يبدو أن روسياوالصين تسعيان من خلال تحركاتهما في اتجاهات عدة لتعزيز علاقاتهما السياسية والاقتصادية والعسكرية وإقامة تجمعات إقليمية نحو التحول إلى قطب جديد في العلاقات الدولية، يعيد معادلة توازن القوى إلى نصابها، لكن هذا التحول يظل مرهونا بصورة خاصة بالإرادة السياسية للدولتين العظميين. وتعتبر مجموعة شنغهاي للتعاون من قبل الكثير من المراقبين قوة توازن النفوذ الأميركي في وسط آسيا وهي منطقة غنية بالمحروقات تملك كل من الصينوروسيا مصالح استراتيجية فيها. وولد ظهور النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد المعسكر الاشتراكي ظاهرتين: تمثلت الأولى في سيطرة الولاياتالمتحدة الأميركية على العلاقات الدولية وما ترتب على ذلك من سياسة إملاء وتدخل مكشوفة وتجاهل لدور هيئة الأممالمتحدة.وتمثلت الثانية في الرفض الضمني لهذا النزوع من قبل أغلبية دول العالم. وأشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ في بيان مشترك صدر عنهما في ختام محادثاتهما بشنغهاي أمس الثلاثاء إلى أن موسكو وبكين تعتزمان التصدي بحسم لأي تدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ودعا الزعيمان إلى التخلي عن لغة العقوبات أحادية الجانب، وتمويل أو تشجيع النشاطات الرامية إلى تغيير النظام الدستوري في أية دولة أو إلى جرها إلى اتحادات متعددة الأطراف أو أحلاف. وأكد الرئيسان ضرورة الحفاظ على استقرار العلاقات الدولية والسلام والأمن على المستويين المحلي والعالمي وتسوية الأزمات والخلافات ومكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للقارات والتصدي لانتشار أسلحة الدمار الشامل. وخلال مشاركته في الجلسة العامة لقمة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سيكا) المنعقدة في بشنغهاي أكد بوتين على ضرورة إنشاء هيكلية أمن جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تضمن الطابع المتكافئ للتعامل بين الدول وتحول دون ظهور "أحلاف مغلقة". وقال بوتين "تحتاج المنطقة إلى هيكلية أمن تضمن الطابع المتكافئ للتعامل والتوازن الحقيقي للقوى وانسجام المصالح". وأعرب بوتين عن ثقته بأن هذه الهيكلية يجب أن تعتمد على مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة. وتابع الرئيس الروسي أن دول المنطقة ما زالت تواجه تحديات وأخطارا مختلفة منها انتشار أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، والتطرف الديني، والجريمة العابرة للقارات، والقرصنة. وذكر أن هناك عوامل أخرى تؤدي لزعزعة الاستقرار في المنطقة ومنها الأزمة السورية وتعثر التسوية الشرق أوسطية. وأكد بوتين أنه لا يمكن التصدي لكل هذه التحديات إلا ببذل جهود جماعية موجهة. وجاءت تصريحات بوتين بعد أن دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال الجلسة إلى إنشاء هيكلية أمن جديدة في المنطقة، مؤكدا على ضرورة حل جميع الخلافات بين الدول بالوسائل السلمية مع استبعاد إمكانية اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدامها. تحركات خارجية في اتجاهات عدة يقوم بها القادة الروس، والهدف في كل الأحوال هو تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين موسكو وعواصم عديدة. وتوقيت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين الى الصين لا يمكن أن يكون أكثر دقة مما هو عليه، فهو من جانب يقوم بتدعيم الروابط الراسخة أساساً مع الجيران جنوبا، ومن جانب آخر يوجه رسالة إلى الغرب مفادها أن العقوبات التي يسعى لفرضها لن تؤثر بأي شكل على الاقتصاد الروسي، إذ أن البدائل الإقليمية والدولية متوفرة، والضرر إن كان سيلحق بطرف، فهو سيلحق بالدول الغربية التي ستطبقه. اقتصادياً، صفقة تاريخية بين شركة "غازبروم" الروسية وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية سي إن بي سي "CNPC" لتوريد الغاز الروسي من شرق سيبيريا إلى الصين لمدة ثلاثين عاما، والتي قد تصل قيمتها إلى أكثر من أربعمئة مليار دولار، هذه الصفقة تعد إحدى أكبر الاتفاقيات الدولية في مجال توريد الطاقة، وهو أمر يوثق العلاقات بين الجانبين، ويفتح الباب أمام موسكو لكي تنوع زبائن الطاقة وتتجه نحو خلق توازن في الأسعار الدولية للغاز. إضافة إلى ذلك، أكد الجانبان عزمهما على زيادة التبادل التجاري بين البلدين وتطوير علاقاتهما التجارية وتعزيزها بشكل نوعي. توافق ورؤية متقاربة فيما يتعلق بأغلب الملفات والقضايا السياسية إن لم نقل بها كلها، وعلاقات اقتصادية تتعمق وتتعزز بمزيد من مشروعات التعاون والتبادل التجاري.. نجاح متكامل، هو ما تمثله نتائج مباحثات الرئيس الروسي هنا في شنغهاي. وتسلمت الصين اليوم رئاسة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا من تركيا. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الروسي بالإضافة إلى مشاركته في فعاليات المؤتمر، سيلتقي اليوم نظيره الإيراني حسن روحاني قبل أن يغادر شنغهاي عائدا إلى موسكو. وبحث الرئيس الروسي في مدينة شنغهاي الصينية مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الوضع في أوكرانياوسوريا. وقال الناطق باسم الأممالمتحدة ستيفان دوجاريك أمس الثلاثاء إن "الأمين العام والرئيس الروسي اتفقا على أن الأزمة في أوكرانيا يمكن حلها سياسيا فقط وعن طريق الحوار الشامل"، موضحا أن الأمين العام أشار إلى أن الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا ستتيح "إمكانية للتحرك نحو سلام واستقرار طويل الأمد في البلاد". وأضاف دوجاريك أن بوتين بحث مع بان كي مون الوضع في سوريا وإمكانية التسوية السياسية في البلاد وإيجاد حلّ للمشاكل الإنسانية التي يعاني منها اللاجئون السوريون. ويرى خبراء كثيرون في مجموعة شنغهاي ملامح قطب جديد معارض أخذت تبرز من خلال التطورات التي شهدتها في السنوات الأخيرة. وتضم منظمة شنغهاي كل من روسياوالصين وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان وطاجيكستان، وتتمتع كل من الهند وإيران وباكستان وأفغانستان ومنغوليا بالعضوية المراقبة. ونشأ خماسي شنغهاي أو"مجموعة شنغهاي" أو "منتدى شنغهاي على إثر اجتماعات عديدة عقدت في منتصف التسعينيات بين لجان خبراء من الدول الخمس وهي الصينوروسيا وكزاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان لحل الخلافات الحدودية والاتفاق على إجراءات ثقة في المجال العسكري لتخفيف التوتر في المناطق الحدودية ومن ثم توقيع اتفاقية بهذا الشأن. وقد توجت هذه الاجتماعات بعقد اجتماع قمة في مدينة شنغهاي الصينية في أبريل1996 أسفرت عن توقيع اتفاقية حول إجراءات الثقة في المجال العسكري ودشنت ميلاد الخماسي. وفي هذا الاجتماع تم الاتفاق على عقد اجتماعات قمة سنوية في عاصمة إحدى الدول الخمس. كما أرست اتفاقية شنغهاي الأولى الأسس الراسخة لترسيم الحدود بين الصين والاتحاد السوفياتي السابق بطول يبلغ عشرة آلاف كم وعمق بلغ في أحيان كثيرة 200 كم. وقد طورت هذه الاتفاقية في قمة موسكو عام 1997 لتشمل أمن الحدود وإجراءات الثقة وتقليص الأسلحة والقوات المسلحة في المناطق الحدودية. وقد شكلت قمة بشكيك المنعقدة في أغسطس 1999 انعطافا متميزا في تطور الخماسي، إذ صدر عنها إعلان سمي "إعلان بشكيك" الذي رسم ملامح تطلعات إقليمية ودولية جديدة تجاوزت الأطر المعلنة لعمل الخماسي، واتضحت فيها ملامح الأهداف الرئيسية التي يطمح المنتدى إلى تحقيقها. وتتشابك مجموعة شنغهاي بالكثير من المصالح ، فهي تقع على امتداد جغرافي واحد، وتخشى بنفس القدر تقريباً طغيان الهيمنة الأميركية في العلاقات الدولية. وتبقى الآفاق المستقبلية الإقليمية والدولية للمجموعة مرتبطة بمدى فاعلية عملها ونجاحها في تنفيذ مهامها وتحقيق أهدافها، ويبدو أن نجاحها في إنجاز حل عقلاني وحكيم لمشكلة معقدة كمشكلة الحدود بين الصين والاتحاد السوفياتي السابق -والتي كادت أن تفضي إلى حرب بينهما لأكثر من مرة)-أغرى الدول الأعضاء في المجموعة للمضي به قدما من جهة، وجعل دولا عديدة تنظر إليه بعين الاحترام وتفكر في الانضمام إليه من جهة ثانية. وبمجرد قبول أوزبكستان في عضوية خماسي شنغهاي كان لابد بالضرورة من تعديل اتفاقية الحدود وتغيير تسمية الخماسي الحدودي، وقد اقترح اجتماع وزراء الخارجية في موسكو في تلك الفترة تسميته ب "منتدى شنغهاي"، مما اكسبه طابعا حقوقيا واقتصاديا أوسع بكثير مما يتضمنه التجمع الإقليمي. وليس سرا أن تحوله إلى منظمة إقليمية وسع وعزز احتمال ارتقائه بالتدرج الحكيم -على الطريقة الصينية- إلى قطب جديد في السياسة الدولية. ويرى الكثير من المراقبين أن أميركا تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون نشوء أي تحالف بين دول آسيا الوسطى ودول شرق آسيا وعرقلة بروز قوة مركزية في القارة الآسيوية قادرة على منافستها حتى في المستقبل البعيد. ويبرر المراقبون والخبراء رأيهم هذا بالسعي الأميركي الحثيث لفصل أوكرانيا عن الدوران في فلك السياسة الروسية من ناحية, ونسف أي تقارب صيني روسي يمكن أن يفضي إلى تحالف بينهما، مما يعني أن الولاياتالمتحدة ستحاول قدر الإمكان تقويض منتدى شنغهاي وتطويقه لاعتبارات إستراتيجية جيوسياسية وعسكرية أمنية. ويتكهن البعض بأن أميركا ستفعل ذلك من خلال روسيا، إما عبر جذبها إلى المسار الأوروبي وإما من خلال الإيقاع بينها وبين الصين. وكان الدور الروسي وأساسيا وحاضرا في كل المناسبات الدولية لمنتدى شنغهاي لدرجة ويمكن القول إن روسيا في طريقما إلى استعادة دورهما كلاعب دولي أساسي، وأنها تسعى بالفعل إلى تأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بدلاً من نظام الأحادية القطبية الذي فرضته الولاياتالمتحدة، أو حرصت على أن تفرضه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط نظام القطبية الثنائية. ولقد نجحت روسيا في أن تفرض نفسها كقوة عالمية جديدة فاعلة ومشاركة بجدارة وقوة في صنع القرار الدولي على أساس التمسك بالحلول السياسية للمشكلات، وتأسيس شراكة دولية تعددية واسعة لإدارة النظام الدولي، والتمسك بالشرعية الدولية القائمة على احترام ميثاق الأممالمتحدة والقانون الدولي، وإعلاء شأن المؤسسات الدولية خاصة الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي، مع الالتزام بتطبيق القانون في كل الظروف.