انتهت الانتخابات لكن أوزارها ما تزال على العواتق، والوجوه ما تزال ملطخة ببقايا بارود أخطأ طريقة في ساحة معركة لم تكن في حاجة لبارود. أصابع المحاربين ما تزال على الزناد وفوهات جميع البنادق موجهة إلى صدر مستقبلنا المشترك الذي بدأت أجفانه تتململ لتنفض عنها النعاس. ما يزال الخطاب الإعلامي محموماً وكيل الاتهامات، وتوزيع التهم والمسبات على أشدة وكأن الأمر لم يحسم، والصندوق لم يقل كلمته الفصل بعد. طرف يتحدث عن استهداف ناشطيه بخطة واسعة من تصفيات الحسابات متعددة الأساليب، تشمل قائمة طويلة على امتداد الخارطة اليمنية، وتضم في من تضم سياسيين وصحفيين.. فإن كانت معلوماته دقيقة فهي كارثة ما حقه، وإن كانت أوهاماً فحق لنا القول أن آثار المعركة الانتخابية قد تجاوزت الحدود الخارجية لتسكن النفوس وتعشعش في المخيلات وهي حالة أكثر خطورة، بسبب ماسيترتب عليها من تقييمات لاحقة وأفعال تستند إلى هذا التقييم المسبق.. أما إن كان الحديث عن خطط لتصفية الحسابات ما زال جزءاً من الحرب الإعلامية وحرب الشائعات بين طرفي السباق الانتخابي المحسوم النتائج فقد غدت حالة مرضية مزمنة ربما تعكس خواء القائمين عليها، وعدم قدرتهم على الانتقال من ساحة إلى ساحة بسلاسة. تلويح من هنا وآخر من هناك باستخدام وسائل جديدة في تصفية ذيول معركة يفترض كل عاقل أنها قد توقفت منذ زمن، تطلقها شخصيات يفترض فيها أنها مسؤولة، ومن تلك الوسائل التي استخدمت في التهديد لجنة الأحزاب ومحاسبوها، ومتأخرات مالية، ونيابة الصحافة. نفوس محتقنة ببقايا توتر قديم، وشظايا معركة انقشع غبارها، بلغت حدود الاحتقان مرحلة فقدان القدرة على تمثل أخلاقيات الفرسان بتهنئة المنتصر، ومجاملة من لم يحالفه الحظ، ما يؤكد أن المعركة قد أديرت كذلك بعيداً عن أخلاقيات الفرسان. صغار ما زالوا يؤدون الدور الذي رسمته لهم تعبئات الكبار في تواتر ندفع ثمنه كل لحظة، ذلك أن لا أحد كلف نفسه نزع فتائل تلك التعبئات، إن كانت قد توقفت أصلاً.. وكبار اندمجوا في اللعبة ويرفضون مغادرتها حتى بعد أن أتخمنا بمفردات التخوين والشتائم، والاتهامات، حد التقزز. كل هذا مايزال يحاصرنا في الوقت الذي يصرخ فيه العقلاء بأن قراءاتهم العلمية للمرحلة المعاشة وامتدادها نحو أفق الغد تقول بإنها مبشرة بكل خير، وإن انطلاقتها في انتظار صافرة الإنذار المتمثلة في حصول حالة من الوئام الوطني الشامل.. وئام يغادر أجواء المعركة الانتخابية وخطابها المتشنج، وسيكولوجيتها المشحونة بالتنافس الذي اعتقده البعض خصومة وهو ليس كذلك. وئام قائم على بلسمة كل الجراحات، الحديث منها والقديم، بغض النظر عن نوعها، أو عوامل حدوثها للوصول إلى حالة صحية من تضافر كل القدرات الوطنية لتجاوز المحك المقبل بكل دقته وضخامة حجم تأثيره في المستقبل.. وحين نقول ذلك ليس من باب التنظير أو الخطاب الأجوف الذي اعتاد أن يلوك مصطلحات (المنعطف الحرج)، و(اللحظة الحاسمة)....إلخ، لكن هذه القراءة مبنية على معطيات بات يعيها الجميع تقريباً وإن بنسب متفاوتة. فالرئيس علي عبد الله صالح أصبح محصوراً في مأزق زمني محدود بنهايته إما أن يودع الحياة السياسية تاركاً علامة فارقة، وبصمة هامة في التاريخ اليمني بمغادرته كرسي الحكم عبر آليات حضارية يكون هو قد أسهم في إرساء مداميكها، أو أن يحشر نفسه في أتون اللامشروعية التي نعلم أنه يجاهد دوماً كي لا يقع فيها. نقطة الفصل التي ترجح كفة أحد الخيارين، علاوة على العوامل الذاتية للرئيس، تكمن في إدراك القوة الوطنية الفاعلة لطبيعة هذا الموقف، ومن ثم الاصطفاف حيث يجب أن تكون مساندة للرئيس ومعينة له على الوصول الطبيعي والأمن إلى فضاءات الخيار الأول باعتبار أن فيه تكمن كل المصالح مجتمعة، مصلحة الوطن العليا، ومصالح المنظومة السياسية (سلطة ومعارضة)، ومصلحة علي عبد الله صالح شخصياً. وبالفعل الرئيس في حاجة للعون من الجميع من خلال استجابة القوى الوطنية لدعوات العقل والمنطق والصدق مع الله والموطن لخلق حالة من الوئام الوطني التي تزيل كل الاحتقانات وتدفع إلى التوافق الجمعي حول العديد من القضايا، وبالطبع لابد أن تكون البداية الطبيعية هي مغادرة أجواء الخطاب الانتخابي، لغته وأساليبه، بل ونفسياته. وئام يفوت أي فرصة على من يريدون خلق أزمات جديدة من أي نوع، ويساند الرئيس في تبني أجندة متكاملة من الإصلاحات الشاملة التي تؤتي أكلها تحقيقاً للمطالب الوطنية الملحة، وأبرزها تحرك عجلة التطور والخروج من قمقم الجمود التنموي والأزمات المركبة، وتحقيقاً لاستحقاقات إقليمية ودولية واجبة الأداء من منطلق ذلك التداخل العلاقاتي الذي غدا واقعاً بين المعطيات المحلية والأخرى الخارجية. وئام يتجاوز مأزق الذين راهنوا على أن التغيير والمأمول والإصلاحات الحتمية لايمكن أن ترى النور في الواقع الحياتي اليمني إلا عبر آلية تغيير شخص رئيس الجمهورية، وبالتالي إن ظلوا على قناعاتهم تلك فإن ذلك يعني أن يدخلوا في حالة بيات شتوي قسري من الآن حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة.