كل واحد منا يعرف على مدار حياته عشرات، بل مئات الأشخاص، مختلفي التكوين والمرجعيات، والمواقع، والمشارب، والتوجهات، قريبين وبعيدين، كباراً وصغاراً... لكن الذين يتركون أثراً عميقاً في حياتنا يظلون قليلين. ومن بين القليلين الذين تركوا أثراً عميقاً في حياتي، كان الأستاذ المربي أحمد جابر عفيف.. الرجل الذي سيبدو دائماً من أكثر رجالات اليمن عصامية وقدرة على التطور والإنجاز.. فمهما اختلفنا أو اتفقنا معه ستظل هذه السمة مرتبطة في أذهاننا به كلما ذكرنا إنجازات النابهين الكبار من رجالات اليمن. الرجل الذي انطلق من مدينة بيت الفقيه المثخنة بجراح الحروب التي خاضها الزرانيق ضد الدولة المتوكلية كان كأنما يقرأ مستقبله في كفه.. جاء إلى صنعاء صغيراً عند مطلع الأربعينيات حين كان وجود التهاميين في العاصمة نادراً وغريباً.. ولكنه عاد إلى تهامة وقد كون نفسه علمياً، والأهم من ذلك أنه بدبلوماسيته وذكائه كان قد كون مجموعة كبيرة من الصداقات التي ظل يدأب على رعايتها ويضيف إليها حتى اليوم. وعندما تولى أول مناصبه مديراً لمدرسة المراوعة في النصف الثاني من الأربعينيات كان يجتمع في رعايته بشكل متزامن شخص بحجم الأستاذ أحمد نعمان، الشخصية المعروفة على مستوى اليمن كلها.. والشيخ سليمان سالم شيخ العبسية والربصا.. وبين هاتين الشخصيتين عشرات الشخصيات والوجاهات من علماء وأدباء وموظفين ومسؤولين وتجار. رُزِقَ العفيف عدة ميزات: ميزة القدرة على الاحتفاظ بصداقاته.. وميزة القدرة على الارتقاء دائماً إلى مراكز أعلى ومواقع أفضل.. وميزة القدرة على تطوير نفسه وتغيير طبائعه كلما اقتضى الأمر ذلك. وكانت ميزتاه الأولى والثالثة تخدمان دائماً ميزته الثانية.. فالقدرة على الاحتفاظ بالصداقات تظل دائماً من أصعب ما نواجهه في حياتنا.. فهي تحتاج مراساً صعباً وصبراً طويلاً، وقدرة غير عادية على التسامح والتغاضي والتماس المعاذير للأصدقاء.. كما تحتاج إلى تحمل ما ينتج عن ذلك من تبعات ومواقف.. وواجبات يجد المرء نفسه ملزماً بها تجاه أصدقائه في السراء والضراء. أما القدرة على تطوير النفس وتغيير طبائعها كلما اقتضى الأمر فهي أشق وأمرّ.. فنحن كثيراً ما نتحول إلى سجناء لطبائعنا الخاصة... وأمزجتنا، وما اعتدنا عليه.. وهذا كثيراً ما يؤثر في تحديدنا وتأطير صورنا وما تعكسه شخصياتنا عند الآخرين.. وبسبب تلك الميزات التي اتسمت بها شخصية العفيف.. انتقل الرجل انتقالات تعد إذا ما قرأناها في سياق ظروفه الأسرية والمجتمعية انتقالات كبيرة وذات أهمية غير عادية. بعد حبس تعرض له لفترة قصيرة عقب أحداث حركة 48م، بدأ العفيف يترقى في الإدارة التربوية، حتى عُيِّن مديراً للمعارف في لواء الحديدة في النصف الأول من الخمسينيات، ثمّ ما لبث أن عين مفتشاً بوزارة المعارف بصنعاء عام 1955م.. وبسبب فرادته الإدارية التي ينظر لها الكثيرون بوصفها الأنجح على مستوى اليمن خلال الخمسين سنة الماضية، وهي فرادة تجمع بين الحزم والإنجاز.. فقد ظل يترقى سريعاً في المناصب المختلفة، فعين مديراً لمستشفى صنعاء، حيث ظهرت أولى الدلائل القوية على روح الإنجاز التي يتمتع بها..عمل خلال تلك الفترة القصيرة التي سبقت قيام الثورة على إنشاء معهد التمريض وساعد في إيجاد برامج محو الأمية والتدبير المنزلي والتوعية الصحية للأمهات. هذا الإنجاز المهم في تلك الفترة أهله ليكون بعد الثورة مباشرة نائباً لوزير الصحة، بيد أن أول انتقالة مهمة في حياته تتمثل في عمله سفيراً لليمن في بيروت منذ عام 1963م حتى عام 1967م.. فقد كانت تلك الفترة من أكثر فترات حياته امتلاء بالتجارب والمعارف.. كما كانت فرصة جيدة لإقامة عدد كبير من الصداقات المتينة، يمنياً وعربياً.. وعندما أصبح منذ أواخر عام 1969م وزيراً للتربية والتعليم ورئيساً أعلى للتعليم العالي، كانت شخصيته قد بلغت ذروة نضجها، واتضحت كل ملامحها وسماتها.. فهو نموذج للنضال من أجل الهدف الذي يضعه نصب عينه، لا يكل ولا يمل من الاشتغال عليه، وهو نموذج للإداري الناجح الذي يضرب المثل بحزمه وقدرته على الإنجاز.. وهو يتوفر على شبكة من العلاقات الاجتماعية والسياسية تجعله قادراً على التغلب على العقبات والمعوقات التي يضعها التخلف والبيروقراطية والأمزجة المريضة في طريق كل مشروع أو فكرة تضيف وتطور. في تلك الفترة نجح في تأسيس التعليم، كما أشرف على إنشاء جامعة صنعاء، ومركز الدراسات والبحوث اليمني.. وكل واحد من هذه الإنجازات الثلاثة يكفي ليكون المرء عظيماً. منذ نهاية السبعينيات كان ظل رجال 48م ينحسر يوماً بعد يوم، فتوارى في الظل كثير من رجالات اليمن، حيث كان تواريهم طبيعياً بحكم تقدمهم في السن، كما كان نوعاً من الإزاحة بحكم ما استجد على الساحة اليمنية من متغيرات، وكان العفيف من قليلين سيبدو تواريهم غير طبيعي، فقد كان إبان ذاك ممن يتمتعون بحيوية سببها نظام صارم يطبقه في كل حياته، بدءاً من مواعيد النوم والاستيقاظ، مروراً بأوقات العمل وانتهاء بمواعيد الأكل والشرب، ونوعية ما يأكل.. كل ذلك إلى جانب ما اشتهر عن أسلوبه في الإدارة ونجاحاته التي تتحدث عنها إنجازاته، فقد كان صعباً أن يتوارى في الظل بين من تواروا رغم كل المتغيرات والظروف ورغبات الإزاحة التي بدت أحياناً متعمدة.. تولى العفيف في الثمانينيات رئاسة مجلس إدارة بنك التسليف للإسكان.. فكانت تلك فرصة ليضيف لإنجازاته منجزاً من أهم المنجزات التي تفاخر بها الدولة حتى اليوم، حين نجحت إدارته في إنجاز بناء مدينة حدة السكنية.. التي كان لعدد كبير من الأدباء والمثقفين نصيب فيها بسبب ارتباط العفيف بهذه الشريحة وميله الدائم إليها وتعاطفه معها، وقد بلغ من حرصه على أن يكون للمبدعين والمثقفين نصيب في تلك المدينة حد أن أرغم بعضهم إرغاماً على تسجيل اسمه بين المستحقين للسكن فيها. من رحلة العفيف الحياتية الحافلة بالإنجازات سأستثني المرات التي كان فيها عضواً في مجلس الشعب التأسيسي أو مقرراً للجنة الحوار الوطني، ولن أتوقف عندها..فالعفيف حسب اعتقادي لا يتجلى في العمل الجماعي، ولا يكون رأياً بين آراء، أو فكرة بين أفكار... فهو لا يحب الغناء في كورس، ولذلك فنحن لن نجد له إنجازاً ولن نجد موقفاً ينسب أو يحسب له في تلك السياقات.. هو يتجلى حين يكون صاحب قرار.. حين يكون رب الفكرة ومنفذها.. فهو إداري ناجح حتى لو تخيلته في مكان بعيد نسبياً عن تخصصه.. أذكر أن الشاعر الكبير إبراهيم الحضراني رحمه الله كان يحدثني ذات يوم عن أولى مشاركاته في المهرجانات الأدبية.. وكان ذلك سنة 1958م في الكويت.. قال: (كنا أنا والشماحي وفلان (شخص لا أذكر اسمه الآن) وعلى رأسنا أحمد جابر عفيف. قلت له: سنة 1958م.. في تلك الفترة المبكرة.. ما الذي رشح العفيف ليكون على رأسكم؟ أنتم شعراء وأدباء، فما دخل العفيف آنذاك؟ قال: لزوم الإدارة الجيدة والأناقة وحسن التصرف.. لهذه الأسباب كان العفيف رئيساً للوفد. وإذا كان من المتفق عليه أن الأشخاص الاستثنائيين في تاريخ الأمم والشعوب، قد وجد بينهم من جمع بين أكثر من موهبة أو نبغ أكثر من مرة، فإن من المؤكد أن العفيف قد أضاف المنجز الأهم في حياته قبل نهايتها بقليل، وهذا بحد ذاته نبوغ كبير.. فالرجل رغم تاريخه الطويل لم تتضح معالمه رائداً من رواد التنوير الفكري والسياسي والاجتماعي، ورمزاً من رموز الحداثة والتطوير، وإدارياً ناجحاً، ورجلاً قادراً على التغير والتغيير إلا بعد إنشاء مؤسسة العفيف الثقافية التي تحولت منذ منتصف التسعينيات إلى أهم منبر للمشهد الثقافي والإبداعي في اليمن، كما تحول العفيف إلى نموذج للقدرة على ملامسة احتياجات الثقافة اليمنية في لحظة مفصلية من أهم اللحظات في تاريخ اليمن.. وقد تجلت تلك القدرة العفيفية على الملامسة في إصدار الموسوعة اليمنية.. على أن أهم ما سيحسب للعفيف من قبل جيلنا هو البرامج الثقافية التي تصدت لها مؤسسته منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، والمبادرات الثقافية المهمة التي تلقيناها منه في النصف الثاني من التسعينيات، والتي كانت تساهم كثيراً في دفعنا للنجاح وللظهور على الساحة الثقافية بشكل عام. لكل ذلك فإن الحديث عن الأستاذ المربي أحمد جابر عفيف بالنسبة لجيلنا على وجه الخصوص بمقدار ما سيكون حديثاً عن الأب الأستاذ المربي والقدوة.... سيكون أيضاً حديثاً عن الاستثنائي الذكي اللماح المستعد دائماً للتغير والتغيير. بوجه من الوجوه سيبدو الحديث عن العفيف من قبل أدباء ومثقفي جيل التسعينيات في اليمن... حديثاً عن واحد منهم... إنه الوحيد الذي كسر حاجز الزمن... وتغلب على شعور جيل الرواد ورجال التنوير الأول.... بالامتلاء... والاكتفاء بما قدموه عبر عقود الأربعينيات والخمسينيات وحتى الثمانينيات... الوحيد الذي أعلن بشجاعة وقدرة كبيرة على التحرر من الحواجز وعقد الاستعلاء... أن جزءاً من كأسه لا يزال فارغاً... وأن حاجته للتواصل مع أجيال جديدة... ربما يتجاوز كثيراً رغبة هذه الأجيال في التواصل معه. العفيف الذكي اللماح... استطاع من بين كل أبناء جيله أن يلتقط لحظة انفجار المشهد الجديد.. ويلمح بروح يقظة التبدلات الجوهرية التي طرأت.. واستطاع في الوقت المناسب تماماً جعل مؤسسته أهم منبر ثقافي يحتضن المشهد الجديد ويقدمه ويعبر عنه. كان المشهد التسعيني شاباً... شاباً في كل تجلياته.. وكان العفيف أكثر شباباً وانسجاماً مع شباب ذلك المشهد. كانت مبادراته تسبق مبادراتنا... وقدراته على فتح آفاق جديدة لنا تتجاوز محاولتنا لاجتراح تلك الآفاق. سأعترف - اليوم - وأنا صاحب تجربة مميزة في الاقتراب من العفيف والعمل معه.. والتعلم منه.. أننا لم نفهمه كما يجب.... وأن نقصاً من جهتنا - ربما بسبب قلة خبرتنا-حال كثيراً دون مجاراتنا له.. مجاراة تستوعب الآفاق الواسعة لتجربته.... والتوق المتفجر لروحه... الشابة المعطاءة. لقد وضع العفيف بإصرار ومثابرة غير عاديين.. بصماته على حياتنا الثقافية والأدبية وكانت بصماته إيجابية أكثر من بصمات أي رجل آخر من مجايليه.. كما كانت مؤسسته الأفضل إنجازاً من أي مؤسسة خاصة أخرى... لقد حمت استنارته.. وتمسكه بالروح الوطنية الواعية.. مؤسسته.. من التحيزات والتفضيلات الضيقة التي وقعت فيها... مع الأسف الشديد مؤسسات كثيرة حاولت فيما بعد.... ترسم خطى التجربة. وإذا كانت هذه الوقفة معه محاولة مني للتعبير عن الامتنان لرجل عظيم..... أعطانا الكثير... وبذل ما في وسعه وزيادة للاحتفاء بنا...وتقدير ما عندنا فإني وأبناء جيلي إنما نحتفل بأول ثماره فينا نضجاً... فثمة ثمار كثيرة سيعلن المستقبل عن نضجها.. من خلال ما زرعه فينا ومن خلال ما ستظل مؤسسته الرائدة تقدمه لأزمنة طويلة قادمة... إنها فقط قطرات نقدمها لشجرة طرحت لنا الكثير من غذاء الأرواح والعقول. - عن القدس العربي