رغم شده التنافس الذي شهدته الانتخابات الرئاسية إلا أنه لم يبلغ الوصف بكونه معركة لرجل بحجم الرئيس/علي عبدالله صالح الذي رسم المضمار الديمقراطي بيده، ودخل حلباته بإرادته، وما تعلمت الأحزاب التنافس إلا في عهده. من يتطلع إلى فهم اتجاهات سياسية الرئيس/علي عبدالله صالح خلال الفترة الرئاسية الثانية عليه أن يؤمن أولاً بأن نهجه في الحكم قائم على أساس فلسفة البناء المرحلي، وأن كل مرحلة لا تشبه سابقتها لكنها مكملة لها؛ أي أن المرحلة القادمة لن تستنسخ سياسات مرحلة ما قبل يوم العشرين من سبتمبر، وهو ما يؤكد أن معركة الرئيس صالح الحقيقية، والأشد ضراوة قادمة ولم تبدأ بعد!. ففي الفترة الماضية تركز الخطاب السياسي حول قضية الفساد بالدرجة الأولى، وبرنامج الإصلاحات الشاملة لمختلف مجالات الحياة المؤسسية للدولة.. ولعل قوة الخطاب السياسي بهذا الاتجاه أوحت للغالبية العظمى من الناس أنهم قد يسمعون في أي لحظة قادمة بتغييرات وعقوبات صارمة تطول بعض رؤوس الفساد، وإجراءات مختلفة هنا أو هناك تعطي الخطاب مصداقيته العملية وكان البعض يبالغ جداً في أحلامه ويتخيل أن الأمور قد تستقيم بين ليلة وضحاها. ومع أن عصا التأديب بدأت تطول بعض المؤسسات، لكن ظل كثيرون عاجزين عن استيعاب الأسلوب الذي تعمل به سياسة الرئيس صالح، حيث إنه يحرص دائماً على عدم القفز على الواقع، أو ما يمكن أن نسميه «سلم التحول».. فلم يكن من الحكمة فتح الحرب على معاقل الفساد بغير وجود فضاء قضائي نقي، أي مؤسسات قانونية نزيهة ومستقلة تفرض سلطة القانون، وتكون أمينة في تحقيق العدالة.. لذلك شهد القضاء خلال الفترة الماضية الكثير من الإصلاحيات، والتغييرات، وأحيل عشرات القضاة وأعضاء النيابة إلى المحاكم، وللأسف كان هناك قصور إعلامي كبير في نقل تفاصيل هذه التطورات إلى ساحة الرأي العام. أما المسألة الثانية المهمة في سياسة الرئيس صالح فهي أنه يضع في حساباته خوض معركة مضمونة النتائج عبر محورين: الأول تشريعي والثاني مؤسسي.. ففي بلد كاليمن منفتح على الحريات والممارسات الديمقراطية من السهل على المتضررين من المعركة ضد الفساد تأويل الأحداث إلى تفسيرات حزبية وصناعة مظلات إعلامية تضلل الرأي العام عن الحقيقة، لذلك لابد من تشريعات لتأطير أي مواجهة، وهو الأمر الذي دفع بقانون «إبراء الذمة المالية» الذي يمنح الحق بمحاسبة أي مسئول عن موارده وممتلكاته بما في ذلك رئيس الجمهورية إلى البرلمان الذي صادق عليه.. ثم تم استكماله مؤسسياً بإنشاء «هيئة مكافحة الفساد» التي صادق عليها البرلمان مؤخراً لتكون الأداة التنفيذية لتلك التشريعات التي تكفل حق محاسبة المفسدين. هذه التطورات لم تكن هي التحضيرات الوحيدة لمعركة مكافحة الفساد والإصلاحات، بل إن العديد من الوزارات باشرت تعديلات في أنظمتها وقوانين عملها، كما أن مجلس النواب صادق خلال الفترة الماضية على الكثير من القوانين واللوائح التي تصب بنفس الاتجاه. وفي تقديري ان الرئيس صالح كان بوسعه الشروع بالمعركة قبل الآن لولا الأدوار السلبية التي لعبتها أحزاب المعارضة في اللقاء المشترك والتي وقفت بالمرصاد لكل قانون أو تشريع جديد، وعملت على تأليب الشارع ضد السياسات الحكومية، وأججت الإضرابات في كثير من المؤسسات الحيوية لتدفع بالحكومة إلى خطوات مبكرة تخل ببرنامجها للإصلاحات.. علاوة على إثارتها الشكوك داخل أروقة مجلس النواب ضد كل ما تقدمه الحكومة، فتسببت بعرقلة كثير من الإجراءات التي تعزز قدرات الدولة في مكافحة الفساد وإصلاح أنظمتها الإدارية والمالية. لا شك أن البرنامج الانتخابي للرئيس/علي عبدالله صالح تضمن الكثير من الطموحات الكبيرة، وقد تصدرت اهتماماته قضية مكافحة الفساد وتقليص معدلات الفقر.. وكلاهما مرتبطان بمستقبل التنمية الوطنية الشاملة، ومن هنا يمكن إدارك حجم المعركة التي تنتظر الرئيس في المرحلة القادمة، وكذلك حجم الجهود الوطنية التي يجب أن تتضافر من أجل كسب الرهان، وهي بالتالي ليست مرحلة اختبار قدرات ومهارات مسئولين حكوميين بقدر ما ستكون مرحلة قرارات حاسمة لا تقبل المماطلة أو التأجيل ولا حتى الإخفاق. إلى جانب ذلك فإن من غير المتوقع أن تكون المرحلة القادمة بنفس مساحة التغاضي والتسامح مع القوى الوطنية في ساحة المعارضة، إزاء الأخطاء والأزمات السياسية التي تفتعلها من حين لآخر وتجر الوطن بها إلى حالة توتر وقلق يعرقل مسيرة التنمية الوطنية وجهود الإصلاحات الأمر الذي ينبغي على هذه القوى إدراكه، والتعامل بمقتضى مسئولياته خاصة أن الانتخابات الرئاسية والمحلية على حد سواء قد حددت بكل حرية ونزاهة أين تكمن إرادة الشعب اليمني، وأين موضع ثقة الجماهير وأمانيها، ولا سبيل لأحد بالمزايدة على إرادة شعب.