أربعة كنا.. أنا وأخي بدر وابنا الجيران .. لنا رائحة الربيع، يكمل بعضنا بعضا .. فلا فجر دون استيقاظنا معاً، ولا طريق دون خطانا .. نرمم البيوت العتيقة تارة، و نعمل في النجارة تارة أخرى، أو نبيع الشطائر لعمال سكك الحديد .. تحسدنا عيون الرجال وتباركنا دعوات الأمهات، متخذين منا أمثلة للألفة.. كنا أربعة جنود من نور كالجهات والفصول ومساند العرش .. كل جديد في عالم الأدب شربناه معاً .. لكني شذذت عنهم بإكمال دراستي، وظلوا كادحين. ذات نهار لا يشبه غيره، شممت فيه رائحة الصمت بيننا، واكتشفت في عيونهم صناديق مغلقة عني بأحكام..انقطعت اللقاءات بأعذار لا ترضي حواسي. اشترى بدر دراجة ثمينة وصار يكثر الانعزال والتأمل بعد عودته، أمي تقسم بأن السماء لعنته بالحمى لأنه ترك الصلاة .. أما الاثنان الآخران فما عاد أحد يراهما سوية، كلا هذا ما نظنه كلنا، فابن عمي اقسم أنهما لا يفترقان وأيضاً لا يتحدثان بكلمة أمام الغرباء! . نفخ الشيطان في رأسي أفكاره السوداء .. وحزن النهار تعلم بناء سراديب غائرة في أعماقي، فعقدت العزم على حل الطلسم .. في أول جدال لي معه صفعني وبصق على أمي صبيحة العيد وترك خلفه صورة جدنا الفقيه محطمة ، وغاب عن الدار شهوراً من احتراق قبل أن تعيده توسلات مختار الحي لأن أمي أصيبت نتيجة غيابه بالهذيان. لم يحضر أي جنازة لأولاد الحي الذين يقتلون برصاص المحتل والإرهاب، كأن الجان استبدل بقلبه الرحوم حجارة الكهوف، أين ذهبت حنجرته الصادحة بأغنيات فيروز عند الضحى، وإعداده القهوة لنا كل مساء ؟ فما سمعناه يتحدث بغير كلمات عبر الهاتف: :- ( حسناً، متى، أين ). تبعته ذات مساء ، فأرجعني خوفي ..! وفي نهاية الأسبوع وبخت جبني كأخ كبير، فتتبعته بحذر ثعالب الغابة إلى مستودع حقير .. لقد تلاقوا ثلاثتهم وخرجوا إلى بيوت مهترئة في أطراف بغداد، لن احتاج إلى فطنة الأنبياء لأعرف انه من جنود العتمة التي زرعت الفتنة في بلاد تآمر عليها الموت بألوانه، ومسحت عطر طفولتنا فلا عجب للعقوق والرذيلة. شعروا بوجودي، فركضوا خلفي .. تعثرت بدهشتي، فسقطت بين أيديهم .. الصفعة الأولى كانت من يد بدر.. وتوالت الركلات .. جروني إلى ارض جرداء وأطلقوا علي الرصاص .. تشاجروا، ثم تناوبوا على حفر قبري الصغير. يبدو أن رئيس تنظيمهم علم بالأمر، فأرسل إليهم دورية من خمسة رجال، حزوا رقابهم ومثلوا بهم، ليضاف إلى حينا المنكوب ذلك اليوم أربع جثث، وتستضيف الأزقة أربع لافتات سوداء جديدة .