الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانزياح من خلال شعرية جان كوهن وكلاسيكيته
نشر في 14 أكتوبر يوم 04 - 04 - 2011

يعتبر الحديث عن التنظير الذي انصب على قضية الانزياح رهانا يستدعي تحقيقه مزيداً من الجهد والوقت، لأن المتن النقدي والتفسيري الذي ألف بخصوصه إلى يومنا هذا، جد متشعب سواء من حيث التصورات التي تكونت في ظله، أم من حيث اللغات التي تعرضت إليه.
الانزياح والأسلوب
وحتى يتم ضبط موضوع البحث ضبطا منهجيا دقيقا، يرتهن بالإطار العام الذي أردت أن يندرج فيه، أرى أنه من الإنصاف أن أخص أحد رواد الشعرية الجديدة، الذي يعد المرجع الأول في قضية الانزياح الشعري، بمبحث يسلط فيه الضوء على جوانب مختلفة من نظريته، تفسيراً ونقداً وتقييماً، وما دام أن الأسلوبية هي الإطار النقدي الذي يحتضن قضية الانزياح، وأن الانزياح ينعكس في أسلوب الشاعر، فإنه من اللازم أن نتريث عنده بعض الوقت، حتى يتمهد بذلك الطريق نحو تناول شعرية جان كوهن.
في الحقيقة، لقد كثرت تعريفات مصطلح الأسلوب إلى حد التباين الشديد في آراء الدارسين، ويمكن تقسيم هذه التعريفات إلى صنفين:
الصنف الأول: يبدو فيها الأسلوب بعيدا كل البعد عن قضية الانزياح المدروسة، فتارة يرتبط بالجانب الشخصي للكاتب، فهو عند رولان بارت (لغة استكفائية، تغوص في الميثولوجيا الشخصية، والسردية للكاتب) ، وهذا ما يحيل، بشكل أو بآخر، على عبارة بيفون المشهورة (الأسلوب هو الرجل نفسه) ، إلا أن بيير غيرو يثبت هذه الخصيصة في الوقت الذي يتعداها إلى جوانب أخرى، فهو يقول: الأسلوب (هو طريقة الكتابة، ومن جهة أخرى طريقة خاصة للكتابة لكاتب ما أو جنس أو مرحلة) . وتارة أخرى يتعدى الأسلوب قيد الكاتب، كما يتضح في هذا التحديد، الذي يعتبر الأسلوب (طريق عمل، ووسيلة تعبير عن الفكر، بواسطة الكلمات والتركيبات).
الصنف الثاني: يمت فيه الأسلوب بصلة وطيدة إلى الانزياح، ويتخذ مسلكين متباينين؛ أحدهما يحتكم فيه الأسلوب إلى قانون الانزياح، الذي من جرائه يكتسب تميزه النوعي، رغم أن هذا القانون لا يعدو أن يكون إلا سمة أسلوبية، لا يشكل بمفرده كل الأسلوب، فالأسلوب من هذا المنطلق ليس هو الانزياح، وإنما به يتعين جانب من سمات الانزياح، ومن ثم درجة شعريته، في حين أن المسلك الآخر تتفق فيه طائفة من النقاد على أن الأسلوب إنما هو انزياح ما؛ فهو من جهة أولى، حسب كوهن، كل ما ليس شائعا ولا عاديا ولا مطابقا للمعيار العام المألوف، ويبقى مع ذلك أن الأسلوب كما مورس في الأدب، يحمل قيمة جمالية. إنه انزياح بالنسبة إلى معيار، أي أنه خطأ . ومن جهة أخرى، هناك من يرى أن الأسلوب انزياح لساني، لكن الكلمة في الأخير لا تنطبق على كل انزياح، على كل ملمح مميز في المجالات كلها ، وهذا نفسه ما يؤكده ناقد آخر، وهو كونراد بيرو، حين يعتبر أن الأسلوب ليس مجرد خرق لقاعدة خارجة عن النص أو متكونة من نسيجه، وإنما الأسلوب عندهم غير هذين النوعين من العدول معا، بل الأسلوب هو العدول أصلاً.
جملة القول، ليس بوسع الباحث أن يفصل القول في أي الآراء، على كثرتها، أجدر بالتنويه، لأن هذا الاختلاف الذي يسودها، إنما هو وليد الوعي المنقسم بحسب المنطلقات والاهتمامات، فأي تحديد مما تم إثباته، يتضمن قسطا من المصداقية، إن لم يجتزأ من السياق المعرفي الذي ينتظم فيه؛ فالأسلوب هو الانزياح إذا ما ربطناه بالمألوف، وهو بالانزياح يتحدد إذا ما شئنا تقييمه، وهكذا دواليك، إلا أن الملاحظة التي يجب توكيدها في هذا الصدد، هي أن الأسلوب أضحى مثار اهتمام حقيقي في إطار المدارس الأدبية المعاصرة المختلفة، إن لم نقل إنه صار يحتل موقعاً محورياً في التنظير الحديث، ينكب عليه أكثر من تيار، وتتعاطاه أكثر من مدرسة.
الانزياح من خلال شعرية جان كوهن
بالقياس إلى بعض المحاولات التنظيرية الحديثة التي اهتمت بقضايا الأسلوبية والشعرية، يمكن اعتبار مشروع جان كوهن النقدي، وقفاً على كتابه بنية اللغة الشعرية ، أعظم تناول حظي باهتمامات الكثيرين الذين انساقوا نحوه، سواء لينقلوا منه بعض المفاهيم الجديدة التي توصل إليها، والتي يرتبط أغلبها بنظرية الانزياح، ويستوحوا جانبا من الآليات المنهجية والأدائية التي وظفها، أم ليتعرضوا إلى طرحه بالدرس والمعالجة، تارة كاشفين المحاسن التي أفلح في تجليتها، وتارة أخرى متناولين السلبيات التي وقع فيها بالتساؤل والنقد.
بعدما اطلعت على جملة من البحوث العربية التي انكبت على دراسة نظرية الانزياح، لاحظت أن أغلبها ينزع منزع شعرية جان كوهن، مثمنين إياها، ورافعين من شأنها، عدا بعض النظرات الواعية، كالتي نصادف في كتاب (مفاهيم الشعرية) لحسن ناظم، وفي بحث (نقد مفهوم الانزياح) لإسماعيل شكري.
يقول خالد سليكي: (ومن خلال كتابه القيم (بنية اللغة الشعرية) تظهر نظريته فيما يخص شعرية بلاغية مستفيدة من اللسانيات بشكل عميق) ،
( فصفة القيم) التي يطلقها الدارس، تغنينا عن أي تفسير، لا سيما وأنه راح في بحثه يتناول الانزياح تناولا حرفيا خلوا من المعالجة النقدية، ثم إن إطلاق مثل تلك الصفة يجرد بحثه من الموضوعية النقدية، التي تحضر بكثافة لدى جيرار جينيت الذي يميط اللثام عن أكثر من هفوة وقع فيها كوهن، رغم أن كتاب بنية اللغة الشعرية ليس بالعمل السهل، الذي يمنحك إمكانية النقد الصائب له، فهو معقد البناء ومحكم الموضوعات والأفكار، حيث لا يتأتى بيسر للناقد العادي الكشف عن سلبياته، أو الإدراك الموفق لمخفياته، إلا أن جينيت استطاع أن يستوعب هذا المؤلف، الذي ينعته بالجاف، غير أنه، حسب رأيه، لا يمتنع عن الحوار بل حتى عن الدحض المحتمل.
ومهما يكن فإن أي إنتاج، كيفما كان، لا يخلو من الثغرات، غير أنها لا ينبغي أن تحجب عنا الإيجابيات، التي وإن تفاوت المتلقون في إدراك حقيقتها، فإن النقد لا يخطئها إلا لماما، وهذا ما سأنهجه في معاينة مشروع جان كوهن، وذلك في ضوء بعض التناولات النقدية، مقتصراً على أهم القضايا المشتركة التي تثيرها أكثر من قراءة، ابتداء من الأهداف الإيجابية التي تحققت لديه، وصولا إلى سلبيات هذا العمل النقدي.
الوجه الإيجابي لأسلوبية جان كوهن
مما لا ريب فيه، أن الأسلوبية إنما ظهرت باعتبارها نظيراً للبلاغة التقليدية، لا تروم إلغاءها أو تجاوز مفاهيمها كلية، بقدر ما تطمح إلى تجديد هياكلها البالية، وإغنائها بما استحدث من الأدوات والمناهج، حتى يكون في مكنتها مواكبة عجلة التطور، فمنها استقى كوهن المفاهيم الأساسية لنظريته، لا سيما وأنها (عوضت بأبحاثها وتحاليلها بعض الفراغ المخيف الذي تركته البلاغة التقليدية في الأوساط الأكاديمية، خصوصا وأنها كانت تنادي بوفاء خالص للنص وبإبعاد كل نزعة معيارية). هذا الوعي حفزه على الانشغال بأمر هذه البلاغة المتردية، التي كانت محطة انطلاقه نحو أفق رحب، سمح له بأن يكتشف أن (الصور البلاغية تلتقي جميعها في اللحظة الأولى عند خرق قانون اللغة) ، ومن هنا نشأت عنده فكرة الانزياح، فضلا عن أن اهتمامه بقضاياها ولد له موقفا وقفته هذه البلاغة، مؤداه (تفضيل الانزياح الاستبدالي على الانزياح السياقي، أي تفضيل الاستعارة على كل ما عداها).
وقمين بالباحث في هذا الموضع، الإشارة إلى أنه لم يتخذ الانزياح من حيث هو مقوم أسلوبي، غاية يقصدها الشاعر، وإنما وسيلة بواسطتها يتأتى له تشكيل خطابه جماليا ومن ثم توصيله، فكون الانزياح غاية يسلب الشعر، حتما، جوهره، ولا يجعل من الشعراء إلا ميالين إلى أن ينحرفوا بكتاباتهم من أجل أن ينحرفوا! أما كونه أداة، فهذا يعني أنه يساهم إلى جانب الأدوات الأخرى في تحقيق مقصد الشعر الأسمى، وهو التعبير عن التجربة الشعورية بجمالية فائقة، وفي هذا الصدد يقول جيرار جينيت: (والواقع أن الانزياح بحسب كوهن ليس غاية بالنسبة للشعر، ولكنه مجرد وسيلة، وهذا ما جعل بعض الانحرافات الشائعة جدا في اللغة لا تحظى باهتمامه مثل مظاهر المعجم). وقد ألمح كوهن، بشكل أو بآخر، إلى أن للانزياح حدا إذا ما تعداه الشاعر أودى بالقيمة الدلالية لشعره، فرغم أنه يعتبر لا معقولية الشعر (الطريق الحتمية التي ينبغي للشاعر عبورها) ، فإنه يحذر من الإيغال في اللامعقولية، لذلك نراه (حذرا بإزاء السوريالي كونه يتجاوز تلك الدرجة الحرجة).
وقد تمكن كوهن من أن يفسر قضية ثنائية الشعر والنثر، تفسيراً معقولا، إذ الشعر عنده (ليس نثرا يضاف إليه شيء آخر، بل إنه نقيض النثر) ، فرغم مناقضة البعض لهذا التمثيل، يشير حسن ناظم، ليصف لغة النثر والخطابة بالانزياح ، فإن رؤية كوهن تتراوح بين أن تكون متقبلة في الوسط النقدي، وبين أن تكون متجاوزة، خصوصاً فيما يتعلق بالرأي الذي يصف (كلاً من الشعر والنثر بأنهما سويان معياريان باعتبارهما أصلين متوازيين لا مجال للمفاضلة القيمية بينهما).
وتبقى دعوة كوهن إلى مبدأ المحايثة، هي النقطة المضيئة التي بمستطاعها أن تستقطب إليها أنظار الدارسين، فهو يؤكد صلاحيته (لاستخدامه في الدراسة الأدبية... وأن على الشعرية أن تتبناه، لأن للشعرية وظيفة تشبه تلك التي تقوم بها اللسانيات) ، فهو بهذه المبادرة يجعل أسلوبيته تنفتح على المعارف الأخرى كاللسانيات، ويوسع من قاعدة مفاهيمها عن طريق استعارة ما تراه يناسبها من المبادئ، وأقلمته مع طبيعتها التكوينية، وأسلوب اشتغالها.
مؤاخذات نقدية على أسلوبية جان كوهن
في مقابل تلك الإيجابيات التي حققتها أسلوبية كوهن، أو شعريته اللسانية البلاغية كما يحلو للبعض أن يسميها، أثبت النقد الحديث أن ثمة مجموعة من الهفوات التي وقع فيها كوهن، وهي هفوات لا تتجلى للعيان إلا لماما، فأول ما يؤاخذ عليه، أنه وإن توصل إلى نقطة مهمة وهي تجاوز استقلالية الانزياحات بعضها عن بعض، تلك الاستقلالية التي فرضتها البلاغة القديمة ليبني مكانها جدلية الانزياحات ، فإنه أهمل النظرة الشمولية للنص نفسه ، مما يؤكد عجز شعريته عن (تكوين معالجة مرضية لاستنباط القوانين المخترقة من الصور، ما دامت هذه الصور موزعة على المقاطع الشعرية كافة)، وعلى هامش هذه الملاحظة، يمكن التلميح إلى أن النص الشعري في حد ذاته يشكل انزياحا شموليا، يتضمن انزياحات جزئية، سواء أفي التركيب أم الدلالة أم الإيقاع أم غيرها. يقينا يبدو أن كوهن في تناوله للنصوص وتحليلها، اقتصر على جانب من بنيتها الكبرى، غير أنه لا ينبغي أن يتخذ هذا الاقتصار ذريعة بها ننقص من محاولته، أو نقلل من فاعلية مشروعه النقدي، مادام الإجراء يقتضي أن يكون التناول بهذه الصيغة، ومادامت الانزياحات الصغرى، التي تستنبط من تركيبة النص، ما هي إلا انزياحات أولية تتضافر، كي تقود القصيدة إلى انزياح شمولي، هو الذي يضع فيه كوهن الشعر منذ البدء، باعتباره ينحرف عن النثر، فغياب النظرة الشمولية على مستوى تحليل النص وارد، لكن على مستوى اشتغال الانزياح فهذا ما لا يمكن التسليم به.
وما يسترعي النظر كذلك، هو التباس مفهوم الانزياح رغم أن ثمة محاولات كثيفة رامت تحديده، فإن كان المعيار لم يعين بعد بنوع من الإجماع، لأنه ماتني تتباين بخصوصه الرؤى والطروح، فإن الانزياح نفسه، كما يستخلص جينيت، ما ينفك يتخلله الغموض، وهو يقول عن كوهن: (إنه لا يعرف الانزياح كما سبق وعرفه فونطانيي بمقابلته مع المعنى الحرفي، بل بمقابلته مع الاستعمال متجاهلا هذه الخصيصة الأساسية في البلاغة القديمة وهي أن الصور التي تبتكر خلال يوم واحد فقط من قبل العوام هي أكثر من تلك التي تبتكر خلال شهر من البحث الأكاديمي؛ وبمعنى آخر فإن الاستعمال مشبع بالانزياحات) ، وفي هذا دعم لما أوردته في الفصل الأول، عندما أكدت أن الشعر معيار نفسه، وأن الاستعمال لا يمكن أن يكون قانونا يمارس عليه النص خروقه وانحرافاته.
وفي موضع آخر، يستنتج جينيت أن كوهن (مرة يعتمد على صفة العدول ومرة أخرى على صفة التحويل، وهذا ما يسمح له بقبول استعارات المحدثين لأنها من صور الإبداع وإقصاء استعارات الكلاسيكيين لأنها من صور الاستعمال رغم أنها تتوفر على شرط المنافرة). هذه الملاحظة الثاقبة التي أثبتها جيرار جينيت، تدفع الباحث إلى إثارة قضية خطيرة، تعتبر، برأي الدارسين، الفجوة العميقة في مشروع كوهن النقدي، وتتعلق بالمراحل التي درسها في كتابه (بنية اللغة الشعرية)، وهي على التوالي: الكلاسيكية والرومانسية فالرمزية، والخطأ لا يأتي من هذا الاختيار الذي يظهر ملما ومحكما، وإنما من النماذج التي تعرض إليها في إطار هذا الاختيار الثلاثي، وإن كان يعتقد أنه غطى بذلك مدارس وحركات شعرية جد متنوعة، وتحمل، كذلك، أجناسا أدبية جد متنوعة فيها الغنائي والتراجيدي والملحمي والهزلي... إلخ، وبذلك كونَ متنا متجانسا بالقدر الذي يفيد البحث، ومتسعا بالقدر الذي يسمح بالاستقراء ، فإن هناك من يرى عكس ذلك، (فمن البديهي، حسب ما يذهب إليه جينيت، أولا أن تاريخ الشعر الفرنسي لا يتوقف عند (ملارمي). غير أننا نسلم دون مقاومة كبيرة أن عينة مأخوذة من شعر القرن العشرين لن تعمل إلا على تأكيد التقدم الذي كشف عنه كوهن في الشعر الرومانسي والرمزي) ، ويفهم من رأي جينيت أن الشعر الفرنسي لا يمكن إيقافه عند حدود الكلاسية، بل نجد قبلها تيارات شعرية عديدة كشعراء الباروك والتروبادور وغيرهما، أنتجت أشعارا لو أنه تناولها لتوصل إلى النتيجة نفسها التي توصل إليها من خلال اشتغاله على نماذج الكلاسيكية (كورني، راسين وموليير)).
ثم إن مقولة كوهن المتعلقة بأن الشعر يتطور مع مرور الأيام، وأن الإبداع الحقيقي يوجد في المستقبل، وإن بدا أن (كل فن ميال إلى الرجوع إلى أصله بطريقة من الطرق، باقترابه المتزايد من شكله الخاص الخالص) ، فإن الشعر صار (أكثر شاعرية مع تقدمه في التاريخ، وتبدو هذه الظاهرة قابلة للتعميم وقد تسمح بتعريف الحداثة الجمالية) ، وقد أضحت هذه الفكرة إحدى المقولات الرئيسة الموجهة لعمل كوهن، التي (تتمثل في افتراض يقضي بوجود اتجاه متصاعد للشعر الفرنسي، أي وجود نوع من التطور الحتمي للشكل الشعري. وهذا الافتراض يبرهن عليه كوهن في ب.ل.ش بواسطة الإحصائيات، إذ يجد أن كم الانزياحات... يرتفع من الكلاسيكية إلى الرمزية). غير أن جينيت يعارض هذا الطرح معتبرا أن هذا (المبدأ الأصغر) بإمكاننا أن نوجه له أقوى الاعتراضات إن لم نقابله بالرفض التام ، لا سيما وأنه (حينما يؤكد أن (الجمالية الكلاسيكية هي جمالية متنافية للشعر) فإنه يثير بعض الشك في موضوعية مشروعه).
إن ما يؤاخذ على كوهن بشدة، هو أنه في حكمه على الشعر الحقيقي بوصفه يتحقق كلما تقدمنا في تاريخنا، يستند إلى قانون الانزياح، الذي كلما استفحل في المنظومة الشعرية، كلما ارتفع منسوب الجمالية والجودة، لكن هذا القانون وحده غير كاف لتقييم التجربة الشعرية، مادام أنه لا يؤلف إلا جزءا من كل، فبهذا الموقف المتحيز يمكن لكوهن (توفير مسلمة تثير مشاكل منهاجية خطيرة إذ تقدم باعتبارها مسلمة أدبية وموضوعية، فهذه المسلمة تخلف انطباعا بكونها لم تدرج إلا لخدمة التحقيق المفتوح لمعاينة فكرة التقدم (يزداد انزياح الشعر أكثر فأكثر) في إقامة المبدأ الأساس (الانزياح وهو جوهر الشعر)). وقد يعثر على نصوص قديمة تتضمن انزياحات نسبية، إذا ما قارناها بنصوص حديثة تكتظ بالانحرافات، نلمس أنها، فنياً، تتفوق عليها، من هذا المنطلق فالانزياح ليس هو دوما جوهر الشعر، ربما قد يكون كذلك في القصيدة الحديثة، لكنه في إطار النص الشعري المجرد، ما هو إلا مكون من المكونات الأسلوبية لا يمنح الشعر الجمالية كلها، وإنما يهبه قسطا منها، وليس دائماً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.