مدت يدها الحنون تتحسس جبين الصغير الذي يرقد في فراشه قريباً منها، ثم مالبثت أن ارتدت إلى الوراء مذعورة، وهي تحاول أن تكتم صرخة كادت تفلت من شفتيها المرتجفتين .. كان الصبي محموماً .. أصابه برد الشتاء القارس الذي يجيء بثلوجه في مثل هذه الأيام من كل عام .. وبحثت عن الدواء، فلم تجد منه شيئاً .. البيت الصغير الذي يقبع فوق قمة الجبل، بدا هو الآخر وكأنه يئن تحت ثقل الثلوج التي تراكمت عليه ومن حوله، فليس فيه أي شيء يمكن أن تشعله في المدفأة التي مضى عليها أكثر من أسبوع لم تشتعل فيها النار، وهي التي كانت لاتكف عن إشاعة الدفء في هذا البرد القاتل .. فهي لم تبرح البيت خلال الأسبوعين الآخرين .. حتى الصغير .. ابنها الوحيد الذي عاشت له ومعه منذ سقط والده شهيداً في هذه الحرب المجنونة يرقد أمامها في هذه اللحظة، لم يعد يذهب إلى مدرسته .. فقد أغلقت المدارس في المدينة الجبلية الصغيرة التي ولدت وعاشت فيها مع أسرتها الكبيرة، ثم أسرتها الصغيرة التي فقدت عائلها. واستبدت بها الحيرة والقلق، وهي ترى ابنها يحترق تحت وطأة الحمى .. ماذا تفعل. في البداية حاولت أن تستنجد بالجيران، ولكنها لم تجد عند احد منهم ما تبحث عنه .. استغاثت بالطبيب الوحيد الذي رفض أن يترك البلدة كما فعل زملاؤه هرباً من قصف المدافع والقنابل، ولكنها لم تجده، فقد ذهب إلى المستشفى الصغير الذي شيدوه في ميدان القتال الذي لايبعد كثيراً عنهم لإسعاف الجرحى والمصابين .. هكذا قالوا لها عندما اتصلت بهم هاتفياً من بيت جارتها العجوز. وعادت الأم إلى حيرتها .. ولكنها في هذه المرة لم تطل، وكانت ماتزال تقف هناك وسط غرفة جارتها التي كانت تتدثر بملابسها الثقيلة، وتجلس بجوار المدفأة التي بدأت النار تخبو فيها، وخطر لها أن تحمل ابنها وتأتي به إلى هذا البيت الذي أحست فيه ببعض الدفء .. ولكنها مالبثت أن طردت الفكرة فوراً من رأسها .. إنه محموم، والثلوج في الخارج مازالت تتساقط بكثرة، وقد تسوء حالته. وتحدثت الجارة العجوزة أخيراً لماذا لاتذهبين أنت إلى المستشفى، إنه لايبعد كثيراً عنا .. وسوف تجدين ما تحتاجين إليه من دواء ووقود .. ان الرحلة شاقة في هذا الوقت المتأخر من الليل .. ولكنك مازلت شابة وقوية .. أذهبي يا ابنتي والله يرعاك)). ولم تنتظر لقد عادت إلى بيتها مسرعة، وأحكمت إغلاق الباب، ووضعت جسمها المتعب داخل معطفها الثقيل، وغطت رأسها لتقيه من الثلوج المتساقطة وذهبت. كانت الرحلة شاقة مرهقة، ولكنها استطاعت أن تصل في النهاية .. والتقت بالطبيب الشاب الذي كان يقف وسط المصابين يضمد لهم جراحهم، وحصلت على ما تبحث عنه من دواء ووقود .. وقفلت راجعة، ولكنها لم تكد تخطو بضع خطوات بعيداً عن المستشفى الصغير الذي دخلته من لحظات، حتى عاد القصف يدوي من جديد بعنف وقوة .. وراحت تجري بقدر ما أسعفتها ساقاها المتعبتان .. لم تحاول أن تتوقف مرة واحدة، حتى وهي ترى القذائف تنطلق من حولها، ولم تنظر وراءها، فقد كانت عيناها مسلطتين على الطريق الذي سلكته في رحلة الذهاب .. الآن إنها عائدة إلى بيتها وإلى طفلها تحمل له الشفاء. واقتربت من البيت أو كادت .. وفجأة وجدت نفسها تسقط على الأرض مغشياً عليها، وهي لا تدري ماذا أصابها .. ولا ماذا حدث في تلك اللحظات القصيرة التي مرت قبل سقوطها على الأرض. ولكنها تحاملت على نفسها .. ووقفت على قدميها، وراحت تنفض الثلج عن ملابسها، وكانت ماتزال تحمل الدواء في يدها وقد تشبثت به .. وبكل ما تبقى عندها من قوة، راحت تكمل رحلتها إلى البيت الذي تركت فيه منذ بضع ساعات مضت أعز وأغلى ما تملك في هذه الحياة التي كانت صورها تتلاشى تدريجياً أمام عينيها .. وصلت أخيراً .. ولكنها ما كادت تطل برأسها من فوق قمة التل القريب، حتى صرخت بأسى وفزع: (ابني .. ابني)، فلم يكن هناك بيت .. وإنما مجرد آثار للبيت الذي كان .. لقد أصابت إحدى القذائف البيت الصغير فدمرته، وحولته إلى حطام وركام .. حتى بيت جارتها العجوز لم يعد له أثر .. كل بناء صغير أو كبير دمرته قذيفة الموت ودفنت تحته ما بداخله من أحياء. وراحت الأم تقترب من الحطام، حتى وجدت نفسها تجلس عليه .. وفي صوت حزين يخنقه الألم راحت تناديه .. وكانت في كل مرة تنطق باسمه يخيل إليها أنها سوف تسمعه وهو يرد عليها كما تعود أن يفعل دائماً كلما غاب عن عينيها: (نعم يا أمي .. أنا قادم إليك). ولكنها لم تسمع شيئاً .. كان زئير الريح وصوت أوراق الشجر التي جفت تحت وطأة البرد وهي تصطدم بالأرض التي كستها الثلوج، هو الشيء الوحيد الذي يملأ أذنيها في هذا الخواء الذي يسيطر على المكان .. بقيت في مكانها .. ومر يوم ويومان، وهي هناك ترفض أن تتحرك .. كما تمنت خلال تلك الساعات الطويلة التي مرت بها لو أنها استطاعت أن تزيل هذه الأكوام من الركام والحطام بيديها، لتصل إلى حيث يرقد أبنها؟ وجاءت فرق الإنقاذ أخيراً، وحملوا الأم إلى المستشفى لقد أصيبت بحالة هستيريا لم تعد قادرة معها على الحديث كان الاسم الوحيد الذي لاتكف عن ترديده في صحوها ونومها هو اسم ابنها الذي دفنته أنقاض البيت الذي أطلق فيه صرخته الأولى، واحتضنته طفلاً وصبياً حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، وانقطعت صلتها بالناس، وانقطع الناس عنها، لا لأنهم لايريدون ان يروها ولكن لأنهم لايدرون أين ذهبت، ولا ماذا حل بها! وتمضي بضعة أشهر، وتتماثل الأم للشفاء، وتخرج من المستشفى فتستقل أول سيارة، وتطلب إلى السائق أن يذهب بها إلى بلدتها الصغيرة في الجبل .. إلى البيت الذي يحتضن حطامه حبيبها الصغير .. وتصل وتقف أمام الأنقاض وتبكي ولكنها لاتلبث أن تعود إلى السيارة بسرعة، وكأنها تذكرت شيئاً مهماً فاتهاأن تأتي به معها، إنه الشاهد الذي يحمل اسمه ويوم مولده ويوم رحيله .. وتعود مرة أخرى وتثبت الشاهد فوق هذا القبر الكبير. وتنطلق السيارة عائدة بها إلى المدرسة التي أمضت فيها طفولتها وتخرجت فيها منذ أكثر من عشرين عاماً .. وتتقدم الأم إلى مديرة المدرسة، وتطلب إليها إلحاقها بإحدى الوظائف الخالية، (لقد حصلت على درجة لابأس بها من التعليم تؤهلني لتدريس الأطفال .. المهم أن أكون قريبة منهم .. لقد فقدت طفلي الوحيد، وأنا أريد أن أكون أما لكل الأطفال) .. وتبدأ الأم عملها الجديد في المدرسة، ثم تمضي الأيام، وهي ترى في كل تلميذ من تلاميذها، ابنها الذي فقدته .. كان كل واحد منهم يذكرها به، وكانت تشعر بسعادة وهي قريبة منهم، حتى أنها كانت تتمنى أحياناً لو أن اليوم الدراسي لاينتهي. كانت تعود إلى وحدتها وإلى ذكرياتها الأليمة كلما أغلقت باب غرفتها عليها في بيت المدرسات، وتمضي الحرب المجنونة تقتل وتدمر .. أكثر من عشر سنوات كاملة انقضت والبلد الصغير يئن من جراحه التي لاتريد أن تلتئم .. ويقترب القتل والدمار من كل ركن .. من كل مدينة وبلدة صغيرة وكبيرة. وتسقط قذيفة على المدرسة التي جاءت الأم إليها لترى ابنها في كل ابن من تلاميذها.. وتصاب الأم بجراح خطيرة مع من أصيب من الأطفال الصغار .. وينقلون إلى المستشفى، ويقوم فريق من الأطباء بالإشراف على إسعافهم وتضميد جراحهم، ولكن حالة الأم تسوء، لقد فقدت كمية كبيرة من الدم، وهي في حاجة إلى عملية نقل دم سريعة، ويبحثون عن فصيلة دمها النادرة ولكنهم لايجدونها .. وأخيراً يجدونها عند طبيب شاب تخرج لتوه، ويتبرع الطبيب بدمه لإنقاذ الأم المصابة. وتبدأ الأم تستعيد قواها تدريجياً .. وتسأل عن الدم الذي نقل إليها، ومن كان صاحبه .. ويأتي الطبيب الشاب ويقول: أنا هو يا سيدتي .. وتتطلع الأم إلى صاحب هذا الوجه الذي وقف أمامها يحدثها وتسأله عن اسمه وتصرخ الأم وتمد ذراعيها إليه وتصيح: (ابني .. ابني). ثم تذهب في غيبوبة قصيرة، حتى إذا ما عادت إلى وعيها، وجدته واقفاً بجوار فراشها، وقد امسك بيدها وانحنى يلثمها بشفتيه وقد امتلأت عيناه بالدموع. أين كنت؟ ماذا حدث لك؟ .. كيف نجوت من الموت؟ لا أدري، ولكنني عندما فتحت عيني بعد ان فارقتني الحمى، وجدت جارتنا العجوز الطيبة تجلس بجوار فراشي وتقدم لي الطعام، لن تتصوري كم عانت المسكينة من اجل تعليمي وتربيتي .. لاشك في أنك تذكرين أنها كانت سيدة رقيقة الحال .. ولكنها مع هذا لم تدخر جهداً في سبيل إسعادي بحثت عنك طويلاً، ولما لم تعثر لك على أثر، حملتني إلى بيت أحد أبنائها، وعشنا معه هو وزوجته وأطفاله. وأين هي الآن؟ لقد رحلت منذ عامين، وكانت آخر كلماتها وهي تودعني أن امضي في البحث عنك .. كانت تقول لي دائماً: (أنت أبن لأم عظيمة يا بني، أبحث عنها، لأنني اشعر أنها مازالت حية). وقبل أن ينتهي الابن من حديثه اقتربت فتاة جميلة من فراش الأم، ورفعت يدها إلى شفتيها لتطبع عليها قبلة. وسألت الأم: (ومن انت يا عزيزتي؟) ولكنها لم تجب، واقترب الابن من الفراش ليهمس في أذنها ببضع كلمات، ثم نظر إلى الفتاة وقال: (اقدم لك حفيدة جارتنا العجوز .. إنها إبنة الرجل الذي علمني معنى الحب .. إنها صديقة طفولتي، وزميلتي وخطيبتي يا أمي).