قيادي حوثي يعاود السطو على أراضي مواطنين بالقوة في محافظة إب    مجلس القضاء الأعلى يقر إنشاء نيابتين نوعيتين في محافظتي تعز وحضرموت مميز    إنعقاد ورشة عمل حول مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب مميز    سر خسارة برشلونة لكل شيء.. 270 دقيقة تفسر الموسم الصفري    الدوري الانكليزي: خماسية صارخة لتشيلسي امام وست هام    الإصلاح بحضرموت يستقبل العزاء في وفاة أمين مكتبه بوادي حضرموت    بعد رحلة شاقة امتدت لأكثر من 11 ساعة..مركز الملك سلمان للإغاثة يتمكن من توزيع مساعدات إيوائية طارئة للمتضررين من السيول في مديرية المسيلة بمحافظة المهرة    تنفيذي الإصلاح بالمهرة يعقد اجتماعه الدوري ويطالب مؤسسات الدولة للقيام بدورها    تقرير يكشف عن توقيع اتفاقية بين شركة تقنية إسرائيلية والحكومة اليمنية    بخط النبي محمد وبصمة يده .. وثيقة تثير ضجة بعد العثور عليها في كنيسة سيناء (صور)    أمريكا تغدر بالامارات بعدم الرد أو الشجب على هجمات الحوثي    الوزير البكري يلتقي بنجم الكرة الطائرة الكابتن اسار جلال    ماذا يحدث داخل حرم جامعة صنعاء .. قرار صادم لرئيس الجامعة يثير سخط واسع !    الرئيس الزُبيدي ينعي المناضل الشيخ محسن بن فريد    عندما يبكي الكبير!    غدُ العرب في موتِ أمسهم: الاحتفاء بميلاد العواصم (أربيل/ عدن/ رام الله)    الحكومة تجدد دعمها لجهود ومساعي تحقيق السلام المبني على المرجعيات    حادث تصادم بين سيارة ودراجة نارية على متنها 4 أشخاص والكشف عن مصيرهم    نجوم كرة القدم والإعلام في مباراة تضامنية غداً بالكويت    اشتباكات بين مليشيا الحوثي خلال نبش مقبرة أثرية بحثًا عن الكنوز وسط اليمن    أطفال يتسببون في حريق مساكن نازحين في شبوة بعد أيام من حادثة مماثلة بمارب    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني في صنعاء وعدن    كارثة وشيكة في اليمن وحرمان الحكومة من نصف عائداتها.. صندوق النقد الدولي يدق ناقوس الخطر    ماذا يحدث في صفوف المليشيات؟؟ مصرع 200 حوثي أغلبهم ضباط    ثعلب يمني ذكي خدع الإمام الشافعي وكبار العلماء بطريقة ماكرة    قطوف مدهشة من روائع البلاغة القرآنية وجمال اللغة العربية    تفاصيل قرار الرئيس الزبيدي بالترقيات العسكرية    بعد خطاب الرئيس الزبيدي: على قيادة الانتقالي الطلب من السعودية توضيح بنود الفصل السابع    كيف تفكر العقلية اليمنية التآمرية في عهد الأئمة والثوار الأدوات    الحرب القادمة في اليمن: الصين ستدعم الحوثيين لإستنزاف واشنطن    المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    رسالة حوثية نارية لدولة عربية: صاروخ حوثي يسقط في دولة عربية و يهدد بجر المنطقة إلى حرب جديدة    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    صندوق النقد الدولي يحذر من تفاقم الوضع الهش في اليمن بفعل التوترات الإقليمية مميز    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية تسير وراء المعروف السائد والمعياري خارج الشرط التاريخي
قراءة في رواية (النهر.. بقمصان الشتاء) لحسن حميد
نشر في 14 أكتوبر يوم 21 - 05 - 2011

رواية (النهر.. بقمصان الشتاء)، هي الرواية الأولى التي أقرؤها لحسن حميد، واستغربت حين طالعت القائمة الملحقة للمؤلفات الصادرة له التي تزيد على عشر مجموعات قصصية وأربع روايات وثلاث دراسات، لأنني لم أكن قد سمعت بها، فأجريت بحثاً سريعا في بعض المكتبات العامة، ووجدت أن مؤلفاته دخلتها حديثاً، خاصة وأن ثلثيها صادرة عن اتحاد الكتاب العرب.
استعراض: العلامات الثلاث والرواية المحلية
هناك ثلاث مدارس فلسطينية رئيسية حددها د. فاروق وادي في كتابه (ثلاث علامات روائية)، الأمر الذي أزعج الكثيرين من الكتاب، خاصة النقاد منهم ودعاهم-في سبيل خلق أفضلية تحسب لهم، ما يعني صحة نظرة وادي- لمحاولة تأصيل (علامات متجددة) أو (متواصلة) جديدة.
غير أن الأخيرة لم تتأصل أو تستقل في رؤية جديدة، وإن تكاثرت الأعمال الروائية مؤخراً، وهي مدارس لأنها أثرت بشدة على الكتاب خاصة، ودفعتهم لتبني أساليب وأشكال وموضوعات بل وشخصيات معينة بما يشابه التقليد المحض الفاشل، فلا أحد حتى الآن -عشرات الأسماء على مدار نصف قرن ماض- استطاع تجاوز أسماءها، وهذه المدارس تستند إلى فنية الرواية بمعناها الشكلي-التجنيسي والأسلوبي والفكري، إلى شرطها التاريخي أيضاً، على تباين في الموضوعات والأداء والخصائص والإشكالات:
1. فمدرسة كنفاني (الفنية- الرمزية) التي أثرت على كتاب نصف القرن الماضي رواية وقصصاً بعشرات الأسماء، تنهض على فهم دقيق جداً للموضوع والشكل والأسلوب، وتكاد تكون، لولا بعض الأعمال غير المكتملة، مدرسة للرواية العربية القصيرة التي تستند إلى القص والاستثمار المكثّف جداً للمفردة والحدث والمبنى والموضوع الملتزم (دون أن تعول عليه)، ومعنى رمزيتها تعدد مستويات النص في إحالاته الواقعية، وواقعيته الفنية وتجريده الفكري، بالرغم من كون الرمزية شكلاً سرديا مطروقاً بكثرة وفشل من قبل.
2. مدرسة جبرا (الفنية- الفنية)، تنهض على عالمها الداخلي وتعكس في الأثناء محيطها دون فكرة الالتزام الموجودة لدى كنفاني، فإذا كانت شخصية الثوري هي شخصيات كنفاني على الأغلب، فشخصيات جبرا مثقفة والهموم بينهما مختلفة وإن تقاطعت، والشكل الروائي لدى جبرا أقرب للشكل الكلاسيكي الأوروبي وإن نوع فيه.
ماجد عاطف
3. والثالثة، (الفنية- الحكائية) التي مثلها إميل حبيبي باستناده الى المقامات أو المسرح البدائي كشكل، والسخرية كأسلوب ومضمون إلى شخصية مغايرة هي التبريري الذي قد يصل حدود الخيانة. والواقع أن قيمة حبيبي الأدبية/التاريخية تناقض تماماً قيمة كنفاني، فإذا كانت الثورة بعد النكبة/ النكسة رافعة غسان تاريخياً، فالزمن المنكسر ذاته هو رافعة نص حبيبي.
وفي رإيي أنها مدارس تمثّل الوسط والطرفين المتصارعين: كنفاني من جهة، وحبيبي من الجهة الأخرى، وبينهما يقف جبرا. لكنها كلها، بعد التجنيس والأسلوبية والشكل الفني.. الخ، امتثلت للشرط التاريخي الذي يزيد على الجغرافيا أو الزمن، ويطال البيئات الحضارية والأيديولوجيات ومختلف العلاقات المجتمعية. ونظرة متأملة في مجمل الأعمال، تظهر أن كنفاني طرق أغلب الأشكال والموضوعات والشخصيات والأساليب والأجناس، في حين لم يفعل ذلك زميلاه. وملاحظة أخرى تظهر أن كل المدارس السابقة كان لها موقف من الواقع، ولم تره قط أو تكتبه بوصفه مجموعة من الحكايات أو الشهادات أو التفاصيل أو المآسي أو البطولات. ولم تكتف ببطولته بل حاولت تأصيلها (كنفاني)، ولم تكتف ببؤسه بل طورته وبررته (حبيبي)، وحاولت إيجاد ملاذ شخصي منه (جبرا).
من النقطة السابقة، يمكن تفسير عشرات الأعمال الروائية التي لم تنجح لا فنياً ولا في تأصيل نفسها كمدرسة، لأنها استسلمت للواقع وحاولت تدوينه( تبريره) شعرنته (المحلية)، أو استنسخت مدارس أجنبية جاهزة (حداثة، نسوية) ويمثلها كتاب مقيمون في الداخل (امتنع عن التسمية) أو كاتبات، وعربية (متأثرة بنجيب محفوظ، مثلاً غريب عسقلاني) أو سريالية (زكريا محمد) على فقر شديد في الشكل الفني ومتعلّقاته، وبقيت في نطاق التدرب على الرواية. في حين انطوت أعمال قليلة تحت المدارس السابقة، كأعمال عزت الغزاوي أو أحمد حرب أو ليانا بدر (سردياتها القصيرة، أقوى بكثير من الطويلة) أو سحر خليفة، أو فيصل الحوراني أو عثمان أبو غربية أو صافي صافي وأسماء أخرى أخذت صدى أكثر مما تستحقه لأسباب مختلفة: علاقتها مع (الآخر) أو وطنية أو ليبرالية.
وصممت أعمال متواضعة جداً على وفق معايير نقدية أتى عليها الزمن، وكان كتابها نقاداً أصلاً.. (وليد أبو بكر، إبراهيم العلم.. الخ)، كما يمكن الإشارة بسرعة إلى نصوص فلسطينية (مقيمة خارج الأرض المحتلة) ارتكزت على أسماء أصحابها المعارضين، وتميل إلى السيرة أو الشهادة (ضخم صداها أيضاً: مثلا رشاد أبو شاور).
وأريد التوقّف قليلاً عند (المحلية) فلا أعني بها بعد كتابها الجغرافي، ولا مكان الأحداث أو زمنها، بل أكثر: اللغة وشكل الحكاية البدائي (الخريفية)، والمسكنة والعويل الوطني والتسجيلية والنظرة الدونية المضطربة للذات وترميز المرأة الساذج، وأشياء أخرى مشابهة.
مع ذلك لا بد من الإشارة إلى توجهات مدارس آخذة بالتبلور بقوّة ولو أنها تتكئ إلى حد ما على الموضوع القيمة السائدة، من ناحيتين مختلفتين:
- التاريخية، وهذه لها نماذجها المنجزة العربية والعالمية، وتمثلها فلسطينياً بعض أعمال أحمد رفيق عوض (على تقليدية في الشكل وعلّة في القيم المتبناة).
- مدرسة التفاصيل، ويمثلها روائي شاب أتردد في ذكره (لحداثة تجربته ولعدم وعيه بنصه بعد وقلة إصداراته، ولأن كتاباته لديها مشكلة مع الجنس الأدبي، والجنس، وأنساق اللغة العربية، والموضوع الواحد). لكن نصه يمتاز بمستويات من العفوية المدهشة (الطفولة بمعانٍ مختلفة: ذاكرة، فكر، حدة) وجمالية الصدق الذاتي الشديد وتعددية أشكاله المشهدية ما بين نص سردي مفتوح واستعراض مسرحي وسيناريو سينمائي، وكل ما سبق إرهاصات لشكل روائي جديد من الواضح أنه لا يستند إلى نمط معين، وربما أوصله موضوع مبتكر لشكل مبتكر، أو للفشل.
(النهر.. بقمصان الشتاء)
تلخيص الرواية لعرض خطها العام أمر صعب إذا اعتمدنا على المبنى أو الحبكة أو الموضوع. د. فيصل دراج اعتبر الرواية "من أعظم الحكايات الشفهية المتناثرة، وانتهت إلى حكاية كبيرة مكتوبة هي حكاية الفلسطينيين، بصيغة الجمع، الذين كان لهم مكان اختلس منهم وزمن دافئ (بدده) الغزو الصهيوني؛ أي على شكل السرد الظاهر وغايته؛ وأن الرواية تنبني على توالد حكائي ينتقل لزوماً من حكاية إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، مفضياً إلى زمن حكائي شاسع هو زمن الحكاية الفلسطينية المفتوحة على المستقبل، أي على الظاهر/ المبنى، ولكنه في الحقيقة كما نرى في الحالتين كان الموضوع، لأنه من الصعب فصل الشكل عن الموضوع.
فيما ركز الغلاف الخلفي على (حمام النساء) وطقوسهن فيه، ذلك الحمام الذي يتعرض، تاريخياً، إلى تفجير بالألغام والديناميت، وتكون كلمات الأغلفة مثيرة إعلانية/ تسويقية بالدرجة الأولى، ولكنها تعكس، أيضاً، المحتوى الأكثر جوهرية، على الأقل بالنسبة لناشري الكتاب: حمام نساء وتفجير الحمام، أي الموضوع الفلسطيني مجدداً.
يزيد التلخيص صعوبة تعدد الشخصيات الرئيسة، وتعدد الرواة، بالضمائر المختلفة، ولكن يمكن القول إن بؤرة الأحداث ومصائر الشخصيات وتقلبات الأزمنة ومسارب الشكل الحكائي، إضافة إلى الراوي الرئيس الذي يطل على كل ما سبق، هو الدير.
وأمكن أن يعد النص إضافة للرواية الفلسطينية، لو استطاع أن يقرأ الدير من الداخل كمجموعة من التفاعلات المتعددة: الدينية والاقتصادية والسياسية والحضارية والاجتماعية والنفسية، وهذا لعمري أفضل بؤرة يمكن بواسطتها ليس فقط كتابة رواية تبدأ حياتها في النص الثاني من القرن ما قبل الأخير للألفية المنصرمة، بل والإطلال كذلك على اخطر فترة عرفها تاريخنا الحديث في منطقتنا العربية: (عصر النهضة)، بإيحاءاتها الاستعمارية والتبشيرية والاختراقية.
ولكن الكاتب اختار طريقة تلقي ظلالا على بواعثها: حكايات ذات أصول واقعية، و(أسماء) يفترض أن لها وزناً مضموناً في بيئتها، ومواضيع ذات حساسية من حيث المأساوية والعاطفية والدينية ومواصفات (وطنية) أيضاً، ومن الطبيعي أن يكون الشكل لكل ما سبق، حكائياً.
إشكالات الشكل الحكائي في النص
وللشكل الحكائي مواصفات تراثية تعتمد على متعة الحدث، والتشويق، والإحالة الواضحة. لا يهم ما تحكيه، طالما هو جذّاب. إنها مواصفات خط يمضي، فيتوقّف ليتفرع جانبياً، ثم يعود إلى النقطة التي توقّف عندها ويستكمل خطه الأصلي وهكذا، وتكون كل حكاية مستقلة بنفسها، كما في ألف ليلة وليلة. وبترتيب الحكايات والقفزات الزمنية والحدثية، وبالتالي إعادة السرد المحيطي والعلائقي والمكاني والحدثي في كل مرة، على وفق راوٍ ثابت نسبياً، يمكن إقامة مبنى ناجح من الشكل الحكائي، سواء اعتمد على (المقامة) كما فعل إميل حبيبي، أو على شكل روائي متناسق كما فعل الكثير من الكتاب.
ونقطة ضعف الحكاية هي في زمنها ومكانها تحديداً، لأنها تتابع الحدث المشوق الممتع (المرتبط بعلاقات بين الشخوص) القابل للحدوث في أي مكان وزمان، وبالتالي تكون هناك صعوبات أخرى في كتابة نص مقيد بالزمان والمكان والملابسات التاريخية، ناهيك عن تلخيصه، دون وجود رابط مركزي ولو كان شكلياً أو مختلفاً، كالعاطفة. لكن العاطفة البشرية دفاعة على المستوى الفردي وفقط في سياق مشروط بخصوصيته، ولا تتحول إلى دافع جمعي لتحرك التاريخ أو تستقطب ثقله!
فالحب (أو وجهه الآخر: الكره، العقدة، الذنب)، لدى حسن حميد، محرك جوهري لجميع شخصياته دون استثناء، وهو يرى في المجتمع الفلسطيني مجتمعاً حبياً سواء في علاقات الرجال بالنساء، أو الشرائح ببعضها، أو الأديان، هذا المجتمع النموذجي الذي تعرض -فجأة- لضربة غزو مباغتة أتت عليه!!
وسبقه بتنفيذ شيء أكثر تخصصاً ووضوحاً جرجي زيدان في كل نصوصه، بجعل (الحب أو الغرام) حبكته ومبناه وحدثه الأساسي، الذي تنعقد حوله، بمصادفات عجيبة، الأحداث التاريخية!
كما نفذه أيضاً، بنجاح وذكاء كبيرين، أمين معلوف.
وإذا كانت الروايات- العلامات قد رأت الواقع بعين الرؤية فتعمقت في ماضيه وتصورت مستقبله، فهي قد فعلت ذلك بدقة وتبصر شديدين بحيث يمكن القول إن روايات كنفاني قد سبقت برامج سياسية بعقود وساهمت، دون قصد وجانبياً، في وضعها.
أما هنا، فرؤية الكاتب ليست (محلية) كشأن الكثير من الأعمال المتواضعة، وليست استبصارية، بل مفصلة بحسب (رؤية وطنية)، ترجمتها المشهدية والحدثية تبرز عناصر الشعار الخفي:
- كانت الحياة نموذجية قبل النكبة، والنسيج الاجتماعي متماسكاً لا غبار عليه (مشهد السوق الافتتاحي، ومشاهد كثيرة)، في حين كان ممزقاً بدلالة عدم قدرته على مواجهة النكبة ولو بالحد الأدنى من الوعي والقرار.
- كانت العلاقات الدينية البينية على أفضل ما تكون (الشيخ مصباحي، والأب عطايا)
- تمت المساواة بين أنماط من الحياة الاجتماعية مختلفة الديانة، وهو مر مستحيل، لأنه إما أن تقوم على الاختلاف وبالتالي تستبعد المساواة، أو التأثر وهو ما كان واقعاً. والتأثر هذا خضع للسلطة المسيطرة، فإذا كانت إسلامية (الإمبراطورية) جنحت الأنماط الاجتماعية نحوها، أو نحو غيرها إذا سيطرت (رعايا الدول ومؤسساتها وبذور الانتداب)، وهذا تحديداً ما كان يحدث في فلسطين ولبنان على وجه الخصوص من بين دول العالم العربي. في حين قدمت في الرواية على وفق شعار التسامح الديني.
- المرأة (لا حصر لأمثلتها على وفق شعار المرأة الحديث، التي تعي ذاتها المتينة.. الخ).
- استعارة مظاهر لم تحدث قط في فلسطيني، فقط لغايات تراثية: صراع الديوك، العربة، صاحبة الراهبات، تنكر الراهبات كرهبان.
- غياب التفاصيل غير المباشرة في العلاقة مع الآخر، التركي أو الإنجليزي أو اليهودي، واقتصار التفاصيل المباشرة على العلاقات الصدامية الدامية، في حين هذا تزييف في حق التاريخ لأن بناة (الكبانيات) كحال المستوطنات في الوقت المعاصر، كانوا عرباً، مثلما بيع الكثير من أرضها على أيد عربية بل كانت هناك علاقات متينة مع السلطة (الأتراك) وانعكس في مشاركة فعلية في المؤسسات (الانتداب) كما كان اليهود موجودين قبل النكبة فالهجرة بدأت مبكراً ونشأت علاقات.
- وحشية المحتل الذي لا يراعي حرمة النساء وهن في الحمام، بل ويفجرهن! (مسكنة)
وهناك ملاحظات على تفاصيل لا حصر لها يراد بها رسم حياة نموذجية بريئة تعرضت للهدم عند ضربة مفاجئة صارمة، ولا نقلل بالطبع من دور الاحتلال، ولكنه لم يك ليتجسد بهذه السهولة لولا إشكالات موجودة سلفاً طالت كل مظاهر الحياة، ولا يبررها التمسكن ولو بسبب الضعف، لأن للضعيف كرامة أيضاً.
على كل حال، غرضنا من الملاحظات هو إيراد أمثلة على الرؤية الجاهزة التي لا يبررها لا الحس الوطني ولا أي شيء آخر. وبالمقابل نجد غياباً لأهم دور اضطلع به (الدير) والكنائس عموماً: التعليم، وهذا نسيج اجتماعي، وتقاطعات حضارية، وتوغل سياسي/ اقتصادي (خاصة في مدن كبيت لحم والناصرة ورام الله)، وتشابكات حضارية وشخصية ونفسية.. الخ. وسبب الغياب هو ذاته: الرؤية الوطنية التي تبتعد عن مكمن الخلافات ولو كانت حقيقة واقعة، بغرض تحشيد القوى للحظة المعاصرة، فإذا صح هذا على السياسة لا يصح قطعاً على الأدب الذي يرى بنفاذ وأمانة.
وبالرغم من إشارات مباشرة وذكر لبعض المجازر التي تعرض لها شعبنا، إلا أن الرواية، إضافة إلى مشاكل الشكل الحكائي، لم تحقق شرطها التاريخي، لأنه ليس مجموعة من الأحداث المسرودة، بل صيرورة روائية.
ومما يلقي ظلالاً من الشك على بواعث الكتابة، الأمور التالية:
- كان تأثر حسن حميد بجرجي زيدان وأمين معلوف واضحاً في الإطار العام ومحركه الغرامي واستعراض الأحداث التاريخية بواسطة هذا الإطار.
- تأثره الواضح بحنا مينا، في أحداث المرفأ وشخصية المرأة ومنها (فتيحة).
- تأثره الواضح بنجيب محفوظ في نقل شخصيات شعبية تتمتع بخصوصية مصرية لا وجود لها في أي مكان آخر، لدرجة أنه اختلق شخصية أصلها تركي: شخصية صاحبة المقهى والأرجيلة والاختلاط.. الخ.
- التطابق الغريب بين أسماء الشخصيات وأدوارها في النص، فغطاس (غاطس) بين جمهور الرهبان، وعطايا (حكيم ومعطاء) والمصباحي (مصباح للناس) وذيب الأيوبي (ذئب) بشري، وهكذا.. وكأني بالمؤلف وضع مخططاً للشخصيات كيلا ينسى دورها قام بإسناده إلى الأسماء، ليستطيع التعامل معها. وكتابة بهذه الطريقة لا يمكنها أن تنتج شخصية روائية واحدة.
- نزعتها التراثية، ونزعتها الطقوسية اللتان تحولان السلوك أو المظهر الحياتي الأصيل العميق/ الديني إلى طقوس جمالية لذاتها.
- استعماله لاسم عباس بيضون، وهو على الأغلب جد الأديب عباس بيضون، على ما في الاستعمال من مراءاة وغزل فج، وليكن بعد ذلك الثائر الأول في الكون.
- لا علاقة لعنوان الرواية بأي مضمون فيها، مجرد اسم ليس وظيفياً.
موقع الرواية
فإذا صح قول د. فيصل دراج إن هذه أفضل روايات حسن حميد، أظن أن الحال سيكون أسوأ جداً مع ما سبقها. وهي ليست جديدة في مضمونها أو شكلها أو موضوعها أو نظرتها أو بنيتها، والمستحدث فيها ملفّق بالنظرة الوطنية أو منتزع من أعمال أخرى، ولغتها وظيفية دقيقة، لكن لا أثر للفكر في أسلوبها، بل لا أسلوب ناصعاً لها.
إنها رواية تسير وراء المعروف والسائد والمعياري وخارج الشرط التاريخي الحقيقي، محاولةً انتزاع التعاطف من القراء، وتندرج ضمن الخطوات الكثيرة المتواضعة التي ربما قد تسبق الخطوة الكبيرة.
(حسن حميد، النهر بقمصان الشتاء، الهيئة العامة للكتابة، 2005، رام الله. 294 صفحة قطع متوسط)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.