الماء المنهمر من سماءٍ سوداء ما إن يلامس الارض حتى يتخذ ملامح السبخة المشوبة بالطين تصاعدات الطين التي تذعن لطرق زخات المطر تبدو مخيفة تتشكل بهلامية وتنزاح يمنةً ويسرة ، على صغرها كان يراها كمخلوقات غريبة تزجره بنظرات تحمل أسئلة مرعبة فوق احتمالات شعوره بالسكينة والأمان طالما أن : المطر / البرد / الطين ...ثالوث يغتصب ذلك الشعور. يزحف كبقية ليل يتكئ على جذع بلوط مهمل غير آبهٍ بذلك الثالوث يبحث في محيطه عن لا شيء !! فهو لا يدري عما يبحث .. ثمة قوة ما تجبره على البحث في محيطه على يمينه بقعة اختفت منها تشكلات الطين الهلامية رغم سقوطها تحت ذات الوابل من المطر يزحف نحوها يزيح الطين بيديه بهستيريا ثمة جثة بدأت تظهر أجزاؤها يتجه إلى موضع رأس الجثة ينبش .. يزيل الطين يحفن بعض الماء النظيف يغسل الوجه المختفي تحت تموهات الطين ليتعرف أو ليحاول أن يتعرف على هوية صاحب الجثة .. تتضح المعالم شيئا فشيئا ليكتشف أنها : جثته هو يهرب إلى الجذع هلعاً !!! يستجمع شجاعته يعود إلى الجثة فلا يجدها فيتساءل من الذي هرب إلى الجذع هلعاً ؟!! القراءة: الفضاء الأول الذي نستقبل فيه النص هو فضاء الموت ( جثة ) عبر استهلالية يفتحنا عليها العنوان ( كابوس) منذ البداية نحن في فضاء من زاوية رؤية أخرى لا تنتمي إلى مادية الشيء إنها ( تنتمي إلى عالم الحلم) كابوس والكابوس يقطن هذا الفضاء اللامادي غير المحسوس إلا في صورة الذهن الذي تنحى عن الوعي بالأشياء . ولكن هذا الكابوس ينفلت من قبضة الحلم، ويمترس حضوره بالقوة وبالفعل على أرضية الواقع. نقرأ: (الماء المنهمر من سماءٍ سوداء ما إن يلامس الارض حتى يتخذ ملامح السبخة المشوبة بالطين ) مفردة (جثة) إذن ستؤثث الخط التصاعدي لنسق ( البناء) بناء عمارة الحكي ويعلن العنوان المدخل المريب القاتم ، الذي يفتحنا على أفق ثقيل ويشي بالكثير يهيئنا العنوان ( كابوس) لاستقبال (الجثة ) ولذلك سطرناه بداية فاتحة استقبال وتهيئة لما سيحدث، والمفردة اللغوية المعجمية في هذه القصة مولدة للمعنى، فحين يكون الماء وليد السواد ، فلابد للنهايات أن تكون موتا. نقرأ: تصاعدات الطين التي تذعن لطرق زخات المطر ، تبدو مخيفة تتشكل بهلامية إن الطين يقتات على سوادية الماء المنهمر وفي تضاد يؤسس معادلة التسلسل الجميل بناء في هذه العمارة ، فالماء يغدو قاتلا ...والماء في الأصل والمألوف والمعروف ، والذي يجب أن يكون الماء مولداً للحياة { وجعلنا من الماء كل شيء حي } قرآن كريم إذن كيف يمتحي من غير أصله ؟؟ كيف يمحو نفس الحياة ويناصر الموت؟؟ ذكرني هذا بقصيد السياب أنشودة المطر : أتعلمين أي حزنٍ يبعث المطر؟ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟ بلا انتهاء- كالدم المراق، كالجياع كالحب كالأطفال كالموتى المطر حزن وماؤه لا يبعث حياة لذلك نجد الرواي - المتحدث في ضمير القصة (كابوس) لا يحتمل موجة الأسئلة التي تشحنها في قلبه الصغير تلك السحابات لزخات مطر مخيفة.. من حقه أن يخاف هذا المطر ، الذي ينهمر من سماء سوداء ، ومن حق الفؤاد أن لا يأتزر بفرح فالمطر لا ينتمي إلى المطر الذي تنجبه السناء السابعة.. (فؤاد لا تسليه مدام) نلاحظ تدوير الفكرة بشكل رائع هنا ، حيث سنعود كثيرا إلى بداية الحلقة ، حلقة البناء والبداية. تتسع الفكرة وتمشي بنا عمقا ثم تعود لتربط أو لنقل بدقة أكثر : تمتح من جوانيات وعمق هذا الماء ف تؤسس للنهاية ( فن القصة القصيرة ، يحتاج إلى قدر كبير من التأمل والتركيز) محمد خضير إذا كان الشعراء يشربون ويتنفسون الشعر ، فإن الكتابة مع المبدع الزياد في فضاء السرد هنا ، تجعل المتلقي يتنفسها من كل الزوايا وعبر كل النوافذ. و نتساءل هل الخوف هو هروب سلبي من واقع معاش تؤسسه لغة ماء سوداء؟ أم مساءلة الذات التي تختار النهاية الموشومة بالردى ؟ أم هو انفصال عن ا الواقع لأجل حياة أفضل وأحسن؟؟ ربما.. فتيمة الموت هنا موظفة بشكل يعطي بطاقة تحرير للذات نفسها ، من قيود يسطرها هذا الكابوس ، ويحفر بها خريطة غريبة للأرض والإنسان تيمة الموت هنا تسائل الحياة. نقرأ: {يزحف كبقية ليل يتكئ على جذع بلوط مهمل غير آبهٍ بذلك الثالوث يبحث في محيطه عن لا شيء !! فهو لا يدري عما يبحث } تجيب القصة على التساؤل السابق بأنه ليس هروبا بل مواجهة لان العدمية الأبيقورية التي تنتهجها الجثة ، كمدخل للنهايات وكعنصر مفاجأة غير محبب للذات ، تميتها المركزية ( الواقع ) ولذلك وجب مواجهته هذا الواقع {{ عندما تكون الحقيقة عاجزة إلى درجة لا تستطيع معها الدفاع عن النفس فان عليها أن تتحول إلى الهجوم }} بريخت والهجوم هنا المواجهة إننا ننفصل عن الذات * أنا * الضمير المتحدث في خطاب الحكاية ونتوحد في البراني نقرأ: {ثمة قوة ما تجبره على البحث في محيطه} هذه القوة تنتقل إلينا نحن المتلقي فنبحث عما تخفيه أسرار هذا المحيط المبتل بالوشم الأسود * ماء منهمر من سماء سوداء* { تتضمن شهوة الكتابة رفضا للحياة } سارتر فهل هذا الرفض هو ما أسس حقيقة الحكاية وارتماء الذات في ظلمة النهايات؟؟ أم الكابوس يحذر من عدم المواجهة ؟ أم هو السبيل الوحيد للانعتاق من أرضية تبللها زخات مطر لا تنتج؟؟ كل هذه الأسئلة مفتوحة على قراءات أخرى ربما تكون أغنى من لحظتي هاته لغة قوية ومشبعة بالدلالات قصة ( تحترق بالأسئلة ) من خلال السهل الممتنع ففي تقنية البناء هنا نجد السهل الممتنع ،وهذا السهل الممتنع ( يشم ولا يدرك ) نحسه قريبا في البناء وسهلا ، لكنه عميق حين نتمفصل في شرايين الحكاية.. حيث تأخذ لعبة السرد والكتابة ، تأخذ عمقها وشرعيتها وتحقق القصة القصيرة ما أشار إليه محمد خضيري في ما ذكرته سابقا وهو النحت القصة هنا منحوتة بجدية وبرزانة فالخطاب مع مبدعنا الزياد ينتهج أفقاً واسعاً للقراءات وتداخلها مع عملية الإبداع( لحظة المخاض/ فيجعل المتلقي مسهما في هذه العملية وبالتالي منتجا معه) رائع جداً هذا الأفق الذي يتخلى عن أنانية الكاتب إنها قصة ( معجونة بطينة الواقع وطينة الذات وطينة اللغة )