إن الملائكة بتكليف من السماء - دون غيرهم من المخلوقات - ملزمون بتسجيل كل شيئاً في هذا الكون من موجودات وما يحدث بينها من تحركات، إلا أن هناك صوتاً يغني لكل شيء دون أن يغفل شيئاً ، يعطي بمحض إرادته قيمة واعتباراً لكل موجود ومخلوق عاقل أو غير عاقل، يسجل أغاني لكل ومن هب ودب، يحتفظ بها أرشيف الفن، يتتبعها ويرددها المهتمون والمتذوقون. صوت مخملي يسافر بعيداً في أعماق الإنسانية، عذب ذو نكهة مميزة يضفي الطمأنينة على من يسمعه، يغني الفرح والحزن، ومن الميلاد إلى القيامة يرتل أجمل الترانيم في صلوات، ومن أجل الوطن المضطهد والمغتصب يصرخ بالحرية في وجه الاحتلال، وبمفعول السحر وبكل حب ينشر السلام، لذلك يسمى بال (صوت الملائكي). فيروز.. صوتها كان سبباً بأن تفند كملاك بين البشر، فيروز التي غنت لكل عناصر الطبيعة، الحيوان والطير والشمس والقمر والجبل والبحر وغيرها.. صلت وغنت الوطن بتفاصيله وبكل المعاني والكلمات، ربطته بعناصر الطبيعة بين السماء والأرض، فالوطن عندها حالات من الجمال البهي والحب الخالص. لقد أحبت كل شيء، لذلك لم تنسَ أن تغني لشيء، استحقت بجدارة أن تكون وطناً لكل من تغرب عنه، تواسي الشوق والحنين له، (أشعر أني مسئولة عن كل ما يتعلق بالأرض وبالوطن، إنه كله لي..) هكذا قالت فيروز. الأسماء(الأسامي) في أغاني وإسكتشات واستعراضات ومسرحيات فيروز، أخذت اهتماماً كبيراً منها، فقد تأثرت بها كثيراً، تعلقت معها بحكايات قديمة، نقلتها الست (الجدة) لها وعاشت بعضها. لحقت الأهمية بأسماء الشخصيات التي لعبتها فيروز بعمق من بساطة الحياة - حياة الضيعة(القرية) - من خلال مواضيع تميزت بالتنوع وسهولة الفكرة، فالإنسان لدى فيروز يرتبط ببيئته، يقترب منها بهدوء، يتعرف على الحيوان والطير والشجر والحجر وغيرها ليتفاعل معها، ومن جهة أخرى تؤكد فيروز أنه لا بد للإنسان أن يحكي تراثه لإيصال ثقافة وفلكلور شعبه للآخرين. (علياء، ريما، هالة، هيفاء، ماريا، زيون، وردة، شهرزاد، زنوبيا، لولو، شكيلا، وغيرها..) من أسماء الشخصيات التي أحبتها فيروز وتعلقت بها، وعز عليها فراقها بعد أن غنتها ومثلتها. في استعراض غنائي تغني فيروز بكل فخر (أنا زنوبيا.. ملكة المملكي النبيلي.. لأجل الحرية باختار الموت.. أعطوني كاس الموت..). كلهم بصوت واحد سهلوا ورحبوا بها، وقدموا أنفسهم بأنهم حراس بلدة (ميس الريم)، وسألوها.. - اسمك؟ - شغلك؟ - ضيعتك؟ - وشو بنقدر نخدمك ببلادنا (ميس الريم)؟! أجابت (زيون) بوقفة فيروزية كلها كرامة وثقة بالنفس ونظرة تأمل في أفق السماء.. - أنا اسمي (زيون).. عندي بالمدينة محل بيع صحون.. هندي.. صيني.. وستي من ضيعة (كحلون).. هذا ما حصل مع الصبية (الفتاة) التي تدعى (زيون) في آخر أيام الصيفية مع وصولها إلى ساحة (ميس الريم)، تعطلت العربية (السيارة) لتشكي لهم(هالسيارة مش عم تمشي.. بدي حدا يدفشها دفشة..) وتسأل عن ورشة تصليح سمعت عنها - في مشهد تمثيلي. لم يتأخر الأخوان الرحباني (عاصي ومنصور) والابن (زياد) وكل من تعامل مع فيروز بكتابة كلمات أغانيها، برصد وحشد أكبر عدد ممكن من أسماء الضيعات (القرى) وأسماء الريفيين التي انفرد بها لبنان دون غيره من الأوطان، صاغوا من أجل ذلك أجمل القصائد من أبسط الكلمات في عبارات سهلة التناول وبألحان بديعة تنافس رونق صوت فيروز الملائكي وتساير إحساسه/ها بالوطن. لقد حملت فيروز اسم (لبنان) معها بين حنايا صوتها وفي طيات أغانيها حيثما ذهبت ووقتما سمعت. لم يكن غناء فيروز لاسم الوطن (لبنان) مجرد غناء، فقط ولكن أيضاً كانت، تغني ذلك صراحة في رائعتها (ع اسمك غنيت.. ع اسمك رح غني.. ركعت وصليت.. والسماء تسمع مني..)، وسكر(أسكر باسمك مجد يا (لبنان)، ولون أخضر(لبنان.. يا أخضر حلو ع تلال..)، ولم تكن وطنية فيروز إقليمية ولم تتمثل في وطنها (لبنان) فقط، بل خرجت وسافرت إلى الأقطار العربية الأخرى، لتغني لها كما فعلت للبنان، فقد غنت لفلسطين، والقدس(بأيدينا لل (قدس) سلام آتٍ.. مريت بشوارع ال (قدس) العتيقة.. قدام الدكاكين اللي بقيت من (فلسطين)، والشام ومكة وبغداد وعمان والكويت وغيرها.. قبل أن تغني لبيروتولبنان، ولم تكتف بذلك، بل ربطت بين وطنها والأوطان الأخرى(فنحن (لبنان).. وكر النسر دارتنا و(الشام).. جارتنا يا جيرة الهمم..)، ورغم ذلك لم تنس يوماً وطنها، تغني (وملبك بالحب.. ملبك وتروح وترجع.. ع (بعلبك)، و(يا (عين الرمان).. يا ضيعة مسحورة بالمنتور الغويان مغمورة..)، و(ضيعتنا كان اسمها (بيسان).. خذوني إلى (بيسان)..)، و(يا ميناء الحبايب يا (بيروت).. يا شط اللي دايب يا (بيروت..)، وكفر غار ويافا وجبل الشيخ وغيرها..، تتحدى فيروز أن ينسى أحدهم وطنه وهي تغني(فيكن تنسوا صور حبايبكن.. لون الورد.. وورق رسايلكن.. فيكن تنسوا الخبز.. الكلام.. الأسامي.. الأيام.. والمجد اللي إلكن.. لكن شو ما صار؟!.. ما تنسوا وطنكن..)، بصوتها طاقة لتغني كل ضيعة واسم في لبنان، لتبقى رمزاً جميلاً للوطن في لبنان وخارجه. تحفظت فيروز في أغاني لها من ذكر بعض الأسماء، واكتفت بأن تشير لها ومواقع سلطتها، لأن تبعات السياسة حالت دون ذلك، تجنباً للملاحقة والمساءلة، وحتى تعمم تجربتها لتنطبق على مواقف ومشاهد مشابهة في أماكن أخرى، ففي أغنية (يا رئيس البلدية) تتساءل فيروز عن ذنبها(يا رئيس البلدية.. أنا شو ذنبي كل ساعة؟!.. تبعتلي البلويسية..)، وفي أغنية (يا مختار المخاتير) حكت الحكاية باختصار له(صار في خناق.. وصار في ناس.. كلهن شاهدوني.. وكركون.. وهيصة.. وحراس.. لعندك جابوني..)، وتهدد في ذات الكوبليه (تاري في محاكم.. في محكوم.. وحاكم..)، وتعود تستجلب تعاطفه معها وتستدعي ترفقه بها(شو كان بدي بها لتعتير؟!.. وبأخاف من الحبس كثير..)، وتناجيه بألم لينصفها (آآآآآآه يا مختار المخاتير!!). يتمتع اسم حبيب فيروز في أغانيها تارة بالخصوصية، فتسأل الناس أن لا يسألوها عن اسم حبيبها(لا تسألوني ما أسمه حبيبي؟.. فلن أبوح باسمه حبيبي؟!..)، واكتفت بحياكة اسمه على المنديل الذي بعثته له مع مرسال المراسيل (حيكتلو اسمه عليه..)، وطلبت منه بالرد أن يكتب أشعار واسمه على صورته(ع الورقة يكتب أشعاراً .. وأسمو على الصورة..)، وتارة تكتب اسمه ويكتب اسمها علناً (بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق.. تكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق..)، وأن عمر اسمه أطول من عمر اسمها بحلول الشتاء (بكرا بتشتي الدنيي ع القصص المجرحة.. يبقى اسمك يا حبيبي.. واسمي بينمحى..)، كما أن اسمها يهمسه (هيدا حبيبي.. اللي أسمي بيهمسو..) في أغنية (سلملي عليه)، وأوصت المرسال بأن يحمل سلامها له ويبوس عينيه، وقسمها ووعدها بكتابة اسمها وأشياء أخرى(أنا لأكتب عالقناطر أسمي.. وعمري.. ومن وين؟..)، حتى الملوك كان لهم طريقتهم بكتابة أسمائهم بأغانيها، في(ملوك المجوس) تغني(وأساميهن كتبوها فوق سيوفهن..). في أحد كوبليهات أغنية (رجعت العصفورة) تغني (بالدفاتر عندي أسامي غياب.. أصحابا تركوها صارت بلا أصحاب..)، وقبلاً بأغاني قد أحصت الأسماء واستمرت بالتدوين، حتى أسماء أولئك الذين غادروا الحياة(وأمين البواب.. اللي انقتل ع الباب..)، وفي (أنا عندي حنين) تغني (عديت الأسامي.. ومحيت الأسامي..)، فالأسماء لدى فيروز جمع وحصر، يتضح ذلك جليا في أغنية (أسامينا) التي نذرتها للأسماء (لملمنا أسامي.. أسامي عشاق..) و(صرنا نجمع أسامي..). تطرقت فيروز إلى أنه من الممكن أن يدرك النسيان الأسماء ليغيبها عنا أو يغفلنا إياها، ففي أغنية (يا دراة) تغني(يا دارة دوري فينا.. ظلي دوري فينا.. تاينسو أساميهن.. وننسى أسامينا..)، و(على دروب الهوى) قد يحصل وينسيها الهوى اسمها(والهوى يلوحنا مثل العناقيد.. حتى أسمي أنا نساني..)، وفي أقرب لقاء على مفرق أو في موقف نصير لا نعرف أسماء بعضنا، كما تغني في (نطرونا كثير) (نطرونا كثير.. عَ موقف (دارينا).. لا عرفنا اساميهون.. لا عرفوا اسامينا..). للأسماء في أغاني فيروز ذكرى، يتذكر بها الأهل التعب في البحث عن ذلك اللصيق الذي سننادي به طوال أعمارنا، في مطلع (أسامينا) تغني (اسامينا.. شو تعبو أهالينا؟.. تلاقوها.. وشو افتكروا فينا؟!..). كثيراً ما ارتبطت الأسماء بسهر ونوم العيون في أغاني فيروز، تُكمل المطلع السابق من الأغنية (عينينا هني أسامينا..)، (عديت الأسامي.. ومحيت الأسامي.. ونامي يا عينيي.. إذا راح فيكي تنامي؟!..)، وكذلك ارتبطت الأسماء بصلات مع الألوان والعيون وفصول السنة، ففي أول كوبليه من الأغنية السابقة (لا خضر الأسامي.. ولا لوزيات.. لا كحلي بحري.. ولا شتويات.. ولا لونن أزرق قديم ما بيعتق.. ولا سود وساع.. ولا عسليات..). قام مدير أحد المنتديات الاجتماعية العربية على الشبكة العنكبوتية بإنزال أغنية (أحب من الأسماء) لفيروز، مطلعها (أحب من الأسماء؟!.. ما شابه أسمها؟!..)، وبتعليق عليها من أحد الأعضاء الدائمين.. الأغنية رائعة، أنا اسمي (يارا)، أريد أغنية لاسمي. رد عليها عضو آخر بتعليق.. هناك أغنية لفيروز اسمها (يارا)، تغني فيها ((يارا) الجدايلها شقر.. اللي فيهن بيتمرجح عمر..). لم تكتف فيروز بالغناء لصغيرتها (ريما) أغنية حملت ذات الاسم، تحاول إقناعها بحنان الأم أن تستسلم للنوم (يلا تنام (ريما).. يلا يجيها النوم..)، وفي ذات الأغنية ذلك الهمس الملائكي (يلا تنام.. يلا تنام.. لَ دبحلا طير حمام..) الذي ما زالا تتلوه الأمهات والجدات على مسامع الأطفال حتى يخلدوا للنوم بسلام، باستبدال اسم (ريما) بأسماء أطفالهن، ولكنها غنت لطفل اسمه (شادي) - صديق طفولتها الذي كان يأتي من (الحراش) ليلعب ويغني معها، قتل دون حول ولا قوة منه في مواجهة مسلحة على أطراف الوادي، ظهر مرارة خسارة فيروز الطفلة لصديقها الطفل حينها في جملتها الغنائية(ومن يومتها ما عدت شفته.. ضاع (شادي)؟!..). تمكنت روح فيروز من أن تسكن عقول وقلوب الكبار والصغار، من خلال أجوائها الروحانية الحاضرة ونحن نستمع لها، لأن روحها سكنت أغانيها فعلًا، أحببناها كثيراً ولم نتردد أن نغني بعدها ككمبارس(تك.. تك.. تك.. يا أم (سليمان).. تك.. تك.. تك.. جوزك وين كان؟..)، و(يبقى (حنا) السكران قاعد حد الدكان.. عم يتذكر بنت الجيران..)، و(قمرة).. يا (قمرة).. لا تطلعي ع الشجرة.. والشجرة عالية.. وإنتي بعدك صغيرة..)، و((عبدو) حابب غندورة.. وغيرا ما بدو..)، و(يا (لورا).. حبك قد لوع الفؤاد.. وقد وهبتك الحب والوداد..)، و(عودك رنان.. رنة عودك إلي.. وعيدا كمان.. ظلك عيد يا (علي)..)، ورداً على عتاب أبو (صالح) بانقطاع السؤال عنه وقلة زيارتها له كان رد فيروز بعذر التعب(لا تغلط يا بو (صالح).. كنا تعبانين..)، تطمئن فيروز زوجة تنتظر زوجها عائدًا من جبهة الحرب(لا تخافي.. (سالم) غفيان مش بردان.. نايم ع تلة.. بتظل تصلي..)، و(يا خليلي.. ما مررنا بدار (زينب)..)، و(كتبولنا شروط الصلح نحنا والست (جورجيت)..). تنقيب فيروز عميقاً في الروح يشبه الصلاة، تشبع الروح حب الله والرسل وإيمان سرمدي بهم، فلم تنس قطعاً أن تكتب اسم (الله) في رأس مراسلاتها، وفي (استنيري) تُغني للأم العذراء (مريم) وابنها (المسيح) (وأنتِ يا نقية يا والدة الإله.. اطربي بقيامة ولدك..)، ولزيارة المسيح تغني (تلج.. تلج..) ( زائرنا (يسوع).. غنينا للزمان..)، ولاسم الأم الحبيبة تغني(ولأسم أمي الجميل لحن في القلب.. أحلى من النسيم..)، و(يا من حلا باسمها النداء..)، وفي (يا بني أمي) تعرفنا فيروز بالعلاقة الأصيلة بين الإنسان والوطن؟ (وطني هو الإنسان.. وطني (لبنان)..)، فهما واحد. في أغاني فيروز للطيور أسماء(بلبل، غراب، نسر، و..) وللورود أسماء(ياسمين، سوسن، زنبق، و..) وللفواكه أسماء(عنب، رمان، مشمش، و..). (نهاد) اسمها الحقيقي الذي أختاره لها والدها (حداد) و(فيروز) اسمها الفني الذي أطلقه عليها الملحن اللبناني (حليم الرومي). تتحدى فيروز في مناجاتها للحرية حين غنت (يا حرية) أولئك الذين طلعوا على الشمس.. على الضوء.. على الحرية.. بأن يغيروا أسماءهم ولون عيونهم.. غيرو اساميكن إذا فيكن؟!.. لونو عيونكم إذا فيكن؟!.. خبو حريتكم بجيابكم.. واهربو.. اهربوا.. عالضوء.. عالريح.. عالشمس.. عالبرد.. عبيادر مضوية ومنسية.. فالأسماء بالصوت الملائكي .. وطن.