اغتال مجهولون في الرابع عشر من شباط فبراير الجاري رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.وكان مجهولون -لم يكشف النقاب عن هويتهم بعد- قد حاولوا أواخر العام الماضي اغتيال مروان حمادة الوزيرالسابق في حكومة رفيق الحريري المستقيلة. يتم ذلك في وقت يعيش فيه لبنان أزمة سياسية لم يسبق لها مثيل منذ نهاية الحرب الأهلية في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي. كائناً من كان المسؤول عن جريمة قتل رئيس الوزراء اللبناني السابق فإن اغتياله يهدف إلى تحقيق أغراض تتصل بمصير لبنان برمته وليس بمصير حكومة من هنا أو تغيير في الخريطة النيابية من هناك.وحجة هذا القول تكمن في الخطوط العريضة التالية: أولا:من المعروف أن الحريري يلعب دوراً محورياً في السياسة الاقتصادية اللبنانية. فقد جمع حول لبنان المستثمرين الأجانب الذين يثقون به واستطاع أن يستفيد من علاقاته الدولية في الحصول على اتفاقيات باريس 1 وباريس 2 التي أنقذت البلاد من الاختناق الاقتصادي. وإذا كان لابد من الانتظار ثلاثة أيام أخرى لمعرفة انعكاس اغتياله على سعر صرف الليرة اللبنانية فإن الأمر المؤكد هو أن تعرض لبنان لأزمات اقتصادية مقبلة سيتم في غياب مبادر ذي وزن دولي هام كالرئيس الحريري وبالتالي لن يكون حل هذه الأزمات سهلاً بنفس القدر الذي تم في عهد رئيس الوزراء اللبناني الراحل. هكذا يبدو أن اغتياله يراد منه تعطيل وسائل لبنان الاقتصادية الفعالة وإضعاف هذا البلد الذي لا يملك ثروات طبيعية ومصدر عيشه الوحيد يأتي من أبنائه ومن خبراتهم وعلاقاتهم ومواقعهم الاقتصادية الخارجية. ويزداد حساب العامل الاقتصادي أهمية في عملية الاغتيال إذا عرفنا أن الدول تقاوم وتمانع انطلاقاً من وسائلها المتعددة وفي طليعتها الوسائل الاقتصادية وتضعف وتتراجع بقدر ما يضعف اقتصادها وتعز وسائلها الاقتصادية ما يعني أن اغتيال الحريري يرمي في الصميم إلى إضعاف لبنان برمته من خلال زعزعة اقتصاده وحرمانه من احد أهم أقطابه الاقتصاديين. ثانيا: استهدف الاغتيال طرفاً كان يسعى إلى الحفاظ على روابط بين كل اللبنانيين. يلاحظ ذلك من خلال اقتراعه على التمديد للرئيس إميل لحود من جهة وتقربه من المعارضة التي رفضت التمديد من جهة أخرى. ومن خلال تمسكه باتفاق الطائف الذي أجمعت عليه كل الفئات الأساسية في لبنان. وتفيد تصريحات المسؤولين في المعارضة والموالاة على حد سواء خلال الساعات التي تلت اغتياله أن الطرفين كانا يلتقيان الحريري دون أن يلتقيا مباشرة بين بعضهما البعض وانه كان بهذا المعنى جسراً ورابطاً بينهما ولعل قتل الرابط يراد منه اتساع القطيعة بين المعارضة والموالاة ومنع التواصل بينها عبر طرف ثالث ومع اتساع القطيعة تتسع الأزمة ومع اتساعها تندر الحلول السياسية ومع ندرة الحلول السياسية تفتح الأبواب أمام المغامرات الطائفية ومن المغامرات الطائفية يولد العنف والحرب والخراب وهذا ما لا يرغب لبناني واحد في وقوعه. ثالثا:كان الرئيس رفيق الحريري شخصية محورية في لبنان لكننا نعرف أن الشخصيات المحورية تولد أولا في محيطها المباشر وفي بيئتها وهو كان بهذا المعنى محورياً في الطائفة المسلمة التي ينتمي إليها.ويشق عليّ أن أتحدث عن الطائفية لكن مع الأسف ما زال لبنان يقوم في تمثيله السياسي على التوزيع الطائفي.ومن الواضح أن اغتيال شخصية محورية في طائفة معينة يرمي إلى إعادة النظر في ترتيب هذه الطائفة ومن ثم ترتيب القوى في البلاد بأسرها وهذا أمر في غاية الخطورة في بلد يعيش أزمة سياسية.نحن نعرف أن إعادة ترتيب القوى في عالمنا العربي مسألة معقدة وصعبة في ظروف عادية وهادئة وهي تكون أكثر صعوبة وأكثر خطورة في ظل ظروف استثنائية وعلى وقع أزمة سياسية طاحنة كالأزمة اللبنانية.وهنا أيضاً يبدو استهداف الراحل وكأنه محاولة لصب الزيت على النار وبالتالي إشعال حريق في البلاد لا يستفيد احد منه إلا أعداء لبنان والذين لا يرغبون أن تسوده الديموقراطية والاستقرار والاعتزاز الوطني والكرامة. رابعاً: من المعروف أن الرئيس الحريري ينتمي إلى مدينة صيدا عاصمة الجنوب اللبناني وهذه المدينة شهدت في العام 1975 اغتيال زعيم بارز فيها هو النائب الراحل معروف سعد.ومن المعروف أن اغتياله كان واحداً من ابرز أسباب الحرب الأهلية اللبنانية فهل يتكرر السيناريو ثانية اقله من الناحية الرمزية؟ مرة أخرى لا يرغب لبناني واحداً في عودة الحرب إلى لبنان لكن المشكلة أن الحروب تتم عادة دون استشارة أبناء لبنان ودون الاستناد إلى أصواتهم أو آرائهم. هكذا تبدو جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري أبعد من أن تكون جريمة اغتيال بسيطة لأسباب بسيطة وابعد من أن تكون جريمة انتقامية انما جريمة يراد منها اغتيال بلد بكامله لذا ربما يتوجب على اللبنانيين في هذه اللحظات الصعبة أن يعملوا على مقاومة الأهداف الشريرة التي تقف خلف عملية الاغتيال وذلك عبر تكاتفهم والبحث عن حلول مناسبة لمشاكلهم و علاج أزمتهم بهدوء وعبر أسلوب المساومة الذي تبين انه الأكثر فعالية في تعطيل الأفخاخ والألغام المنصوبة لبلادهم والتي ما برحت تنفجر في وجوههم بين الحين والآخر. حتى لا يحقق المجرمون والإرهابيون الذين اغتالوا الحريري أهدافهم ربما على اللبنانيين أن يعيدوا نصب الجسور بين بعضهم البعض والكف عن توجيه الاتهامات لبعضهم البعض والبحث عن الحد الأدنى الذي يوفق بينهم وترك الحد الأقصى إلى زمن آخر وظروف أكثر ملاءمة وهدوءا. نعم في زمن الحد الأقصى من الخطر على اللبنانيين أن يقبلوا بالحد الأدنى من الوفاق.هذا إذا أرادوا أن ينقذوا بلدهم من الهلاك.