القضاة ليسوا عبيدًا في مكتب أحد، والوظيفة القضائية لن تكون الوجه الآخر للعبودية    ضبط مصفاة نفط جديدة غير قانونية لمتنفذ يمني في خشعة حضرموت    الاعتراف بارض الصومال.. ما هي الأهداف الإسرائيلية الخمسة؟ ولماذا السعودية ومصر أبرز الخاسرين؟    قبائل ساقين في صعدة تؤكد الجاهزية لأي تصعيد    اكتشاف آثار حضارة متطورة في باكستان    ضربة بداية منافسات بطولة كأس العالم للشطرنج السريع والخاطف قطر 2025    الافراج عن اكبر دفعة سجناء بالحديدة تنفيذا لتوجيهات قائد الثورة    المبعوث الأممي يعلّق على أحداث محافظتي حضرموت والمهرة    اتحاد حضرموت بحافظ على صدارة المجموعة الثانية بدوري الدرجة الثانية    الصين: صناعة الذكاء الاصطناعي الأساسية تتجاوز 142 مليار دولار في عام 2025    أمن محافظة صنعاء يدشّن خطة البناء والتطوير    ندوات ووقفات نسائية في حجة بمناسبة عيد جمعة رجب    استجابة لدعوة انتقالي لحج: احتشاد نسوي كبير لحرائر الحوطة يطالب بإعلان دولة الجنوب العربي    مأرب تحتفي بتخريج 1301 حافظًا وحافظة في مهرجان العطاء القرآني    اجتماع برئاسة العلامة مفتاح يناقش آلية تطوير نشاط المركز الوطني لعلاج الحروق والتجميل    الدكتور العليمي يرحب برسالة وزير الدفاع السعودي ويؤكد أن المغامرات لا تخدم الجنوب    العليمي يجتمع بهيئة مستشاريه ويؤكد أن الدولة لن تسمح بفرض أمر واقع بالقوة    قراءة تحليلية لنص "لو تبلعني الارض" ل"أحمد سيف حاشد"    القيادة التنفيذية العُليا تناقش الجهود المبذولة لتأمين الخدمات للمواطنين ومراقبة أسعار الصرف    انتقالي حضرموت يقر إقامة مليونية كبرى بساحة الاعتصام المفتوح في المكلا    وزارة الإعلام تدشن خطة شاملة لإحياء شهر رجب وتعزيز الهوية الإيمانية    حملة أمنية تحرق مخيمات مهاجرين غير شرعيين على الحدود بصعدة    الرئيس يثمن الاستجابة العاجلة للتحالف من أجل حماية المدنيين في حضرموت    4 كوارث تنتظر برشلونة    الأرصاد يخفض التحذير إلى تنبيه ويتوقع تحسناً طفيفاً وتدريجياً في درجات الحرارة    ما علاقة ضوء الشمس بداء السكري.. نصيحة للمصابين    قرقاش يدعو إلى تغليب الحوار والحلول المتزنة كأساس للاستقرار الإقليمي    الدولار الأمريكي يترنح في أسوأ أداء أسبوعي منذ شهور    إنجاز 5 آلاف معاملة في أسبوع.. كيف سهلت شرطة المرور إجراءات المواطنين؟    خبير طقس يتوقع ارتفاع الرطوبة ويستبعد حدوث الصقيع    ترميم عدد من الشوارع المحيطة بشركة ( يو)    قمة أفريقية..تونس ضد نيجيريا اليوم    العطاس: نخب اليمن واللطميات المبالغ فيها بشأن حضرموت"    ترامب يلتقي زيلينسكي غدا في فلوريدا    المغرب يتعثر أمام مالي في كأس أمم إفريقيا 2025    لمن يريد تحرير صنعاء: الجنوب أتخذ قراره ولا تراجع عنه.. فدعوه وشأنه لتضمنوا دعمه    جُمعة رجب.. حين أشرق فجر اليمن الإيماني    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    ريال مدريد يدرس طلب تعويضات ضخمة من برشلونة    خلال يومين.. جمعية الصرافين بصنعاء تعمم بإعادة ووقف التعامل مع ثلاثة كيانات مصرفية    الصحفية والمذيعة الإعلامية القديرة زهور ناصر    كتاب جديد لعلوان الجيلاني يوثق سيرة أحد أعلام التصوف في اليمن    البنك المركزي بصنعاء يحذر من شركة وكيانات وهمية تمارس أنشطة احتيالية    صنعاء توجه بتخصيص باصات للنساء وسط انتقادات ورفض ناشطين    فقيد الوطن و الساحة الفنية الدكتور علوي عبدالله طاهر    لحج.. تخرج الدفعة الأولى من معلمي المعهد العالي للمعلمين بلبعوس.    صدور كتاب جديد يكشف تحولات اليمن الإقليمية بين التكامل والتبعية    ميسي يتربّع على قمة رياضيي القرن ال21    الأميّة المرورية.. خطر صامت يفتك بالطرق وأرواح الناس    المدير التنفيذي للجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بشير سنان يكرم الزملاء المصوّرين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية بطولات كبرى أُقيمت في دولة قطر عام 2025    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مرشد ناجي .. رحلة في ذاكرة الفنان والسياسي
صادح أغنية الثورة (أنا الشعب زلزلة عاتية)
نشر في 14 أكتوبر يوم 15 - 11 - 2012

أخذنا الحديث مع الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، وعاد بنا القهقرى إلى حقبة الزمن المزدهر في عدن، وتنهد المرشدي مراراً وهو يتذكر تلك المرحلة من تاريخنا، تحدث الرجل عن ازدهار الفن والأدب والثقافة والاقتصاد..حينذاك، وكيف كان الناس في عدن يتسابقون لحضور الحفلات الغنائية التي كان ينظمها الفنان محمد مرشد ناجي وأحمد قاسم، وأبوبكر سالم بلفقيه، ومحمد محسن العطروش، ومحمد سعد عبدالله، وخليل محمد خليل، ورجاء باسودان، والعزاني،وصباح منصر..إلخ، وقبلها الفنانون الكبار والرواد/عمر محفوظ غابة، والشيخ/علي أبو بكر باشراحيل، وألماس، والجراش، وسالم بامدهف، وباشامخة، ومحمد جمعة خان، وعوض المسلمي، والعازف المكي، والمنولوجست/فؤاد الشريف..إلخ، الذين ازدهر فن عدن بهم وازدهروا هم بفن عدن وبيئتها الحضرية والمدنية المنفتحة الرائدة في كل الجزيرة العربية.
حقبة الستينيات المزدهرة
تحدث فناننا ومضيفنا الكبير الفنان/محمد مرشد ناجي مطولاً عن حقبة الستينيات من القرن العشرين، وكيف كانت عدن حاضنة لكل من يقدم إليها من المناطق المحاذية للمدينة والتي أرتبط تاريخ عدن بها، كلحج وأبين وحضرموت، وشبوة، وبقية المناطق والمدن في الجزيرة العربية والمدن البعيدة، وقال أن عدن احتضنت أبناء عمان، ودول الخليج العربي ،وتعز، والحديدة، والصومال، والهند، وأثيوبيا، وجيبوتي..وغيرهم، وقدمت خيرها لكل من قصدها، وفتحت أبوابها لكل طالب رزق أو علم، أو أدب، أو قيم مدنية وحضارة وحرية وإنسانية.
سرد لنا المرشدي كيف شهدت عدن أبان الستينيات ريادة في حرية الرأي والتعبير والصحافة الحرة، وتشكيل التنظيمات والأحزاب السياسية، وازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق وسبقت دولاً كثيرة في جعل مينائها حراً أمام التجارة وحركة البضائع على مستوى العالم وبنيت فيها أكبر مصفاة للنفط في الإقليم، ما أدى إلى هجرة واسعة من مدن ومناطق متعددة إليها، وأبرزها هجرة أبناء تعز والحديدة، وصنعاء، للعمل فيها وكسب الرزق والتمتع بمدنيتها وتألقها المدني بكل ماتعنية الكلمة من دلالة وسلوك متقدم وإنساني راق بآفاقه الاجتماعية والثقافية والأدبية والفنية والسياسية والتجارية..الخ، وكذا هجرات من الهند والصومال والحبشة وجيبوتي وإرتيريا وعمان..وغيرها.
وجالت بنا ذاكرة المرشدي في تلك الحقبة إلى الإبداع المتفجر في كثير من المجالات بفعل البيئة المنفتحة والمدنية التي أتاحتها عدن لكل من قدم إليها، فأغاني تلك الحقبة لازالت الألسن تلهج بها ولازالت القلوب تجد في كلماتها تعبيراً صادقاً عن مايختلج بها من مشاعر وأحاسيس الحب والهيام، ولم تستطع العقود التي تلت ذاك العقد أن تأتي بأشعار أو أغان أو ألحان، مثلما جادت بها حقبة الستينيات من القرن العشرين، ولم يستطع الناس في عدن أن ينسوا حتى الآن أسماء أسعدتهم بالكلمة واللحن والأغنية والترنيمة الغائرة في الوجدان مثلما أسعدتهم أغاني محمد مرشد وعطروش وأبوبكر بلفقية، ومحمد سعد، وخليل محمد خليل، ومحمد جمعة خان..إلخ.
وواصل فناننا الكبير أبو هاشم ومسواط، عرض شريط ذكرياته وحدثنا عن مناكفات أهل السياسة في عدن في الستينيات ومستوى الديمقراطية الراقية التي كانت تمارس، ومناكفات الكُتاب والصحفيين والسياسيين في صحف الأيام وفتاة الجزيرة، والجنوب العربي، والذكرى، والنهضة، واليقظة..إلخ.
وتذكرنا معاً كيف كان المثقفون يناهضون الاستعمار البريطاني في الصحف وحتى في الإذاعة، وكيف تأثر الناس بالثورة المصرية وبجمال عبدالناصر الذي دعم ثورة 14 أكتوبر وفتح معسكراً للتدريب في تعز (في الجمهورية العربية اليمنية حينذاك، وبعد الإطاحة بالحكم الظلامي المتخلف للإمامة وزوال المملكة المتوكلية اليمنية)، لتدريب ثوار 14 أكتوبر، إضافة لتدريب عدد آخر منهم في جمهورية مصر، وقيام الزعيم العربي الخالد بإمداد الثوار بالسلاح من مصر، وخصص برامج كاملة ونشرات إخبارية عن ثورة 14 أكتوبر في إذاعة القاهرة، وإذاعة صوت العرب التي كان لها تأثير كبير على أهالي عدن ومناطق ومدن إتحاد الجنوب العربي وقتذاك، والمحميات الشرقية في شبوة والصعيد والمكلا وسيئون وتريم حتى المهرة.
دور الفن والثقافة
وتطرق في حديثه إلى دور الفن والمنولوج والشعر والأغنية في مساندة نضال الشعب ضد الاستعمار البريطاني..، وكيف كان الفنانون في عدن (وهو من أبرزهم) يسجلون أغانيهم الوطنية والحماسية سراً في عدة استوديوهات سرية بعدن (كأستوديو العزاني الشبواني بالمنصورة بعدن)، ثم يقومون بتوزيع أشرطة الأغاني والأسطوانات سراً ونشرها بين أوساط المجتمع، وأدت إلى استنهاض همم الشعب ومناضليه وشبابه الثائر وإشعال الحماسة في نفوسهم والتحريض ضد الاستعمار ووجوده..، مضيفاً أن الأغنية الوطنية أسهمت كذلك في بلورة أفكار وأهداف الثورة وفضح المستعمر ومخاطر بقائه في البلاد.
وعرج في حديثه المشوق مع الحضور إلى أحوال عدن في حقبة الستينيات ورحل بنا إلى أسواق كريتر وأذواق الناس حينها في اللبس، وإرتداء الناس للملابس الحديثة، فالرجال يلبسون القمصان (الشمزان)، والبنطلونات، ذات الماركات العالمية المشهورة حينها كماركة "فان زين" البريطانية، والأحذية الجلدية الفاخرة ماركة باتا، في حين ظهرت في عدن موضة ملابس الشنن للنساء التي غنى عنها الكثير من الفنانين الشعبيين، وماتلا ذلك من تأثر النساء في عدن بملابس الفساتين الأوروبية التي انتشرت كثيراً في المدينة آنذاك.
ووصف لنا كيف كانت عدن تعج بالبضائع والسلع والمواد الغذائية من مختلف أرجاء العالم، وكيف كان السياح يأتون إلى عدن للتبضع وشراء حاجياتهم وشراء الهدايا قبل مغادرتهم للمدينة..، وكيف أضحت المدينة حينذاك قبلة لكل من أراد أن يغير حياته ويريد أن يتنسم عبير المدنية والحضارة.
مناخ حرية الرأي
فقد عرفت عدن حرية العمل الحزبي والسياسي التي تجلت أبهى صورها في حقبة الستينيات من القرن الفارط، فظهر السياسيون وتياراتهم اليمينية واليسارية والدينية والقومية..، والاتحادية الفدرالية كنظام سياسي للمحميات الشرقية والغربية ومستعمرة عدن..الخ، وتعدد وجهات نظر السياسيين تجاه الوجود الاستعماري في الجنوب، فمنهم من طالب بخروج المستعمر بالعنف الثوري والنضال المسلح، ومنهم من أيد إستمرارية دولة إتحاد الجنوب العربي بعد رحيل الاستعمار البريطاني الذي أعلن أنه سيخرج من البلاد في يناير 1968م، ومنهم من رفع شعار النضال السلمي ضد المستعمر حتى جلائه.
وكشف فناننا القدير (المرشدي) بأنه ظهر حينها السياسيون الصادقون والمناضلون الحقيقيون مع قضيتهم بنيل الاستقلال عن المستعمر..، وظهر كذلك السياسيون الانتهازيون أو أولئك الذين يريدون ركوب قطار النضال الوطني والاستفادة من الهبة الشعبية العارمة ضد الوجود الاستعماري «وهي ظاهرة لازمت كل الحركات التحررية في العالم كله»..، مشيراً إلى أن ثورة الشعب في الجنوب لقيت مؤازرة كبيرة جداً من الزعيم المصري والثورة المصرية التي رفعت أعلامها وصور جمال عبدالناصر في كل المدن بعدن والمحميات الشرقية والغربية آنذاك، وفي كل المظاهرات المنددة بالمستعمر.
ويعود الفضل كل الفضل للشعب في عدن وفي المحميات في الجنوب آنذاك الذين ضحوا وناضلوا حتى نيل الاستقلال الوطني الناجز في 30 نوفمبر1967م، ورفع علم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في مقر الأمم المتحدة كدولة مستقلة تنظم للمجتمع الدولي، كما يجب الإعتراف بدور الثورة المصرية والزعيم جمال عبدالناصر في دعم الثورة منذ انطلاقتها في 14 أكتوبر1963م حتى تحقيق الاستقلال في 1967م.
مهد العمل النقابي
عدن كما يقول مضيفنا وفناننا الكبير أبو هاشم ومسواط كانت مهداً للعمل النقابي في الجزيرة العربية، ففيها تأسست أرقى وأقوى نقابات للعمال ومارست العمل النقابي المدافع عن العمال أكانوا من أهل عدن والمناطق المرتبطة بها تاريخياً وسياسياً أو من المناطق الأخرى التي وفد أبناؤها إليها كتعز والحديدة وصنعاء والصومال والهند وجيبوتي وإثيوبيا وعمان...
فنقابة العمال ناضلت لكي يتم إلغاء البطاقة الصفراء (بطاقة العامل الأجنبي) عن أبناء تعز والحديدة وإب صنعاء، ونقابة العمال ناضلت ضد الاستعمار وطالبت بالاستقلال، وتبنت وجهة النظر المضادة للمجلس التشريعي (البرلمان)، وهي أول من رفع شعار الوحدة العربية، ومنها خرج أول من نادى بالوحدة اليمنية لأول مرة في التاريخ وهو النقابي محمد عبده نعمان (أسس بعد ذلك مع المناضل الكبير عمر الجاوي السقاف، حزب التجمع الوحدوي اليمني في عام 1990م)، رغم أن حركة الأحرار اليمنيين التي لجأت إلى عدن لم ترفع شعار الوحدة ولم تتحدث عن الوحدة اليمنية مطلقاً وكان نضالها يقوم على إسقاط أو إصلاح حكم الإمامة في المملكة المتوكلية اليمنية فقط.
ففي مدينة عدن وجدت حركة الأحرار اليمنيين كما هي بقية الحركات الثورية العربية والإقليمية الأخرى البيئة الحضارية والمجتمع المدني والوعي الإنساني الراقي الذي قبل وآزر وأحتضن الجميع، واستوعب العرب والأفارقة والهنود دون تمييز أو انتقاص أو إستعلاء..، وأستطاع كل من يلوذ إلى عدن أن يحصل على المأوى الآمن والقبول الكريم والدعم المادي والسياسي من أهل عدن.
ذكر فناننا الكبير المرشدي دور السياسي الكبير وأبو الأحرار والمناضلين/محمد علي الجفري في النضال الوطني ضد الاستعمار وفي تأسيس أول حزب سياسي في الجزيرة العربية (رابطة أبناء الجنوب العربي)، وكذا دور السياسي والنقابي المخضرم/عبدالله الأصنج وكثير من وجهاء وتجار عدن الذين قدموا الدعم المادي السخي لحركة الأحرار اليمنيين ورموزهم (النعمان، الزبيري، العمري، العيني،..إلخ)، ووفروا لهم كل مايحتاجونه ليقضوا مدة وجودهم في مدينة عدن (حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين)، بيسر وأمان وكرامة وفتحوا لهم صحفهم ليسطروا مايريدون أن يكتبوه والمنابر والمنتديات لقول كل مايحلو لهم، وللتعبير عن معارضتهم لحكم الإمامة في المملكة المتوكلية اليمنية حينذاك، - رغم إنهم لم يتطرقوا مطلقاً للاستعمار البريطاني في عدن أو للوحدة بين الدولتين القائمتين وقتذاك «إتحاد الجنوب العربي»، و «المملكة المتوكلية اليمنية» - «وتؤكد ذلك صحيفتهم التي أصدروها بعدن».
تاريخ الأغنية والفن
تذكر الفنان المرشدي في حديثه معنا عن جزء من حياته كمؤرخ للفن ولتاريخ الأغنية واستعرض لنا عددا من المؤلفات التي كتبها ونشرها ككتاب (أغنيات شعبية) و(الغناء اليمني ومشاهيره), و(صفحات من الذكريات) و(أغنيات وحكايات)، ومنها قيد النشر ككتابه الأخير الذي عرضه علينا في مجلسه والذي دون فيه كل الأغاني التي غناها طوال حياته.
وبين المرشدي غنى (وأصالة) تراث عدن الغنائي وتأثره وتأثيره بالألوان الغنائية والموسيقية الأساسية والأصيلة في الجزيرة العربية كاللون الغنائي والفني والموسيقي اللحجي والحضرمي واليافعي والشبواني..، التي ازدهرت وانتشرت في ظل عدم وجود ملامح لأي لون غنائي آخر في الجزيرة العربية..، فمثلاً كان الغناء والموسيقى محرملتي في صنعاء حتى عام 1962م.
وعلى ذكر الفن والغناء الذي كان الحديث عنهما هو الغالب في لقائنا هذا طلبنا من فناننا المرشدي أن يرينا ويسمعنا شيئاً من مكنونه الفني النادر، فما كان منه إلا أن طلب من أبنه هاشم أن يفتح الدولاب الخاص بحفظ الأشرطة والأسطوانات الممغنطة (سيديهات) ويشغل جهازي الفيديو والتلفاز ليرينا ويسمعنا نفائس من هويتنا الفنية، فما كان من الجميع إلا الصمت المطبق والاستغراق في حالة عاطفية من المشاعر الإنسانية السامية والاستمتاع بالصوت الهادر واللحن الحالم المنساب من جهاز التلفاز، وقد كانت المفاجأة إذ إننا استمعنا إلى أغان لم تذع من قبل رغم أن الفنان المرشدي غناها قبل نحو خمس وعشرين سنة مضت، وكان الاندهاش الأكبر أن وسائل الإعلام المحلية (المسموعة والمرئية)، لم تقم ببث هذه الأغاني رغم تأكيد الفنان المرشدي بأنها موجودة في مكتبة تلفزيون عدن الفضائي، وإذاعة عدن..، وبدورنا نسأل عن أسباب عدم بث هذه الأغاني في وسائلنا الإعلامية رغم إنها أغان وطنية خالصة ولاتنتمي إلى أي تيار أو فكر سياسي بعينه.
أغان لاتزال بالأرشيف
وكان بالإمكان أن يؤدي بث أغاني الفنان المرشدي المحجوبة عن محبيه حتى الآن في إرشيف تلفزيون وإذاعة عدن، إلى تعريف عشاق المرشدي على جانب من أغانيه التي تميزت بطابع خاص وهوية متميزة مزجت الفكلور الغنائي من مختلف مناطق البلاد في قالب فني غنائي متفرد جمعت بين التراث والأصالة والمعاصرة التي أضفت اللحن والأداء الجديد لها، مع احتفاظها بروحها القديمة والأصيلة.
فمن منا لايطرب عندما يستمع إلى كلمات فلكلور محافظة أبين (علمسيري على أمسيري، ألا بسم الله الرحمن..، ياهلا بك وباهلش وبالجمل ذي رحل بش)، والأغاني الفلكلورية الجميلة مثل: ليه يا بوي، يا عيدوه.. يا عيدوه، يا غارة الله، يا حبايب، لاوين أنا لاوين، بانجناه، يا بوي أنا شي لله وغيرها من الأعمال العظيمة.
وكما يؤكد الباحث والناقد الفني عصام خليدي قدرة المرشدي وتعامله مع أغلب المقامات الموسيقية الشرقية العربية واستخدامها في أعماله منها: السيكا، النهوند، البيات، الراست، الهزام، الحجاز، والحجاز كاركورد، وغيرها من المقامات الأخرى، مما يجعله من أبرز الفنانين في بلادنا وأحد مداميك «الغناء التجديدي الحديث»، الذي قدم الموروث والفلكلور الغنائي بكل ألوانه وإيقاعاته المختلفة والمتعددة بأسلوب جميل ومؤثر. وبرؤى ومعالجة فنية حديثة جعله يحتفظ بأصالته وهويته في قالب جديد.
ذاكرة الفن المهملة
ودون شك فان إعادة بث أغاني الفنان المرشدي المحجوبة سيعبر أيضاً عن شيء من العرفان والتقدير من المجتمع للرجل ولدوره الثقافي والفني والوطني ولتطويره للتراث الغنائي وإبرازه لردح طويل من الزمن، إلى أن ألم تعب سني العمر بفناننا الجميل ومنعه عن القيام بأي نشاط غنائي منذ أعوام، واستقرّ في بيته، يتابع أخبار الناس والعالم على شاشة التلفزيون، ويحاول أن يدون شيئا من هويتنا الفنية متى ماأستطاعت أنامله أن تخط كلمة أو سطراً في كتاب حياته الزاخرة إن شاء الله.
إن ذاكرة الفنان المرشدي تعد مستودعاً ضخما يصعب في لقاء واحد التجوال في كل أروقتها أو التعرف على كل مكنوناتها، والأمر دون شك ينبغي أن تضطلع به مؤسسات بحثية لاستخراج ماتختزنه ذاكرة الرجل، ولعل صفة التوثيق وحفظ التراث والتاريخ ميزة غير موجودة لدى الجهات المعنية في بلادنا..!، فهل يعقل أن تغفل كل مؤسسات التوثيق ووسائل الإعلام المختلفة عن الالتقاء بالمرشدي ومحاورته واستخراج كل مخزونه عن الأحداث والوقائع التي عاصرها طوال ثلاثة وثمانين عاماً هي سنوات عمره المديد بإذن الله.
إننا نوجه دعوة عاجلة للمؤسسات البحثية، وإلى قناة عدن الفضائية، وإلى مراكز البحوث في البلاد إلى القيام بدورها في الحفاظ على تاريخ الأمة وتوثيق كل ماتحتويه ذاكرة من عاصر أحداث أمتنا بمختلف جوانبها، كي لايضيع جزء مهم من تاريخها في غياهب اللامبالاة والإهمال، وحتى لايأتي يوم نلوم أنفسنا بأننا لم نستغل شخصيات مهمة أسهمت في مرحلة مهمة من تاريخنا غير المكتوب حتى الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.