في الدورة الثالثة لمجلس شورى -اللجنة المركزية- للتجمع اليمني للاصلاح خصصت احدى الجلسات لمناقشة الخطاب الاعلامي للحزب، وبعد أكثر من خمس ساعات النقاش أكتشف الجميع أن كل واحد منا يناقش الأمر من خلال تجربته الذاتية وفكره الشخصي. فكان أن عدنا اليوم الثاني للبرنامج السياسي للاصلاح لنقرأ ما يتعلق بالاعلام ليس باعتبار ذلك نصاً مقدسا ولكن باعتباره الحد الأدنى من الأفكار التي نالت الاجماع من ثم صارت الأرضية التي تجمعنا كمجموعة سياسية ذات أسس نظرية. وحين اتصل بي ملتقى المرأة للدراسات والتدريب مقترحاً الحديث عن السياسة الاعلامية تذكرت تجربة مجلس شورى الاصلاح، قبل أن أتذكر –وكلها ذكرى- السياسة الاعلامية للجمهورية اليمنية التي صدرها الأستاذ عبد الرحمن الأكوع حين كان وزيراً للاعلام في ايلول/ ديسمبر 1995م. ولأني أعرف أننا في الاصلاح قد عدنا للنسيان، فقد فضلت البحث لدى المؤسسات الرسمية المفترض أنها معنية بتلك السياسة التي صدرت في كتيب من 60 صفة بقرار من مجلس الوزراء متضمنا(تكليف وزير الاعلام اتخاذ ما يلزم لتنفيذها). وقد كانت الحصيلة أحد اثنين: 1 - جهات تتذكر أن هناك شيئا من هذا القبيل!! سياسة اعلامية رسمية. 2 - غالبية لا تعلم عن الأمر شيئاً. تتكون السياسة المشار اليها من الأسس والمنظومات التالية:- 1 - الشريعة الاسلامية. 2 - الوحدة الوطنية. 3 - أهداف ومبادئ الثورة اليمنية. 4 - الدستور. وقد يحق لنا الاستغراب من تنظير رسمي يجعل الدستور آخر سلم المنطلقات السياسية الاعلامية، غير أني سأتجاوز الأمر هنا، وسأدرك أن اعتبار الشريعة الاسلامية شيئا منفصلا عن الدستور، ثم الوحدة والثورة كقضايا منفصلة أيضاً عن الدستور والشريعة كلها جاءت تحت تأثير حرب 1994م وما سبقها من جدل حول اسلامية الدستور. وأرجوا القفز على هذه القضية التي ليست مجال نقاشنا اليوم. المنطلقات الأربعة عموماً - وليس منها الديمقراطية وحقوق الانسان والمواطنة- يمكن اعتبارها منطلقات يمكن البناء عليها لتحقيق يمن ديمقراطي يحكمه القانون وتتحقق فيه المساواة. فالوحدة لا يمكن لها أن تصبح سندا تنمويا الا حين يجد أبناؤها نظاماً ديمقراطياً وعدلا حقوقياً. وقد تضمنت مقدمة السياسة الاشارة الى أنه لابد أن يكون(العمل الاعلامي اليومي عاملاً مساعداً لكل أبناء الشعب ليتحملوا مسؤولياتهم في بناء الوطن وتنمية قدراتهم للتعامل مع حقائق الحياة وتطوراتها من أجل التغيير المنشود في وطن الوحدة). مؤكدة أن(على الأجهزة الاعلامية كافة أن تضع خططاً تفصيلية لمضامين هذه السياسة وأساليب عمل تتناسب وطبيعة عملها... لتحقيق رسالة الاعلام التي لابد أن ترقى الى مستوى التحديات الحضارية التي تواجهنا وبما يؤكد ازدهار الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ويشجع الممارسة المسؤولية وبما يضمن تدفق المعلومات). وتضمنت الاستراتيجية التي يفترض أنها تمثل أرضية للعمل الاعلامي في اليمن 14 بنداً. تتحدث عن الالتزام بحرية التعبير والرأي العام، وتدفق المعلومة باعتباره حقا من حقوق المواطنة، وتجنب صيغ المبالغات الانشائية. ولها أيضاً 42 هدفاً، مع تفصيلات أضافية بشأن ترسيخ الممارسة الديمقراطية، والجوانب الاقتصادية وفصل خاص ب(مواكبة عملية أعادة بناء القوات المسلحة والأمن) ثم البرامج التربوية، الثقافية، السياسية، والسكان والبيئة، والأوقاف والارشاد والاعلام الخارجي. وفي الحقيقة فان السياسة المشار اليها تضمنت أفكاراً قد تكون مكتملة، وقد يمكن ملاحظة تناقض في بعض جزئياتها، لكنها من حيث المبدأ تمثل أرضية مهمة للأداء الاعلامي الرسمي أو الذي يمول من الخزينة العامة، والموازنة العامة للدولة. والسؤال هو ماذا حدث لهذه السياسة منذ صدرت قبل أقل من عقد من الزمان بأشهر؟!. واسمحوا لي هنا أن أعتقد أن الصحفيين وبخاصة في الصحافة المعارضة والمستقلة –مؤخرا- قد تجاوزا هذه السياسة بل ورموا بها عرض الحائط، وتجاوزوا ما يمكن اعتباره ثوابت في العرف الاجتماعي والارث التربوي اليمني –بغض النظر عن صحته من عدمه-، وميدان القوى الذي تحكمه قوة السلطة. لكنهم لم يفعلوا ذلك الا حين أسقطت السلطة اليمنية وكل أجهزتها التي لها علاقة بالاعلام من وزارة الاعلام الى الأمن السياسي والقومي ووحدات الاعلام في الوزارات المختلفة. فمنذ عام اصدار السياسة الاعلامية بدا مؤشر الأداء –قياسا على محددات السياسة المذكورة- يتدنى الى الحد الذي أصبحت سلطتنا وأجهزتها مهووسة باستثمار الصورة التي خطفت أبصار العالم عشية انتخابات 1993م، ومؤتمر الديمقراطيات الناشئة في 1999عن واحة الديمقراطية التي بدأ اليمنيون يشيدونها في أطراف الجزيرة العربية. أقول استثمارها لتحويل الديمقراطية الى قيود تمنع المجتمع من استثمار هذه الديمقراطية في حماية مشاركتهم في بناء بلدهم. وتحويلها الى عمل دعائي يستخدم التغيير من أجل كبح جماحه واقعيا. ومن ثم وباستثناء الدور الذي لعبته صحيفة الثقافية التي انفتحت على الساحة التي تصنف شخصياتها بالمعارضة فقط لأنها ليست ضمن الجهاز التنفيذي للدولة- فقد كاد الاعلام اليمني يتحول الى نسخة في حالة أسوأ من كل الصحافة في الدول غير الديمقراطية عربيا. علما بأن الاعلام اليمني متخلف في المعطيات التقنية، وليس له سبق الا في انفتاحه السياسي فان زيد او أغلق هذا الانفتاح فلن يكون حينها له أي ميزة وسط محيط متخلف سياسيا لكنه متطور تقنيا. وما لم تنجزه السياسة الاعلامية استطاع الصحفيون المشار لهم استنهاض كتاب مرموقين ووسائل اعلام رسمية بل وحتى الرئيس علي عبدالله صالح ورئيس حكومته للحديث عن حق المواطنين في نقد كل المسؤولية بما فيها الرئيس ولكن بلغة موضوعية. وهذا ليس أحد افرازات هذه السياسة التي تؤكد على تعميق المرجعية الدستورية أو تدافع عن آراء اليمن بمختلف انتماءاتهم بل نتيجة تجاوز الصحافة حالة الركود التي خلقتها صورة الزعيم التي حضرت في كل وسائل الاعلام الرسمية في محاولة لخلق ظروف تناقض الدستور والقانون وتخالف هذه السياسة. وفي الحقيقة فان المتأمل سيجد بسهولة أن كل ما هدفت له السياسة وكل أركان استراتيجيتها ذهبت أدراج الرياح ليس منذ أن تولى الأستاذ حسين العواضي وزارة الاعلام. بل والأستاذ الأكوع لا يزال وزيرا. ان تطبيق السياسة كان سيتطلب أداء تشترك فيه وزارات:- - الشؤون القانونية. - العدل. - الداخلية. - والخارجية. مع الاعلام طبعاً. كوحدة أولى تسعى لاستخدام الاعلام في تنفيذ الرؤية الوطنية التي أنتجتها الوحدة اليمنية، ولم تنقضها حرب 1994م وهي الانحياز للديمقراطية التعددية.. كأحد شروط النمو والتنمية. ان الارث الفكري لدولة الثورة من 1962م الى 1990م كان ارثاً أحادياً، ولاحظوا أنه حتى صدور قرار الرئيس علي عبد الله صالح في حزيران/ يونيو 2002م والذي أعاد صور من سبقوه في الرئاسة في الشطرين الى جدران القصر الجمهوري، كانت اليمن لا تعرف الا صورة رئيس واحد هو الذي يحكمها حاضرا. والأمر مجرد مؤشر عن حالة الأحادية التي لا تكتفي بمصادرة الرأي ومنع التراكم، بل تتأفف حتى من الصورة ويمكن التذكير هنا بالشطر المحذوف من صورة اعلان قيام الجمهورية اليمنية وهو الشطر الذي يحضر فيه الأستاذ علي سالم البيض سواءً لحظة رفع العلم، أو في كل اللحظات الأخرى، مع ابقاء أسمه ضمن ملف المدانين بحرب لها طرفان. ونسق معرفي يتحدث عن الديمقراطية التعددية فضلا عن مصادمته لهذا الارث لدولة الثورة ومختلف مكوناتها فهو أيضاً نسق له معطيات مختلفة وجديدة ويحتاج لجهد تثقيفي تربوي يبدأ من غرف النوم والمعيشة وحضانات الأطفال ولا ينتهي في القصر الجمهوري حتى يكون قد شمل مختلف المؤسسات والأذهان والأبعاد. وباعتقادي أن هذا هو ما استهدفت السياسة الاعلامية تحقيقه، لكن الارادة التي أنتجتها وأصدرتها من مجلس الوزراء، لم تصدرها حتى كانت قواها قد خارت، علما بأن السياسة صدرت وسط الفتوة المسلحة التي هزمت فتوة مثلها في حرب 1994م. ان تاريخ الديانات -وآخرها الاسلامي- على أنبيائها جميعاً صلوات الله وسلامه تنقل لنا معاناة الأنبياء مع خيرة أصحابهم الذين يحملون أنساق ذهنية مختلفة عن النسق الراشد الذي يأتي الأنبياء لتذكر به كمعطيات حياتية لا يمكن تحقيق النجاح في الدنيا قبل الآخرة الا بها. لقد نقل لنا تاريخ الاسلام الجدل الذي دار بين عمر بن الخطاب وزوجته عاتكة بنت زيد رضي الله عنهما. اذ كانت تحضر صلاتي الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لِمَ تخرجين وأنت تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ فقالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله ص((لاتمنعوا اماء الله مساجد الله)).فعمر بن الخطاب تنازعه تربيته، لكن الدين الاسلامي قد ألزمه بكوابح تمنعه من الاحتكام لماتلقاه من ارث اجتماعي قبل اسلامه. وكان تذكره لهذا النص يحمي نفسه وزوجته ودينه من ذلك الارث. وكثير من القصص التي كانت قيم مجتمع ما قبل النبوة وقيم ما بعده تتصارعان بحثا عن المشروعية. ولقد كان الأنبياء عليهم السلام يدركون شروط التغيير. فالمسائل الذهنية والنفسية لا تكتمل دوافعها بقرارات ولا بمواقف ولا بفتاوى، لكنها حالة من الفعل الدائم الذي يحتاج هذا كله: القرار، والمواقف، والفتوى في نسق واحد يعزز النمو الايجابي للسلوك المراد تنميته. اننا حين نقرأ في الدستور حديثاً عن التعددية لا يكفي لنقول أننا صرنا دولة تعددية، فنحن نتعرض لصحيفة الجمهورية أو 14 أكتوبر يوميا وهذا أكثر مما نتعرض للدستور، ومن ثم فالتلفزيون والاذاعة والصحيفة والخطابات الرئاسية والوزارية وخطب المساجد، واتجاهات الأخبار تعزز فينا أحد شقي الرؤية: التعددية أو الأحادية. والأمر ذاته بالنسبة لحقوق الطفل أو المرأة أو العلاقات السياسية، أو الرأي الآخر... أو غيرها. ان تعزيز السلوك الايجابي لأي انسان في أي عمر كان بحاجة الى جهد تبشيري مستمر. ويصبح الأمر التبشيري للتغيير أكثر الحاحا في وضع كالديمقراطية اليمنية التي نتجت عن اتفاق سياسي في أعلى هرم الحكم، وليس نتيجة تحولات طبيعية. وباعتقادي أن الأولوية تتجه صوب قضايا عدة لنأخذ منها الآن فقط:- 1 - المواطنة المتساوية. 2 - التعددية. 3 - الحقوق النوعية. وقد وردت هذه القضايا الثلاث في السياسة المشار اليها، غير أننا حين نأتي للتطبيق سنجد أن الأمر لم يتجاوز وريقات هذه السياسة. ليس الأمر انعدام في التأهيل والتربية وحسب، فالديمقراطية يمكنها أن تتراكم عمليا، لكننا بتقصي هادئ وبسيط سندرك أن وسيلة مهمة كالتلفزيون اليمني مثلا- لا تعرفه قيادات الأحزاب السياسية اليمنية الا لدقائق أيام الانتخابات. كما أن برامج تركز على(عبده سعيد، وفهامة ناجي.... كمواطنين يمنيين يشكلان وحدات مجردة من ألقاب الشيخ أو رجل الأعمال، ليس لها حضور في وسائلنا الاعلامية الا في النادر). فيما يحضر المواطن علي عبد الله صالح في ثلثي النشرة الرئيسية.. وهذا لا يعزز لا روح المواطنة ولا حق التعددية. أما بالنسبة للحقوق النوعية: المرأة كنوع اجتماعي، الطفل، ساعات الدوام، التأمين الصحي... الخ، فهذه لو لم ترتبط بمنظمات المجتمع المدني والجهات المانحة لما سمع بها اليمنيون أبداً. قد لا يجوز اغفال برامج اعلامية كبرنامج قضية في حوار الذي كان يعده ويقدمه عارف الصرمي في اذاعة صنعاء، وبعض مساحة تتميز بها صحيفة 26 سبتمبر، في الحوارات والاستطلاعات –علما باني لم أستفد من هذه المساحة لأنه رفضت مشاركة استطلاعية لي لأنه قيل أنه كانت مساحته أكبر مما أراده المخرج السياسي وليس الفني-. أو برامج تلفزيونية ليس لها دوام، يمكننا أن نشاهد من خلالها بعض وجوه معارضة تتحدث في: المأمون. ولكن هذه ليست نتيجة السياسة التي نتحدث عنها، بل هي لظروف آنية في الأوقات المؤمنة. ومن هنا فأظن أنها لا تؤسس لشيء، فالحرية والانفتاح والديمقراطية مالم تكن قيمة مجردة لا يراد استغلالها في الدعاية الاعلامية والتنافس السياسي، فانها تفقد قدرتها على التنفس. من هنا، وخلاصة الأمر: أن السياسة الاعلامية اليمنية لم تستطع المساعدة في الدفع بالتحول الديمقراطي بأقل الخسائر. ولكن الأمر غير عائد لذات السياسة رغم القصور فيها، لكنه عائد الى أن المؤسسات الحكومية كما الحزبية –فيما يتعلق بالسياسات والاستراتيجيات- تنحاز لصالح التخلف، بتقصيرها في توفير متطلبات تحقيق هذه الاستراتيجيات والسياسات. نقلا عن مجلة (المراقب العربي)