Nagla alomari 2002@ yahoo.com تتقمصك المدينة أو تتقمصها في تلك الأقاصي الموجعة.. تحملك بشرى المقطري بين أزقة مكتظة بالأدخنة وفضآت معطبة وشوارع مأهولة بالضياع، تحيطك بظلالها الداكنة وسماواتها المكتظة بالبكاء.. تختلط عليك المدينة بالموت والأنثى بالمدينة ثمة علاقة تستشفها من قصص المجموعة كأنما هي قصة واحدة.. قصة إنسان يشبه المدينة ومدينة هي الإنسان بعينه، إنك تدخل المجموعة قارئاً وتخرج منها مدينة مأهولة بالإحساس الجارح، تتسكع في شوارع قلبك فتكتشف أنك انتهيت إلى.. البداية. عرفت القاصة المبدعة بشرى المقطري في البدايات وهي تتسرب من جراح مدينة تعز شيئاً فشيئاً في المجموعة بدت لي بشرى مكتملة الجرح بديعة التكوين، انها تتخلص من عجرفة اللغة إلى عمق المعاني والأحاسيس وتنزل من بروج الكلمات العاجية إلى واقعية الألم الإنساني في غير تكلف أو تصنع، وفي اقاصي الوجع تبلغ بك أقصى ما تستطيع من الوجع دون أن تتفلت من اللغة المكثفة والصور المدهشة والأسلوب المختزل الدقيق. "أرخيت ظهري، مستندة إلى المقعد، أرحت أكوام الوجع القابلة للانهيار، وبدأت أرتشف الليل فناجين من القهوة، فعربدت الأغاني في ضفاف القلب". ثمة أدوات ترفع لغة السرد إلى مستوى رشيق من الشاعرية "الدخان مدى لنهاية الأشياء" "عيناك تنهبان المدى المتصلب" ، "فنريق الخطى على الشوارع المأهولة بالضياع". * صورة المدينة في نصوص المجموعة: إنها مدينة بلا رائحة كما تصفها القاصة بأفقها الرمادي ومداها المتصلب، مدينة الحصار (وارتجت في أعماقه مدن الحصار)، ثمة مقاربة مؤلمة بين المدينة وهذه الحياة التي تحاصرنا.. فالقصة تجسد ملامحنا عن طريق المدينة الضاجة من حولنا بهزائمنا وأدخنة ارواحنا: (كانت المدينة تطفو من شقوق المرايا، لم يكن وجهها مألوفاً في تلك اللحظة، كأني لا أعرفها ابداً. قتامة داكنة انعكست على المنازل المضاءة، وعلى الحياة الراكضة بقسوة). * المدينة الأنثى ثمة هزيمة تجمع بين الأنثى والمدينة في هذه المجموعة، ففى قصة (وجوه الليل) تجسد القاصة هزيمة المرأة النفسية في مجتمع يحتقر كينونتها ويختزلها في شكلها الجسدي المجرد: دكان الرجل لا يزال يرمقني بعينيه، وأنا أصد اشتباكاته بالجسد الذي بدأ في التفسخ، دافعة وابل السهام المتطايرة بجدار الصمت المثخن بالنزيف. أخذت المرأة تقشر ملامح وجهي مبعثرة همهماتها في الجو المشحون بالإغواء والإهانة. (نزلت من الباص، وأوغلت في أزقة المدينة، متشبثة بفيض العتمة، في حين اجهشت روحي بالبكاء مرتطمة بوجوه الليل). فالمدينة لدى القاصة هي (المدن المبللة بالهزائم) والتي لا تنسى جراحها، الاثنى التي تظل ذاكرتها حية بتواريخها المؤلمة. (تمنيت لو يزحف البحر ويلعق اقدامها المتشققة، ربما ازهرت احلامنا). * المدينة والألم كيف تفيض المدينة بكل هذا الألم؟! لو مشطته الشوارع والأزقة الطاعنة في السن، وكيف تحمل كل هذا الجحيم (ودون ان تدري طفقت المدينة تخصف من ورق الجحيم لتسد عريها). انها مدينة خاوية من الحياة تشتعل دخاناً كورقة صغيرة ويؤججها عود ثقاب! تتقلب في الفراغ وتحترق من أطرافها: (انه اليوم، وغداً، وبعد غد، وبعد بعد غد: مدينة من فراغ تحتسي وجع رجل فارغ لبعض الوقت..) انها المدينة التي تطفح بأحزانها بذاكرتها المتعفنة: (لترى المدينة تدخل إلى نفسها، لتغسل فصول ذاكرتها المتعفنة). * المدينة الموت: (ايه يالأجينات اقتربي على مهل والتهمي قلب المدينة، فما تبقى أي شيء). "الأجينات" مقبرة في مدينة تعز، ترمز فيها القاصة إلى الفناء الذي يستولي على المدينة التي لم يتبق فيها ما يدل على الحياة، فهي مجرد انقاض "انقاض المدن الجريحة وهي تلعق احزانها وترمم اشلاء ها بكبرياء عظيم". هذه المدينة المثخ نة بالموت يتوزع طرقاتها ويغلق عليها ابوابها: (مغلقة المدينة في الساعة الأولى من الموت، موحشة الطرقات، هراء الوطن هراء!). وفي ظل جنون الحياة الأخير الذي يتوشح المدينة، تتوزعنا الافكار والهواجس فالمدينة والحياة والإنسان والانثى والألم والموت مترادفات لدى القاصة وكل تلك المترادفات تفضي إلى شيء واحد اختتمت به القاصة مجموعتها وهي "الأجينات"! تخوم الاجينات بعيدة، وفي حدودها القابلة للإنزياح اخترت مكاناً مزيداً، بعيداً عن فضول الموتى كي تمارس فيه جنونك ولتكتب القصة التي لم تبدأها بعد.. إيه يالأجينات اقتربي اكثر.. تمددي تمددي.. فما تبقى أي شيء. صحيفة الناس