم (بنك الأمل) وكان يُنتظر من ذلك البنك أن يتولى مهمة دعم الفقراء والشباب العاطلين برؤوس أموال وقروض بسيطة وميسرة بضمانات معقولة وبدون فوائد، يستطيعون من خلاله تكوين أنفسهم وبناء مشاريعهم الخاصة التي يستغنون بها عن الوظيفة الحكومية ويوفرون على الحكومة ويخففون من أسراب البطالة والعطالة، ولكن مع الأسف لا يعرف اليمنيون أين هو مصير ذلك البنك، وماذا يُقدم من خدمات الآن، ويبدو أن الفقراء اليمنيين ليس لهم سوى أن يحلموا بمحمد يونس يمني على غرار محمد يونس البنجلادشي!