هناك أسباب عديدة تضافرت لإنجاح محاولة التغيير الثورية. الثورة قلبت أوضاع البلاد بشكل جذري ولم يكن من السهل إقامة نظام ديمقراطي في البلاد. يحتاج تاريخنا الوطني الحديث والمعاصر إلى إعادة كتابته باستمرا، بغية تنقيته من التشوهات التي علقت به، من أجل معرفة الوقائع التاريخية وترتيب الأحداث وتحديد الأدوار الحقيقية التي قام بها كل طرف من أطراف الحركة الوطنية اليمنية، والأهم من ذلك بغية تقييم ماتحقق من مكاسب ومنجزات تنفيذاً لأهداف الثورة اليمنية، وما تعذر تحقيقه منها لتحديد الأسباب، وسبل مواجهتها. ثورة أم انقلاب؟! عرف مجتمعنا اليمني عدة انتفاضات شعبية ضد نظام الحكم الإمامي، لعل أشهرها: انتفاضة حاشد 1919م، التي تعد رائدة الانتفاضات القبلية ضد نظام حكم الإمامة في اليمن، تلتها انتفاضة المقاطرة 1922م، وانتفاضة قبائل الجوف 1952م، وأخرها انتفاضة الزرانيق 1962192م، وعلى الرغم من إخماد السلطة لتلك الانتفاضات واعتماد أسلوب «الرهائن لضمان عدم تكرارها، فإنها تحولت من انتفاضات شعبية إلى معارضة سياسية مشيخية استفادت منها قوى المعارضة اليمنية اللاحقة، لكن تلك الانتفاضات ظلت مجرد انتفاضات شعبية مفاجئة وغير معتمدة، وجاءت بمثابة رد فعل طبيعي مضاد للظلم الاجتماعي ورفض امتداد سلطة الإمام الجديد، ولم تحمل بذور مشروع سياسي أو ديمقراطي أو مشروع تغييري. سلسلة من محاولات التغيير ولم يتبدل الوضع إلا بعد بروز قوى المعارضة السياسية التي قادت سلسلة من المحاولات المنظمة لتغيير نظام الحكم الإمامي، بدءاً من الثورة أو الحركة الدستورية 8491م، مروراً بانقلاب حامية الجيش في تعز 5591م ولم يكتب لواحدة من تلك المحاولات النجاح إلا لفترة زمنية محدودة سرعان ماكان النظام الإمامي يعود للحكم أشد قوة ومنعة، وأكثر تسلطاً على الشعب اليمني ومناضليه. وكانت آخرها محاولة الاغتيال التي قام بها الملازم محمد عبدالله العلفي، والملازم عبدالله اللقية والهندوانة في مستشفى الحديدة 1691م، تلك المحاولة التي أنهت خرافة قداسة الإمام أحمد وعدم القدرة على قتله، وأسفرت عن إصابته بجراح قاتلة، توفي على إثرها في 91سبتبمر 2691م. لقد لعبت مجموعة كبيرة ومختلفة من الأسباب دوراً كبيراً في فشل جميع تلك المحاولات، ويمكن تحديد بعض العوامل التي تمثل قاسماً مشتركاً بينها جميعاً، وتتمثل في التالي: 1 قيام الثورة قبل أوانها، لعدم وصول وعي التشكيلات الاجتماعية التقليدية في المدن، وبخاصة في صنعاء، إلى المستوى المطلوب فالكثيرون لم يحسوا بحاجتهم للثورة، ولهذا لم يتجاوبوا معها. 2 كانت الحركة مكونة من تجمع وطني من فئات مختلفة أشبه ماتكون بالجبهة الوطنية، ولم تكن تملك برنامجاً واضحاً للعمل، ولم يكن لها اتجاه خاص ذو ملامح عقائدية وسياسية واقتصادية محددة. 3 اتخذت الحركة الثورية طابعاً دينياً في حين أن الإمام كان مطروحاً بين الناس كرمز ديني، مما ساعد ولي عهده «الأمير أحمد» على ملاحقة قتلة والده الإمام يحيى، والانتصار عليهم. 4 تردد الإمام الجديد «عبدالله الوزير» في اتخاذ أية قرارات حازمة ضد أية مقاومة، واعتمد على الجامعة العربية التي كان دورها سلبياً. 5 انعدام السند الخارجي، حيث كانت «الثورة» حدثاً مفاجئاً مرفوضاً في البيئة العربية. ويضاف إليها عديد من العوامل، منها: تفشي الأمية في أوساط المجتمع اليمني، غياب الإذاعة والمؤسسات الثقافية، وصعوبة المواصلات، والقمع والتنكيل من قبل الإمام، والأطماع الخارجية للدول الاستعمارية، وهي العوامل التي أضعفت انتشار أفكار التجديد والمعارضة في وجه النظام الإمامي، وكان لها دوراً كبيراً في محدودية التأثير الذي خلفته الحركة الدستورية، وغيرها من المحاولات التغييرية في المجتمع اليمني. انجاح محاولة التغيير الثورية في المقابل هناك عناصر أو أسباب عديدة تضافرت لإنجاح محاولة التغيير الثورية التي قامت في 62سبتمبر 2691م، بعد فشل جميع المحاولات السابقة عليها في الوصول إلى نفس النتيجة، ويمكن الإشارة بالخصوص إلى بعض تلك العناصر وهي: 1 الجيش بوصفه قوة حربية منظمة. 2 القبائل التي تمثل قوة شعبية رديف. 3 المثقفون الذين يمثلون تيار أو حركة التغيير. 4 استجابة الجماهير اليمنية في جميع محافظات اليمن «شمالاً وجنوباً» لنداء الثورة والوقوف في خندق الدفاع عنها، وقد لعب المذياع أو الراديو، خلال هذه المرحلة، على الرغم من محدودية انتشاره بين أفراد المجتمع اليمني، دوراً كبيراً في انتشار الأخبار عن الثورة التي قامت في صنعاء، وهو الأمر الذي ساعد في حشد الدعم الشعبي للجمهورية الوليدة المعلنة منذ الأيام الأولى لقيامها. 5 الدعم المصري الكبير لرجال الثورة اليمنية عبر إرسال آلاف الجنود المصريين للوقوف مع الثورة اليمنية المعلنة في وجه المناوئين لها سواء من الداخل، أم من دول جوار ذات النظم السياسية المغايرة، والذي استمر إلى أواخر 7691م، تاريخ انسحاب الجيش المصري من اليمن. توجت هذه العناصر جهود الحركة الوطنية التي حددت أهداف الثورة اليمنية الستة. لقد جاء في البيان الثاني لمجلس قيادة الثورة، الصادر في 82سبتمبر، إعادة تأكيد أهداف الثورة، وتحديد السياسة الداخلية التي ستقوم السلطة الجديدة بنهجها بنوع من التفصيل، ومن بين عناصره: القضاء على الملكية وأعوانها، والتحرر من الاستعمار والاستعباد ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري ديمقراطي إسلامي أساسه العدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات. إحياء الشريعة الإسلامية الصحيحة بعد أن أماتها الحكام الطغاة الفاسدون وإزالة البغضاء والأحقاد والتفرقة والسلالية والمذهبية. مراقبة أجهزة الدولة تنظيم جماهير الشعب في تنظيم شعبي موحد تشارك في عملية البناء الثوري ويمكنها من مراقبة أجهزة الدولة مراقبة تامة ليمنعها من الانحراف عن أهداف الثورة. إحداث ثورة ثقافية وتعليمية تقضي على مخلفات العهود البائدة التي عمقت الجهل والتأخير الفكري. تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق نظام اجتماعي يتلاءم مع واقع شعبنا ومع روح الشريعة الإسلامية والتقاليد الوطنية. وبتحليل تلك الوثيقة أو البرنامج يبدو واضحاً بأن الحيز الكبير في برنامج النظام الجديد خصص للمبادئ الإسلامية وتحقيقها في المجتمع اليمني، الذي يدين الغالبية العظمى من أبنائه بالدين الإسلامي، ولأن التقليل من دور الإسلام كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة وغير محمودة، خاصة أن النظام الإمامي المطاح به كان يستمد شرعيته من أساس ديني، كما يبدو جلياً مدى التأثر بالتجربة السياسية الاشتراكية في مصر، التي رفضت التعددية الحزبية واستبدلتها بتنظيم شعبي موحد «صيغة الجبهة الموحدة» يجمع بين القوى والتيارات السياسية المختلفة، وقد أعاد دستور 4691م، تأكيد تلك السياسة حيث أشار في مادته «551»: (يشكل المواطنون تنظيماً شعبياً للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود لبناء الأمة بناءً سليماً)، كما تبرز المفردات المستخدمة في صياغتها، رغم محاولات صبغها بصبغة محلية وإسلامية، عن عمق التأثير المصري الذي وقع على التجربة اليمنية. لقد بدأت الجمهورية الوليدة منذ 2691م، في ولوج مرحلة جديدة من مراحل تطورها السياسي، بعد إعلان الأهداف الستة للثورة، وقد كانت السلطة الجديدة تدرك، منذ البداية بأن الإرث ثقيل جداً وأن التخلف، الذي كانت البلاد تعيشه قد تشعب كثيراً وامتدت جذوره إلى جميع مناحي الحياة، واتضح لها أن المهمة عسيرة وتفترض مشاركة شعبية واسعة النطاق، لكن ذلك كان يستوجب إعادة تأطير تلك المشاركة على أسس ديمقراطية باعتبار أن النظام الديمقراطي هو النقيض لكل ألوان الاستبداد السياسي التي عانى منها الشعب اليمني ردحاً من الزمن، وعليه فقد شكل هدف «الديمقراطية» المعلن عنه آنذاك، أهمية كبيرة في نظر الشعب اليمني، خاصة بعد فشل الحركة الدستورية عام 8491م فما الذي حدث، وما الذي أعاق تحقيق الديمقراطية في مجتمعنا اليمني؟ الصراع السياسي الأسباب والعوائق صحيح أن الديمقراطية، رفعت كشعار دائم للسلطة السياسية اليمنية، تنفيذاً للمبدأ الرابع من مبادئ الثورة اليمنية، لكنها كانت مشروعاً مؤجلاً في سلم أولويات السلطة السياسية اليمنية، التي تولت الحكم بعد ثورة 62سبتمبر 2691م، ممثلة في المشير عبدالله السلال، حيث واجهت منذ الأيام الأولى صعوبات جمة هددت بقاءها في السلطة وبقاء النظام الجمهوري نفسه، حيث كان عليها أن تواجه خصومها على ثلاث جبهات، في آن واحد: من جهة أولى، أتباع النظام السابق «الملكيين» الذين حاولوا في مرات عديدة استعادة السيطرة على مقاليد الحكم في المجتمع اليمني وكان يقودهم الإمام محمد البدر الذي تولى الحكم لمدة أسبوع واحد «من 91سبتمبر2691م، أي يوم وفاة والده، حتى فجر يوم 62سبتبمر 2691م». ومن جهة ثانية، المملكة العربية السعودية في الشمال التي رأت في الثورة اليمنية خطراً داهماً يهددها على الدوام، والتي كانت تقدم الدعم للأمير الحسن بن يحيى حميد الدين، الذي أعلن نفسه إماماً بعد تردد أنباء عن مقتل الإمام البدر، ثم لهذا الأخير بعد وصوله إليها فاراً من اليمن. ومن الجنوب كانت بريطانيا، تتحين الفرصة للانقضاض على الدولة الجديدة التي مثلت نواة للتحرر اليمني والمنطلق لاسترجاع الأجزاء الجنوبية المحتلة من اليمن. كل هذه العوامل جعلت مشروع الديمقراطية يحتل مرتبة أقل أهمية في سلم أولويات النظام الحاكم في اليمن، إذ تأتي بعد جهود الحفاظ على الدولة الجديدة، وطرد المستعمر من أجل القضاء على التجزئة اليمنية في الجنوب. وربما كان من الطبيعي أن تحتل قضية أمن الدولة الجديدة، والنظام الجمهوري، وحمايته أولوية على ما عداها من القضايا في ذلك الوقت في ظل تلك الظروف، وعلى الرغم من صدور الإعلان الدستوري المؤقت عام 3691م ثم صدور الدستور الدائم عام 4691م خلال تلك المرحلة، لتثبيت دعائم النظام الجمهوري وترسيخ المصالحة الوطنية، فإنه لم يطبق لأسباب متعددة. خلاصة: لقد كان المشروع السياسي والاجتماعي للثورة اليمنية طموحاً بالقياس إلى المعطيا التي أفرزها الواقع، فلم يكن من السهل إقامة نظام ديمقراطي مضمونه الاجتماعي جذري، يعتمد إزالة الفوارق بين الطبقات وإقامة العدالة الاجتماعية؛ لذلك ليس من السهل القول إن الثورة حققت كامل أهدافها، لكن مع ذلك فإن الثورة قلبت أوضاع البلاد بشكل جذري، ليصبح معه من الطبيعي وصف ماحدث في مجتمعنا اليمني بالثورة، وإسقاط صفة الانقلاب عنها. أهم نتائج تلك الثورة: 1- إزالة النظام الملكي، وإقامة نظام جمهوري، ولأول مرة أصبحت السلطة السياسية حقاً مشاعاً لجميع المواطنين، وينتهي الاحتكار الأسري المزمن للسلطة. وكان لذلك أثره العميق في تغيير التفكير السياسي للمواطن اليمني، وتحريره من ثقافة سياسية لاتعترف له بحقوقه السياسية. 2- أنهت الثورة العزلة المحكمة التي ضربها الإمام حول اليمن واتصلت بالعصر الحديث بكل مايدور فيه بعد انغلاق طويل. 3- خلقت الثورة الإمكانية الحقيقية لتحرير الجزء الجنوبي للوطن من الاستعمار البريطاني، الذي تم خروجه من عدن في 03 نوفمبر 7691م، وفتحت الثورة الباب لإعادة توحيد اليمن، وهو هدف تحقق في عام 0991م. 4- قادت الثورة معركة متصلة مع الجهل والفقر والمرض والتخلف، لازالت مستمرة إلى يومنا هذا. وهذا يؤكد أن الفعل الثوري هو فعل مستمر في المكان والزمان وإن تغيرت أدواته ووسائله، يؤكد ذلك استمرار فعل التغيير وتنامي حجم المنجزات خاصة في الإطار الديمقراطي والسياسي. تقييم الأداء الديمقراطي على ضوء المؤشرات السياسية حاولت عدة دراسات تحديد مجموعة مؤشرات لتقييم الأداء الديمقراطي للنظام السياسي؛ منها دراسة:«لاري دايموند»«Larry, Diamond»، الذي حدد تسعة معايير لتحقيق ذلك، مؤكداً أنه لايمكن الحكم على الديمقراطية في بلد من البلدان دون توافرها، وتتمثل تلك المؤشرات، في: المؤشر الأول: تركز السلطة الحقيقية عملياً في أيدي مسئولين منتخبين، وليس في أياد أخرى كالجيش. المؤشر الثاني: تقييد السلطة التنفيذية بالدستور، وأن تكون مسئولة أمام المؤسسات الدستورية الأخرى: كالقضاء المستقل، والبرلمان، وديوان المظالم والمحاسب العام. المؤشر الثالث: لايكفي أن يكون هناك عدم علم مسبق بنتيجة الانتخابات، أو أن يكون هناك افتراض للتبادل السلمي للسلطة، بل يجب فوق ذلك كله عدم حرمان أية جماعة من حق تشكيل حزب سياسي، أو من حقها في الاعتراض على نتائج الانتخابات. المؤشر الرابع: عدم حرمان الأقليات العرقية، أو الثقافية، أو العقائدية، أو غيرها، من الجماعات الضعيفة تقليدياً، من حقها التعبير عن اهتماماتها السياسية، أو من استخدام لغتها، أو ثقافتها. المؤشر الخامس: بالإضافة إلى وجود أحزاب سياسية، وإجراء انتخابات مابين الحين والآخر، يجب أن يكون للمواطنين قنوات ووسائل متعددة، وبشكل مستمر، للتعبير عن اهتماماتهم ومعتقداتهم وهمومهم، وأن يكون لهم الحق في أن تمثلهم جمعيات وحركات ومنظمات مستقلة وتعددية. المؤشر السادس: بالإضافة إلى حرية التنظيم، يجب أن توجد قنوات للمعلومات والإعلام المستقل، وأن يكون للمواطنين حرية غير مقيدة في الاتصال بوسائل الإعلام في أي وقت. المؤشر السابع: يجب أن يتمتع الأفراد بكامل الحرية في الرأي والمناقشة والتعبير، وحرية الصحافة والمعتقد والتظاهر، ورفع الشكاوي. المؤشر الثامن: يجب أن يكون المواطنون متساوين أمام القانون، وأن يحمي القضاء المستقل حريات الأفراد والجماعات، وأن تحترم مراكز القوى أحكام القضاء وتنفذ أحكامه. المؤشر التاسع: يجب أن تكون وظيفة القانون حماية المواطنين من الاعتقال غير القانوني، والنفي والإرهاب، والتعذيب، والتدخل غير القانوني في الشؤون الشخصية، وأن لاتكون هذه مهمة الدولة فقط، بل ومهمة الجماعات المناهضة للدولة. ونظراً لتعدد المؤشرات التي وضعت لقياس مستوى الأداء الديمقراطي والتي تعد كذلك مؤشرات على التوجه الفعلي، لدى سلطة ما، نحو الديمقراطية فإني سأقتصر على عدد من تلك المؤشرات نظراً لتوافر معطيات كافية بشأنها، وباعتبار أن العديد من المؤشرات ، التي لم أشر إليها، تنطوي ضمناً ضمن هذه المؤشرات، وهذا لايعني التقليل من أهمية باقي المؤشرات، وهي: 1- وجود دستور مكتوب. 2- التعددية الحزبية. 3- الانتخابات التنافسية. 4- حرية الرأي والتعبير. 5- احترام حقوق الإنسان. التقيد بالدستور: لم تعد الممارسة الديمقراطية اليوم مطلقة كما كانت في الماضي، وإنما اصبحت مقيدة بالدستور ، تتوافق مختلف القوى الفاعلة في المجتمع على أحكامة، ويحتكم الأفراد والجماعات إلى شريعه، فالدستور يعد بمثابة القانون الأساسي الأسمي الذي يحدد شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم فيها، كما يعني بمختلف السلطات العامة من حيث تكوينها، واختصاصاتها وتنظيم علاقاتها ببعضها، وهو أيضاً الذي يوضح مختلف الحقوق والحريات الأساسية التي يتمتع بها الأفراد داخل الدولة. والدستور هو:«الوثيقة التي تقنن وتضبط مختلف التفاعلات بين الفاعلين السياسيين في مجتمع من المجتمعات». ومن هنا تلك الأهمية التي تعطى له باعتباره واحداً من بين أبرز المؤشرات الدالة على اتجاه النظام السياسي صوب الديمقراطية وعقلنة القرار السياسي. من خلال تتبع المراحل التي مرت بها التجربة اليمنية يمكن ملاحظة الحصيلة الكبيرة من الدساتير التي صدرت خلال تلك المراحل، فقد تمثل التشريع الدستوري في المجتمع اليمني منذ قيام ثورة 26 سبتمبر بصدور العديد من الدساتير، سواء الدساتير المؤقتة«أعوام 1963م،1965م،1976م»، أم الدساتير الدائمة«1964م،1970م» والعديد من القرارات الدستورية«صدرت ستة قرارات دستورية خلال الفترة من 1986م-1970م» ، وكذلك تسعة إعلانات دستورية في ج.ع. ي أما في ج.ي.د.ش فقد عرفت صدور دستورين عامي1970م،1978م. وإعلان دستوري في عام 7691م، ثم دستور الجمهورية اليمنية الذي صدر خلال العام 1990م، والتعديلات الدستورية التي أدخلت عليه خلال الفترة التي تلت تحقيق الوحدة اليمنية أعوام 1994م،2001م، وأخيراً سنة 2006م. التعددية الحزبية يعد وجود الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، من أبرز المؤشرات التي تعبر عن التوجه الديمقراطي للنظام السياسي الحديث، لأنها من أبرز الصيغ السياسية للتعبير عن مختلف الاتجاهات المتواجدة داخل المجتمع، وانعكاس طبيعي للتعددية الاجتماعية والثقافية التي يزخر بها أي مجتمع من المجتمعات. وحظر الحزبية والتعددية هو إنكار لتلك الحقيقة وقفز على الواقع ، الأمر الذي يدخل المجتمع في دوامة من العنف، ويخلق مناخاً من عدم الاستقرار السياسي، يشل معظم طاقاته وقدراته، ويعرقل مسيرته نحو تحقيق كل أهدافه في التنمية، والتحديث على مختلف المستويات. لم تكن التعددية الحزبية إطاراً مقبولاً للممارسات السياسية في المجتمع اليمني طيلة الفترة التي سبقت قيام الوحدة اليمنية، فقد ظل النهج السائد في كلا الشطرين معادياً لها، سواء بشكل صريح،أم بصورة ضمنية. ربما يكون رفض السلطة، في شطري اليمن، للتعددية الحزبية ناجماً عن رفضها المبدئي للديمقراطية، رغم عدم الإعلان عن ذلك الرفض بشكل صريح، لكن ذلك الرفض قد تراجع وخفت حدته في المجتمع اليمني، لتصبح التعددية الحزبية إطاراًمقبولاً للممارسة العمل السياسي، وقد حدث ذلك التراجع نتيجة عديد من المتغيرات الدولية، والمحلية؛ فقد عرفت نهاية الثمانينات ،وبداية التسعينات من القرن الماضي نزوعاً مفاجئاً وشاملاً صوب الديمقراطية الليبرالية والتعددية، وبخاصة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، ولم يكن المجتمع المدني بمعزل عما يدور في الساحة الدولية. كما أن التراجع عن النهج الشمولي في ممارسة العمل السياسي، في المجتمع اليمني، قد جاء نتيجة مباشرة لمحادثات واتفاقات توحيد اليمن، وهو الأمر الذي تمخض عن بروز عدد كبير من الأحزاب السياسية متعددة الاتجاهات، والمشارب، والمرجعيات السياسية، وصل عددها إلى أكثر من«64» حزباً وتنظيماً سياسياً، بعضها كان يمارس عمله الحزبي قبل قيام دولة الوحدة اليمنية، سواء في إطار سري نتيجة تحريم الحزبية، أم في إطار علني ضمن الأحزاب الحاكمة، والبعض الآخر وجد في مناخ التعددية الحزبية والسياسية السائد بعد الوحدة فرصة للإعلان عن نفسه، وبصدور قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية اليمنية، وتعديل دستور الجمهورية اليمنية لإضافة المادة«5« التي تنص على التعددية الحزبية بوصفها أساساً للنظام السياسي اليمني، صارت التعددية الحزبية واقعاً ملموساً في الحياة السياسية اليمنية، كما عملت الانتخابات التنافسية على تأكيد تلك الحقيقة. الانتخابات التنافسية تمثل الانتخابات واحدة من أبرز آليات ممارسة الديمقراطية في الدولة والمجتمع، وهي تهدف إلى تنظيم عملية المشاركة السياسية للمواطنين في صناعة القرار السياسي، سواء بطريقة مباشرة عن طريق الانتخاب والاستفتاء،أم بطريقة غير مباشرة عن طريق الهيئات والمؤسسات التمثيلية الحديثة: البرلمان، المجالس المحلية.. وغيرها. حقق المجتمع اليمني العديد من المنجزات السياسية في مجال الانتخابات التنافسية، منها: الالتزام بالتعددية السياسية والحزبية، ودورية الانتخابات التنافسية البرلمانية والرئاسية والمحلية؛ إذ جرت في المجتمع اليمني العديد من الانتخابات البرلمانية«لأعوام 93،97،2003م»، والرئاسية«أعوام 99،2006م»، والمحلية«أعوام 2001،2006م»، وانتخابات المحافظين«2008م» وسيليها انتخاب مدراء المديريات. ويمكن القول استناداً إلى المحصلة النهائية لكل التجارب الانتخابية اليمنية، أن التجربة اليمنية في الديمقراطية، من خلال الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو المحلية، تبقى مجرد خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، وأن تعزيز هذه العملية لن يكون إلا باستمرار الممارسة للعملية الديمقراطية، وعملية الانتخابات، والاستفادة من الأخطاء التي تقع فيها بقصد معالجتها. فهل ستكون الانتخابات البرلمانية القادمة في أبريل 9002م، فرصة لإعادة الاعتبار للديمقراطية اليمنية، والمضي بها خطوة أخرى باتجاه احترام التعددية السياسية والحزبية، أم لا؟ حرية الرأي والتعبير تعني حرية التعبير:«حق كافة المواطنين الفعلي والمؤيد بحماية القانون، في حرية التعبير الفردي والجماعي، وعلى الأخص حق التعبير السياسي، بما في ذلك نقد الحكام وتصرفات الحكومة ومنهجها، ونقد النظام السياسي القائم، وكذلك نقد النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد، ونقد الأيديولوجيات المسيطرة». وتعد حرية الرأي والتعبير من أهم الحريات العامة والأسس التي لايمكن أن تقوم لنظام حكم ديمقراطي حديث قائمة دون أن تكون ممارستها، بالنسبة لجميع المواطنين مضمونة فعلياً، ومالم يتم توفير كل المتطلبات المؤسسية اللازمة لممارستها على أرض الواقع، شأنها في ذلك شأن العديد من الحريات العامة، كحرية الحصول على المعلومات، وحرية التنظيم السياسي. والدستور اليمني المعدل سنة 1994م، تضمن عدة نصوص قانونية تحدد الضمانات التي وضعها المشرع اليمني قصد حماية مختلف الحريات العامة، ومنها حرية التعبير عن الرأي، حيث ينص في مادته«14» على أن: «لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتكفل الدولة حرية الفكر والإعراب عن الرأي بالقول والكتابة والتصوير في حدود القانون»، وعلى الرغم من أن الدستور يكفل للمواطنين اليمنيين حرية التفكير والتعبير عنها بمختلف وسائل التعبير، فإنه قيدها بشرط احترام القانون، والقانون المقصود في هذه الفقرة هو قانون الصحافة والمطبوعات رقم«52» لسنة0991م. أولت الجمهورية اليمنية اهتماماً كبيراً للمسألة الإعلامية وحرية الصحافة في المجتمع اليمني، وقد شمل إصدار قانون الصحافة والمطبوعات مكسباً مهماً في هذا المجال لتعزيز كل الأشكال الخاصة بحرية التعبير، وطرح الرأي والرأي الآخر، حيث أفسح المجال أمام تعدد الإصدارات الصحافية الحزبية الرسمية منها والحزبية والمستقلة، كما فتح قانون الصحافة المجال واسعاً أمام توسيع قاعدة النشر وإصدار الصحف اليومية، أو الأسبوعية المختلفة، حيث وصل عدد المسجل منها رسمياً حوالي«78» صحيفة ومجلة ونشرة يومية وأسبوعية وشهرية، وقد يحصل العدد الفعلي إلى أكثر من«002» مطبوعة ونشرة مختلفة الاتجاهات. احترام حقوق الإنسان خلاصة أخيرة: حقق اليمن تقدماً ملحوظاً في مجال احترام حقوق الإنسان، مقارنة بالممارسة التي طبعت فترة حكم شطري اليمن، حيث أصبح طرفاً في معظم المعاهدات الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان، وأدرج دستوره وتشريعاته عدداً من معايير حقوق الإنسان المعترف بها دولياً. وتوضح تقارير منظمة العفو الدولية أن انتهاكات حقوق الإنسان في بلادنا قدعرفت انحساراً ونقصاً ملحوظاً، وهو التطور الذي قد يعزي إلى التوجه الديقراطي لدولة الوحدة اليمنية واعترافها بالتعددية الحزبية والسياسية، وبحقوق الإنسان وتعزيز الحريات الصحفية وحق التعبير وإبداء الرأي، وتعزيز مجال حماية واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز مشاركة المرأة اليمنية سياسياً واقتصادياً وفي مختلف مناحي الحياة العامة. وفي الأخير، تجدر الإشارة إلى أن اليمن وقعت معظم الاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وبخاصة تلك المتعلقة بالحقوق السياسية، إذ وقعت على حوالي 07% من إجمالي تلك الاتفاقيات.