قبل سبعة عشر عاماً غادرت العراق، وقلت سأعمل، وأجني مالاً، وأشتري بيتاً يضمني مع أطفالي، ويستر حالي، ولا يهم بعدها ما سنأكل أو نلبس، فحتى الطيور يأتيها الله برزقها وهي في الأعشاش... وها أنذا بعد سبعة عشر عاماً أحسب ما جنيت فأجدني: بلا بيت، ولا طن أيضاً..! منذ سبعة عشر عاماً وأنا أصنع عشية العيد كعكاً بشتى الأصناف، وأشتري أجود أنواع الحلوى.. وأترقب صباح كل يوم عيد الضيوف خلف الباب.. لكن لا أحد يأتي ليقول لي: "أيامك سعيدة"، أو يأكل كعكي، ويشبع غرور ربة بيت ب"تسلم يدك".. فالاحتلال اللعين نهب حتى أعيادنا.. كنت أردد في سريرتي أن اليمن وطني، ومعظم اليمنيين يرددون الشيء نفسه.. غير أن كل شيء يسقط عند عتبة البيت: قيم الأمة الإسلامية تسقط، وقيم الأمة العربية تسقط، وإحساس الغربة وحده من يبقى واقفاً.. رغبتي جامحة لأتصرف كيمنية، فاليمن تجري في دمي، غير أن اليمن وحدها من ترفض إلاّ أن أبقى غريبة.... تطرد أطفالي من المدارس إن لم يحضروا أول كل عام دراسي "استمارة وافدين"، رغم أنهم من مواليدها.. تجبرني على دفع (3.200) دولاراً سنوياً رسوم دراسة ابنتي في جامعة صنعاء الحكومية.. تفرض (50) ألف ريال سنوياً لتجديد إقامتي، و(300) ريال عن كل يوم تأخير.. فكيف تكون وطن وتعاملني كدخيل! وخلافاً لكل قوانين الكرة الأرضية، وحدنا العراقيون في اليمن يُطلب منهم وثيقة "شهادة الجنسية العراقية"، ووثيقة "الأحوال المدنية" بجانب الجواز، و"فيش تشبيه" من المباحث الجنائية، كي نحصل على حق إقامة شرعية في بلد نسميه "مهد العروبة"، ومنذ صغرنا يلقننا آباؤنا: "أن من يقول أصله من غير اليمن فهو ليس عربي"؛ غير أن آبائنا لا يعلمون أن دستور الجمهورية اليمنية لم ترد فيه كلمة (عربي)، وحتى هذا اليوم يطلق علينا (الأجانب) دستورياً، أسوة بأي أمريكي يدخل أراضيه!! حتماً أن للحديث مناسبة، فقد فوجئت صباح اليوم أن هناك عدد كبير من القراء يواصلون تصفح موقع "نبأ نيوز" رغم أنه صباح يوم عيد، ويفترض أن الجميع منشغل بأسرته وأرحامه والتهاني.. وعندما بلغ عدد الزوار حتى الساعة الثانية عشر ظهراً (2083) زائراً، ومعظمهم يتصفحون أخباراً سياسية، تكدرت نفسي بشدة، وأحسست أنني لم أكن وحدي خلف الأبواب أترقب الضيوف لأقدم لهم كعك العيد، بل هناك غيري من أبناء اليمن نفسها يشعرون بالسقم، ومتكدرون، ولم يتذوقوا طعم العيد..! لم يعد بوسع أحد أن يقول أن الأمور ما زالت بخير، طالما هناك من يعيش بقلق.. وطالما الجميع لا يتعاطى مع المشاكل بروح المسئولية الوطنية.. فعندما تتحدث الدولة عمن ينشرون ثقافة الكراهية، والتشطير، وتحذر من خطورتها على مستقبل الوطن، يتوجب السؤال: وهل استنفرت إعلامها ومثقفيها لمواجهة ذلك بنشر ثقافة المحبة والإخاء والتسامح والوحدة؟ وعندما تتحدث عمن تصفهم ب"مأزومين، وعملاء، ومرتزقة"، يتوجب السؤال أيضاً: أين إذن الذين يسمونهم للناس بأسمائهم، ويحدثونهم عن أفعالهم وجرائمهم، ويحصنون ثقافة الرأي العام منهم؟ لماذا خلت الساحة إلاّ ممن يصفهم "أبطالاً ومناضلين" ويصنع لهم تأريخاً مجيداً؟
وعندما تقوم فئة ما بإحراق مؤسسات خدمية، وضرب باعة متجولين وأصحاب بسطيات، ورمي قنابل على مراكز انتخابية، وزراعة عبوات ناسفة، وتقطع للمسافرين، وانتهاكات سافرة، لابد من السؤال أيضاً: لمصلحة من إذن يتم التكتم الإعلامي عليها، وحجبها عن مسامع الناس، كما لو كانت عاراً على السلطة وليس على منفذيها، ممن يعدون الناس خيرا،ً وبالأمن والسلام والعدالة!؟ لست ممن يحمل المعارضة المسئولية، فالديمقراطية تكفل للجميع حريات مختلفة، وإن كان بينهم من أساء استخدامها، فأين ذهب من يحسنون التعاطي مع الحريات، ليبثوا ثقافة السلام، ويغرسون القيم الوطنية الحقة، ويرسخوا الولاء للثوابت الوطنية!؟ فإن كانوا فاشلين أو عاجزين فما جدوى بقائهم؟ وإن كان هناك من يدعي أنهم صالحون، فأين أثرهم؟ وأين ثمار برامجهم ومشاريعهم وتقاريرهم التي يتقاضون عليها الملايين تلو الملايين؟ فمن يصدق أن كل ما تعانيه اليمن اليوم هو ثمرة تعبئة إعلامية ليس أكثر ولا أقل، غير أن في الطرف الآخر من لا يكلف نفسه حتى عناء الكلام بين الناس، لانشغاله بالبحث عن حيلٍ، ومشاريع وهمية يبتز بها المزيد من المال!! قبل بضعة أسابيع، قال لنا الأمين العام المساعد للثقافة والإعلام في حزب المؤتمر الحاكم "بن دغر": (أنتم تأتون من خارج اليمن لتتذاكون على اليمنيين وتنصبون عليهم)..! فأدهشنا أنها المرة الأولى التي يتطابق فيها الموقف من "نبأ نيوز" بين (الحزب الحاكم، وحيدر العطاس، ومحمد علي أحمد)- رغم أنهم مختلفون حتى على وحدة اليمن التي يجمع عليها العالم.. أعتقد أن هذه المعلومة ستسعد السيد "العطاس" كثيراً، لأسباب عديدة أتحفظ على ذكرها.. إلاّ أنني ذكرت الموقف لأنه تأريخ اليوم الذي بدأت أشعر فيه بالغربة في اليمن.. فرغم أننا منذ سبعة عشر عاماً لم نتسول يوماً على باب مسئول أو شيخ، ولم نطلب من أحدٍ– بمن فيهم رئيس الدولة ومن دونه- ثمناً لمبادرة، أو موقف، أو جهد، انتهى بنا المطاف على بوابة صانع القرار الإعلامي للحزب الحاكم ليقيمنا "كمتذاكين ونصابين"!! رغم غربتي عن بلدي، لكنني ما زلت مؤمنة: إن أشد الاغتراب مرارة هو اغتراب عن المبدأ والموقف مع الوطن، وفي ذلك عزاء لكل مغترب عن وطنه طالما وحب الوطن يسري في العروق!! وكل عام وأنتم بخير، واليمن بألف خير..