يثير إغتيال رفيق الحريري مخاوف حقيقية على مستقبل لبنان، ليس لأن اسم الرجل ارتبط بعملية إعادة بناء البلد فحسب، بل لأنه تحول ايضاً زعيماً وطنياً وعربياً بكل معنى الكلمة. من اغتيل في بيروت يوم 14 فبراير 2005م ليس مجرد رجل اعمال جمع ثروة كبيرة في السنوات ال25 الماضية بل أنه الرجل الذي اعاد لبنان الى الخريطة انطلاقاً من اعادة بناء الوسط التجاري لبيروت. ما فعله رفيق الحريري كان تحويل حلم الى حقيقة، استطاع اعادة الحياة الى قلب لبنان الذي قطع اوصاله المسلحون من كل الفئات اللبنانية وغير اللبنانية بهدف واحد وحيد هو الا تكون للبلد الصغير قيامة يوما ما. ولذلك يمكن القول إن الذين اغتالوا رفيق الحريري انما حاولوا اغتيال لبنان، بل يعتقدون انهم اغتالوا لبنان بالفعل. لم ينتقم هؤلاء من رفيق الحريري انما انتقموا من لبنان، واذا كان لابد من تقويم موضوعي لإبعاد الحدث، يمكن القول ان الذين نفذوا الجريمة يمكن ان يحققوا الهدف الذي ابتغوه نظراً الى ما كان يمثله رفيق الحريري على الصعيدين الوطني والاقليمي والى انه لا يوجد حالياً من يسد الفراغ الذي خلفه بأي مقياس من المقاييس. في مسيرته الطويلة التي بدأت في صيدا عاصمة الجنوب اللبناني حيث ولد في عائلة فقيرة، إلى تحوله زعيماً وطنياً وعربياً تفتح له ابواب العواصم العالمية، اي عواصم دول القرار، اعاد رفيق الحريري صياغة لبنان وصنعه. اعاد صياغته عبر دوره في اتفاق الطائف، واعاد صنعه من خلال عملية البناء والاعمار، وإعادة الحياة إلى بيروت وإلى وسطها التجاري بكل ما في ذلك من ابعاد انسانية نظراً الى أن وسط بيروت كان دائماً المكان الطبيعي الذي يلتقي فيه اللبنانيون من كل الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعية.. جمع الحريري بين اللبنانيين كما اعاد العرب الى لبنان، اين الجريمة في ذلك؟ نعم هناك مخاوف على لبنان، واذا كان اللبنانيون اجمعوا على توجيه الاتهام إلى النظام في سورية من دون ان يكون لهم الحق في ذلك في غياب الادلة الدامغة على التورط السوري في عملية الاغتيال، الا انه يبقى ان الوجود السوري في لبنان يحمل سورية مسؤولية كبيرة على رأسها حماية السلم الاهلي والوقوف علي مسافة واحدة من الجميع بالفعل وليس بمجرد الكلام. عليها عمل ذلك في بلد تتحكم فيه بكل القرارات السياسية بدءاً بفرض التمديد لرئيس الجمهورية وانتهاءً بمنع ارسال الجيش إلى «الخط الأزرق» في الجنوب لحماية لبنان من غضب المجتمع الدولي ومنع اسرائيل من استغلال الهامش الذي يتيحه لها غياب الجيش عن تلك المنطقة. انه غياب في غاية الخطورة في ضوء الموقف الواضح للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها الداعي الى ان يحمي جيش لبنان حدوده بعد تنفيذ اسرائيل قرار مجلس الأمن رقم (425)، حسب المفهوم الدولي للقرار. فأي دور للجيوش اذا كانت ستتخلى عن حماية حدود البلد الذي تنتمي اليه؟ هل دور الجيوش سياسي في هذه الحالة، أي الانتقال من الحدود إلى العاصمة ومركز القرار للتحكم به ما يحصل في الديكتاتوريات العربية وغيرالعربية؟ في 13 ابريل (نيسان) 1975م، اندلعت الحرب الأهلية في لبنان ولم تتوقف الا بتوقيع اتفاق الطائف في العام 1989م ثم بإنهاء تمرد العماد ميشال عون الذي أصر وقتذاك علي البقاء في القصر الرئاسي في بعبدا رافضاً فهم المعطيات الداخلية والاقليمية الجديدة واستيعابها. وما قد يثير المخاوف في ايامنا هذه ان التمهيد ل13 ابريل انما حصل في فبراير (شباط) من العام 1975م عندما اغتيل الزعيم الوطني معروف سعد في صيدا في ظروف غامضة. وكانت تلك الجريمة مؤشراً الى أن البلد دخل مرحلة جديدة قضت على السلم الأهلي. فهل يعيد التاريخ نفسه مرة اخرى بعد ثلاثة عقود على اغتيال معروف سعد؟ هناك خوف من نوع آخر على لبنان مصدره الظروف الاقليمية، فقد جاء اندلاع احداث 1975م بعد أقل من سنتين من الفورة النفطية التي شهدتها دول الخليج. وكان طبيعياً وقتذاك ان يتوجه جزء من الثروة العربية الى بيروت بصفة كونها مركزاً مالياً عالمياً. لكن الحرب الاهلية التي هي في الوقت ذاته حروب الآخرين على ارض لبنان ألغت بيروت. وكان رفيق الحريري اعاد للبنان وعاصمته دورهما بعد ما يزيد على عقدين من عملية الإلغاء التي ارتدت طابعاً منظماً تولته ميليشيات لبنانية ومنظمات فلسطينية لا تزال احداها تعيش حتى اليوم من التحف والاموال التي نهبتها من صناديق الأمانات الكائنة في احد المصارف العاملة في بيروت (البنك البريطاني تحديداً). ان الدول العربية المنتجة للنفط تشهد حالياً فورة مالية جديدة يمكن للبنان ان يكون احد المستفيدين منها، فهل المطلوب إلغاء بيروت ودورها مجدداً كما حصل في العام 1975م كي يستفيد غيرها من الفورة المتجددة؟ وكيف يمكن لعربي ان يستفيد -طرفا ما- على حساب لبنان في حين ان ليست لديه أية مقومات تسمح له بذلك؟ هناك تشابه بين المقدمات التي رافقت اندلاع الحرب الاهلية في السبعينات وما يحصل الآن، ولكن مع فارق يتمثل في ان اللبنانيين توحدوا اكثر من اي وقت بعدما بلغهم نبأ اغتيال رفيق الحريري. وساروا كلهم في جنازة الشهيد.. والمعنى بعبارة «كل اللبنانيين» لبنان الحقيقي وليس لبنان الدمى. لقد وحد رفيق الحريري اللبنانيين باستشهاده أكثر بكثير مما وحدهم عندما كان لايزال حياً.. فقد ادرك خصومه بعد غيابه انه صارت لهم حيثية بفضل وجود رجل اسمه رفيق الحريري وبفضل ما صنعه رفيق الحريري للبنان ومن اجل لبنان. تولد ردود الفعل على غياب الرجل الكبير بصيص أمل في ان لبنان سيقوم من الضربة التي وجهت اليه وانه سيخرج منها. وذلك ليس لان هناك وعياً لدى المجتمع الدولي بأن الجريمة تستهدف تحويله إلى ورقة ضغط تستخدمها قوى خارجية فحسب، بل لأن اللبنانيين يعون ايضاً أبعاد المؤامرة التي يتعرضون لها.. انهم يرفضون بكل بساطة ان يتحول بلدهم مجدداً «ساحة» للآخرين يصفون فيها حساباتهم مع العالم.. اكثر من ذلك، هناك وعي على كل المستويات في لبنان لواقع يتمثل في ان رفيق الحريري لم يستشهد الا لانه خدم لبنان وجميع اللبنانيين من دون استثناء.. ولو بقي داخل طائفته او في سراديب السياسات الضيقة لكان حياً يرزق. اغتيل رفيق الحريري لانه صار زعيماً وطنياً ولبنانياً وعربياً حراً يرفض ان تكون إرادته مرتهنة لأحد، واغتيل لانه لم يعرف في حياته سوى النجاح.. إنها الكلمة السحرية التي تخيف أعداءه وتعمي قلوبهم. هناك بصيص أمل بأن لا عودة إلى الخلف في لبنان، أي لا عودة إلى العام 1975م، وبعض هذا البصيص مصدره ان رفيق الحريري استثمر في الانسان وليس في الحجر، وبين استثماراته في الانسان تعليم نحو 35 الف طالب في افضل جامعات العالم. هؤلاء الطلاب الذين ينتمون الى كل الطوائف والمذاهب والمناطق دليل على ان الرجل اقام جيشاً من المتعلمين الواعين لضرورة المحافظة على لبنان اولاً والحؤول دون بقائه في اسر سورية وغير سورية.. انهم بعض ضمير لبنان الذي يفترض ان يكون نموذجاً لمحيطه وليس مجرد مطية للآخرين.